تُضفي الأزمة السياسية التي عصفت بإيران عقب إعلان فوز الرئيس "أحمدي نجاد" في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الثاني عشر من يونيو الماضي، بسبب تشكيك كثيرين في شرعية هذا الفوز ونزاهة العملية الانتخابية، مزيدًا من التعقيد حول خيارات "أوباما" في المرحلة المقبلة بشأن التعامل مع النظام الإيراني الساعي لامتلاك تكنولوجيا نووية، قد يحولها النظام الإيراني لإنتاج أسلحة نووية عسكرية. ولهذا تنشغل الساحة السياسية الأمريكية بتقييم تصميم "أوباما" علي الحوار كآلية لإدارة العلاقات مع إيران، وتتساءل ما إذا كان سيتبني سياسات أخري، من قبيل الاحتواء، تتناسب مع الأوضاع الجديدة في إيران ما بعد انتخابات الرئاسة. وفي هذا الإطار، تبدو أهمية الدراسة التي نشرتها فصلية "واشنطن كوارتيرلي" Washington Quarterly، تحت عنوان "احتواء إيران: تجنب استراتيجية ثنائية الأبعاد في منطقة رباعية الأبعاد Containing Iran?: Avoiding a Two- Dimensional Strategy in a Four-Dimensional Region، للكاتبين: "داليا داسا كاي "Dalia Dassa Kaye، نائبة مدير مركز السياسة العامة للشرق الأوسط بمؤسسة راند، و"فريدريك ويهري "Frederic Wehrey المحلل السياسي بمؤسسة راند. يشير الكاتبان في بداية الدراسة إلي أن تصاعد النفوذ الإقليمي الإيراني كان أحد أبرز تداعيات الغزو الأمريكي للعراق، بشكل طرح تحديات استراتيجية جديدة أمام الولاياتالمتحدة وحلفائها الإقليميين. ورغم اتفاق الولاياتالمتحدة وحكومات دول منطقة الشرق الأوسط علي تشخيص النشاط الإيراني كأحد أكثر تداعيات الغزو إثارة للقلق، فإنهم يختلفون حول كيفية الاستجابة لهذا التحدي. تفترض الرؤية الأمريكية التقليدية، حسبما يشير الكاتبان، ضرورة بلورة إجماع عربي لتحييد واحتواء تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة؛ وتحديدًا في غزة ومنطقة الخليج العربي والعراق ولبنان، بما يشابه سياسة الاحتواء التي انتهجتها الولاياتالمتحدة ضد منافسها إبان الحرب الباردة، الاتحاد السوفيتي السابق. ولذا تتبني الولاياتالمتحدة سواء عن قصد أو غير قصد سياسة حيال إيران تمثل تكرارًا لسمات سياساتها خلال الحرب الباردة، وذلك بمحاولة بناء جبهة عربية سنية ''معتدلة'' لدعم الجهود المبذولة لاحتواء النفوذ الإيراني. وتؤكد الدراسة علي أن سياسة الاحتواء تحظي بدعم من أعضاء الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، في الكونجرس الأمريكي. وإذا رغبت إدارة "أوباما" تغيير سياساتها تجاه إيران القائمة علي الحوار في حال إخفاقها فإنها ستتبني سياسة الاحتواء. سياسة الاحتواء الأمريكية.. مصيرها الفشل تقوم سياسة الاحتواء، طبقًا للدراسة، علي إدراك متأصل لدي عدد من المسئولين والمحللين الأمريكيين مفاده: أن الإطاحة بنظام صدام حسين - الذي كان بمثابة الجناح الشرقي للعالم العربي - قد كشف الأحقاد الإيرانية تجاه المنطقة، ودفع الدول العربية للتعاون مع استراتيجية الولاياتالمتحدةالأمريكية القائمة علي احتواء طهران. لكن هذه النتيجة خاطئة، بل وقائمة علي قراءة خاطئة للسياسات العربية المحلية. فمن خلال عملهما في دول عربية عديدة مثل مصر ودول الخليج والأردن ولبنان، يقدم الكاتبان صورة مختلفة عن أسلوب تعاطي الدول العربية مع إيران. تُبدي الدول العربية قلقها من تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة لاسيما الأنشطة الإيرانية المزعومة في داخل تلك الدول. فالدول الخليجية، ذات الأقليات الشيعية وخاصة البحرين، تشعر بحساسية شديدة تجاه أي تدخل إيراني. أضف إلي ذلك الدعم الإيراني لحركة حماس خلال الأزمات مثل حرب غزة (2008-2009). لكن هذا القلق العربي، طبقًا للدراسة، لا يترجم بصورة تلقائية في سعي نحو تكوين جبهة موحدة ضد إيران، أو مباركة سياسة الاحتواء الأمريكية الإقليمية ضد إيران. بل إن الدول العربية حريصة، بدلاً من ذلك علي مزج سياسات المواجهة مع طهران بعناصر المصالحة والحوار والتكيف، تحسبًا لأي تقلبات مفاجئة في سياسة الولاياتالمتحدة تجاه إيران، مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بعلاقات اقتصادية وثقافية مع جارتها الشرقية. ويضاف إلي ذلك أن تهديد الولاياتالمتحدة بعمل عسكري ضد إيران يثير قلق كثيرٍ من الدول العربية بقدر التهديد النووي الإيراني المحتمل ذاته. ناهيك عن عدم توافر أدلة كافية علي وجود دعم واسع النطاق لفكرة تكوين جبهة عربية موازية لإيران، علي الرغم من الجهود المضنية التي تبذلها المملكة العربية السعودية في هذا الإطار. ورغم أن الولاياتالمتحدة تفضل، في تعاملها مع منطقة الشرق الأوسط، الاستناد إلي ثنائيات متقابلة (السنة مقابل الشيعة) و(الاعتدال مقابل الراديكالية) و(العرب ضد الفرس)، وذلك علي غرار نموذج الحرب الباردة، طبقًا لما أشار إليه الكاتبان، فإن اللعبة بالنسبة لحلفاء الولاياتالمتحدة من الدول العربية، كانت دائمًا أكثر تعقيدًا وذات أبعاد متعددة مثل (الحاكم ضد المجتمع)، و(دول الخليج ضد المشرق العربي) و(الهاشمية في مواجهة آل سعود)، وهكذا. وبالتالي يعتبر الكاتبان إسقاط نموذج الحرب الباردة علي أوضاع المنطقة "سياسة معيبة"، تُولد سياسات لا تتناقض فقط مع الحقائق الإقليمية لكنها تؤدي أيضًا إلي آثار سلبية من قبيل تعزيز "التطرف السني"، و"الإرهاب المدعوم من القاعدة" و"الحكم السلطوي" في المنطقة. إضافة إلي أن بعض القادة العرب قد استغلوا بمهارة انشغال واشنطن بالمواجهة مع إيران والحذر الذي أبدته تجاه انتشار الديمقراطية في المنطقة، لترسيخ حكمهم الاستبدادي. وفضلاً عمَّا سبق، فإن تبني صناع القرار الأمريكي لسياسة الاحتواء يمكن أن تنطوي علي مخاطر جمة قد تُمثل تهديدًا علي المدي الطويل لمصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة، من قبيل إهمال الإصلاح الداخلي وزيادة حدة التوتر الطائفي الناجم عن حرب باردة محتملة بين العرب وإيران، ما قد يوفر تربة خصبة لنمو "التطرف السني" و"الإرهاب المدعوم من القاعدة". منظور جديد للتعامل مع إيران وتأسيسًا علي ما سبق، يدعو الكاتبان لتبني منظور جديد لمرحلة ما بعد العراق. منظور يعترف بالتعقيدات المحلية ويوازن التحدي الإيراني بالأولويات الأخري للولايات المتحدة في المنطقة. غير أنهما يشددان علي أن إدارة "أوباما" ستواجه عديدًا من العوامل لا تقل خطورة عن عاملي السياسة الداخلية داخل إيرانوالولاياتالمتحدة التي ستقف في طريق قيامها بإدخال تحولات جذرية علي سياستها الشرق أوسطية. وبقطع النظر عن العقبات، يكمن المنظور الجديد، طبقًا للدراسة، في وضع هيكل جديد للأمن الإقليمي، لا يستهدف مواجهة إيران بصورة رئيسية، لكنه في الوقت ذاته يحافظ علي استمرار دعم وتعزيز قدرات الردع لدي حلفاء الولاياتالمتحدة الإقليميين. وفيما يتعلق بالعلاقات مع طهران، تشير الدراسة إلي ضرورة أن يبتعد النهج الدبلوماسي عن أي خطط لاحتواء إيران إقليميا، باستثناء استمرار الضغوط متعددة الأطراف حول القضية النووية، معتبرة الجهود الأولية لإدارة أوباما لإشراك إيران في المناقشات متعددة الأطراف بشأن أفغانستان تطورات مُرحَبٌ بها في هذا السياق. ويمكن للولايات المتحدة أن تذهب أبعد من ذلك، عن طريق الانخراط في محادثات ثنائية مباشرة مع إيران بشأن عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما فيها العراق وأفغانستان، بالإضافة إلي قضايا مثل التطرف السلفي والاتجار بالمخدرات، والإغاثة في حالات الكوارث الطبيعية، واللاجئين، وبناء الثقة في المجال البحري. ولجعل هذه الحوارات ممكنة، يقترح الكاتبان ضرورة تخلي الولاياتالمتحدة عن جميع القيود المفروضة علي اتصال المسئولين الأمريكيين بنظرائهم الإيرانيين. ونظرًا لتاريخ العداء بين الولاياتالمتحدةوإيران وارتفاع مستويات عدم الثقة بينهما، ستُواجه استراتيجية الانخراط الموسع بعض الصعوبات. وللحكم علي مدي نجاح أو فشل هذه الاستراتيجية علي النحو الصحيح، يجب أن يتم الانخراط بصورة جادة وشاملة، بحيث تتضمن إجراء اتصالات مباشرة بين دبلوماسيين إيرانيين وأمريكيين. وجنبًا إلي جنب مع جهود الحوار، ستكون الولاياتالمتحدة - حسبما يشير الكاتبان - في حاجة للاستمرار في جهود متعددة الأطراف مع الحلفاء الأوروبيين وروسيا والصين من خلال الأممالمتحدة لاستهداف التطورات النووية الإيرانية. وإذا لم يستجب النظام الإيراني للجهود الأمريكية للحوار بتعديل خطابه وسياساته في مجالين رئيسيين هما: أنشطة تخصيب اليورانيوم ورعاية الإرهاب بواسطة فاعلين من غير الدول، فإن الولاياتالمتحدة ستكون في موقع أقوي للحصول علي مزيد من الدعم الدولي لاتخاذ إجراءات أكثر تشددًا ضد طهران. مبادرات للأمن الإقليمي هذا النهج الجديد في التعامل مع إيران، طبقًا للدراسة، ينبغي أن يكون مصحوبًا بجهود دبلوماسية أمريكية من أجل ضمانات ومبادرات للأمن متعدد الأطراف لحلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة. ولا ينبغي أن تكون هذه المبادرات الإقليمية علي غرار منظمات الأمن الجماعي، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو)، والتي أُنشأت في الأساس لمواجهة تهديد محدد. وبدلاً من ذلك، يمكن أن تكون علي غرار مؤسسات مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أو المنتدي الإقليمي لتجمع دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهي مؤسسات تسهل من التعاون الإقليمي المبني علي أساس المصالح المشتركة وتسعي لاتخاذ إجراءات لبناء الثقة لتحسين الشفافية وتجنب أي صراع غير مقصود. مبادرات للأمن الإقليمي هذا النهج الجديد في التعامل مع إيران، طبقًا للدراسة، ينبغي أن يكون مصحوبًا بجهود دبلوماسية أمريكية من أجل ضمانات ومبادرات للأمن متعدد الأطراف لحلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة. ولا ينبغي أن تكون هذه المبادرات الإقليمية علي غرار منظمات الأمن الجماعي، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو)، والتي أُنشأت في الأساس لمواجهة تهديد محدد. وبدلاً من ذلك، يمكن أن تكون علي غرار مؤسسات مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أو المنتدي الإقليمي لتجمع دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهي مؤسسات تسهل من التعاون الإقليمي المبني علي أساس المصالح المشتركة وتسعي لاتخاذ إجراءات لبناء الثقة لتحسين الشفافية وتجنب أي صراع غير مقصود. ويمكن أن يشمل التعاون الأمني الإقليمي في الشرق الأوسط، طبقًا للكاتبين، مجالات عديدة مثل مكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات، ومراقبة الحدود، وتحسين الاستجابة للكوارث الإنسانية أو البيئية. وفي هذا الإطار فإن أزمة نزوح العراقيين وتداعياتها علي الاستقرار الطويل الأمد في العراق، وكذلك في كل من سوريا والأردن ينبغي أن تحصل علي مستوي عال من الاهتمام والموارد من الدول الرئيسة في المنطقة، وخاصة الدول الغنية في الخليج، بالإضافة للولايات المتحدة. وكذلك التعاون في مجال الأمن البحري مثل اتخاذ المبادرات لمواجهة الحوادث الإقليمية التي قد تحدث في البحر، ولاسيما في ضوء احتمالات التصعيد وسوء التقدير في ممرات مائية حرجة مثل مضيق هرمز.