إيران تكرس واقعاً إقليميا جديداً! هذه هي خلاصة المشهد ابتداء من إمساكها بأوراق قوية في العراق وخاصة في الجنوب إلي دعم سوريا بتصاعد غير متحفظ إلي تبني "حزب الله" في لبنان وتحدي كل خصومه وصولاً إلي إسناد "حماس" في فلسطين علي الضد من قوي دولية عديدة. وفوق ذلك كله ولأن الورقة العراقية هي أقوي أوراقها ضد الولاياتالمتحدة فإن إيران تتحدي المنظومة الغربية كلها بلا مواربة في ملفها النووي وتصر علي المضي في إنتاج الطاقة النووية ضاربة عملياً عرض الحائط بكل الضغوط الدولية. طهران تسعي إلي التقاط اللحظة المواتية حيث تبدو واشنطن ولندن وحتي تل أبيب عواصم حائرة تجاه الطموح الإيراني الذي يهدد بقلب المعادلة العراقية رأساً علي عقب في حال تطورت المواجهة إلي مسار مواجهة عنيف بما يفشل كل المشروع الامريكي ليس في العراق فحسب بل وفي المنطقة. والمفارقة المدهشة في عالم السياسة بالشرق الأوسط في السنوات الأخيرة وكما وردت علي لسان وزير الخارجية السعودي بصراحة غير معهودة في محاضرته الشهيرة في مجلس الشئون الخارجية في نيويورك في سبتمبر 2005 هي أن إيران هي التي حصدت نتائج الحرب الامريكية في العراق قوة ونفوذاً رغم أنها كانت ولا تزال العدو الأول للولايات المتحدة في المنطقة. اقتصادياً ونفطياً لا تعاني إيران من وضع منهك يمكن أن يقيد طموحاتها الإقليمية والدولية بل إن وراداتها من ارتفاع أسعار النفط تعزز من ذلك الطموح إضافة إلي أن كونها لاعباً أساسياً في سوق النفط العالمي ذاتها بما يمنحها ورقة مساومة وضغط للتأثير في أسعار الطاقة بل وإحداث أضرار لا يستهان بها في الاقتصاديات الغربية إن قررت الانخراط في لعبة رفع الأسعار إلي الأمدية القصوي. شعبياً وإسلامياً وسواء رضينا أم سخطنا فإن خطاب إيران الشعبوي والراديكالي الذي يأتي علي خلفية تعزز مشاعر العداء للسياسة الامريكيةوالغربية في المنطقة، يعتبره كثيرون رداً قوياً علي غطرسة واشنطنوعواصم الغرب. والرأي العام العربي والإسلامي لا ينصت كثيراً -وغالباً بسبب تراكم اليأس والغضب في أوساطه- للصوت الذي يقول إن الخطابات المتطرفة التي شهدتها المنطقة لم تقد إلا إلي كوارث ماحقة. فطالما أن مشاعر السخط قائمة ومسيطرة علي المزاج العام فإن أي خطاب شعبوي سوف يلقي رضي الغالبية. غير أن الصعود الإقليمي لإيران لا يقلق الولاياتالمتحدة وإسرائيل فحسب بل يزعج الدول العربية أيضاً وهنا بيت القصيد. فإيران بالنسبة للعرب ليست دولة عادية وتطلعاتها وطموحاتها يراها كثيرون مخترقة للحدود العربية وتخاطب شرائح من المجتمعات والطوائف العربية علي غير رضا من أنظمتها. وهناك ملفات ما تزال قائمة ولابد من الانتهاء منها بين إيران والدول العربية وخاصة دول الخليج وعلي رأسها مسألة الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران وطمأنة دول مجلس التعاون إزاء طموحات إيران العسكرية والاستراتيجية. وفي المقابل تحتاج الدول العربية لأن تبتعد بسياساتها الإقليمية تجاه إيران عن الانزلاق في كنف السياسات الغربية وخاصة الامريكية. فمصالح البلدان العربية وشعوبها لها منطق مختلف تماماً عن منطق المصلحة الغربيةوالامريكية في المنطقة. وعوضاً عن التهرب من مواجهة الأمر الملح حول صوغ علاقة صحية مع إيران فإنه من الواجب عربياً وخليجياً فتح هذا الملف علي المستوي الثنائي بين الدول العربية وإيران وعلي مستوي جماعي. وربما من أفضل ما رشح مؤخراً من أخبار في هذا السياق هو بعض تصريحات المسؤولين السعوديين بأن هناك محادثات صريحة مع الإيرانيين حول ملفات كثيرة وهو أمر مطلوب علي نطاق أوسع خليجياً وعربياً. علي مستوي الأمن الإقليمي والخليجي لا يمكن صوغ أمن جماعي إقليمي أو خليجي فعال من دون أن تكون إيران منخرطة فيه. وعلي العرب أن يتصرفوا بواقعية وبراغماتية مع إيران بدءا من طرح الشكوك المتبادلة علي الطاولة وصولا إلي اتفاقات واضحة تعقلن التنافس وتضع له إطاراً غير تصادمي. التفاوض والتفاهم مع إيران حول مسائل الأمن الإقليمي أكثر إلحاحاً من اجتراح مشاريع ومقترحات "طوباوية" حول التعاون مع حلف "الناتو" أو إنشاء مظلة أمنية تُستثني منها دولة جارة. وفي المستقبل المنظور سيطرح هذا الأمر بشكل ملح أكثر من ذي قبل. فطموح إيران وسياستها الإقليمية الجديدة قد تقود إلي اصطدام بسياسات عربية هنا وهناك سواء دبلوماسية أم أمنية أم حتي نفطية. وستكون هناك تحركات دولية واسعة النطاق لمحاصرة إيران وتحجيم دورها. وبالتأكيد سيلقي ذلك رضا ضمنياً من أطراف عربية عديدة. وربما يمكن القول إن موافقة كثير من الأطراف العربية علي السياسة والحرب الامريكية ضد العراق لم تحمل لها مخاطر كبيرة كما يمكن أن تحملها سياسة عدائية مناظرة ضد إيران. فمن المفيد التذكير بأن القيادة السياسية والروحية الإيرانية تعتقد بأنها المرجعية الطبيعية لشيعة المنطقة برمتهم بمن فيهم الشيعة العرب رغم رفض كثير من هؤلاء لمنطق المرجعية السياسية الإيرانية (بخلاف الروحية). وهذه المرجعية المفترضة العابرة للحدود السياسية تقلق البلدان العربية ومن حقها أن تفعل ذلك وتعمق من الشكوك بين الأنظمة الحاكمة تحديداً والأقليات الشيعية الموجودة في هذه البلدان. ولئن هدأت بعض الشكوك خلال النصف الثاني لحقبة حكم رفسنجاني وحقبة حكم خاتمي إزاء التدخلات الإيرانية المحتملة في شئون الشيعة العرب إلا أن حرب أمريكا في العراق والدور الإيراني في الجنوب وصعود نجاد للحكم قد أعاد تلك الشكوك إلي المربع الأول خاصة علي إيقاع عودة خطاب "تصدير الثورة". وعلي كل حال، فإن ما سبق لا يعدو كونه إشارات حول ملف معقد، يتداخل فيه الديني والسياسي والأمني والدولي والإقليمي لكنه ملف يجب أن يفتح ويناقش لمصلحة الجميع وقبل فوات الأوان.