"زمان وأنا صغير كنت بحلم أبقى كبير تعب القلب واتحير م الدنيا وم المشاوير".. من أجمل ما غنى هشام عباس في فترة التمانينات – اللي اتولدت فيها - هذه الفترة الحالمة المرحة من الزمن والتي لن تتكرر، والتي تستطيع أن تطلق عليها "زمن الأوفر الحلو" إذا ما اخترنا لها مصطلحًا خاصًا ك"زمن الفن الجميل"، وعلى الرغم من بساطة الأغنية ورهافة اللحن فإنك بمجرد سماعها فهي لا تغازل لا وعيك فحسب، ولكنها أيضًا تضرب دواخلك وعمقك بعنف فتخرج منه أجمل ما فيه، جميع ذكرياتك ولحظات طفولتك وأمنياتك وأحلامك وشجونك أيضًا. حالة نوستاليجيا عميقة "ضربتني في مقتل"، بدأت بمشوار عند دكتور بابا.. كان المفروض عندنا ميعاد مع الدكتور بس لاقيناه إجازة مش عارفة ده كان لسوء حظ بابا ولا لحسن حظي، انتهزتها فرصة على الفور، وجاء عرضي كالتالى: "بابا عايزة أتفسح معاك شوية بقالي كتير ماخرجتش معاك"، ذهبنا لتناول الآيس كريم وبالأخص من محل كان دايمًا بابا بياخدنا عنده وإحنا صغيرين، نزلنا أنا وهو جبنا اتنين. "الآيس كريم غلي ومبقاش حلو خالص زي الأول"، قلتها محاولة استرجاع لحظات طفولية ماضية لن تعوض مع أبي الحبيب، علني أقتنص لحظة بعيدة كالقمر منذ زمن فات، وأنجح في الارتكان بجانبها، ولو للحظات قليلة، وخصوصا أنه خيرني بين أكثر من مكان ، إلا أن إصراري كان على اختيار مكان بعينه كنت أظن أن صروف الدنيا لم تطبع عليه هو الآخر، حتى الآيس كريم طعمه مبقاش حلو زي الأول، بابا قالي كنا بنجيبوا نقعد على الكورنيش حتى الكورنيش "سوروه" و"قفلوه"، وكان ردي ساخرًا سخرية حزينة: الاستهلاكية طغت والعالم خلاص بقى بتخنقه "المادة".. هذه الكلمة طالما ظلت عالقة بذهني كأنها لمست شيئًا ما بداخلي رافضًا ومبغضًا لها كلمة "المادة"، والتي ذُكرت في فيلم "حبيبى دائمًا" على لسان الشخصية التي كانت تقوم بدورها الفنانة ماجدة الخطيب، حينما ألقت قصيدة بعنوان "المربع الضيق" وكانت تقول: "لن أسقط في عالم تخنقه الماااادة" مشهد لا ينسى ودائمًا ما تتشبث به أذناي. فصل أول من حالة نوستالجيا عميقة شعرت بها فى أقل من 3 ساعات. واستكمالًا للحالة.. أخذتنا أقدامنا لمنزل ابن عمي الذي أصبح لديه الآن ولد وبنت.. كل سلمة طلعتها في العمارة اللي فيها شقة عمي، وهو سكن فيها بعده فكرتني بعمي اللي ماعداش على وفاته كتير.. ابن عمي المرفه - دلوعة مامته - بقى بيشتكي من الحال والأحوال.. مفيش حاجة بتفضل على حالها. النوستالجيا تضرب بعمق من جديد.. 3 ساعات جعلتني أشعر بحنين غريب لكل شيء تعلق بذاكرتي في الطفولة، الأشخاص الأشياء الأماكن، ابن عمي - اللي كان لسه طفل - كبر وبقى عنده ولد وبنت وأخواته اللي هجروا البيت ليس هجرًا مقصودًا بالطبع، ولكنها سنة الحياة فأصبح لكل منهما منزل وأبناء أيضًا، أعياد الميلاد التي كان تبهج كل ركن في منزلهم.. جزء صغير من شريط حياة اختزنته ذاكرة الطفولة انتزعتني من لحظة آنية للحظة ماضية امتزجتا سويًا فخلفتا شجنًا كاد يسكب دمعًا. في هذه اللقطات السريعة حدث بداخلي مقارنة تلقائية لم أشعر بها سوى بشيء واحد فقط: "خوف من اللي جاي.. لحظة قلت فيها ياريتني فضلت صغيرة". الأمر بات واقعًا وحقيقة لا تخفى على أحد، فأغلبنا اليوم أصبح يرى بعضه بالصدفة داخل البيت الواحد، وأصبح تجمع أفراد العائلة الواحدة حدثًا عارضًا، وأصبحنا نقابل أبناء عمومتنا وأقاربنا صدفة في الشارع والمواصلات. ماما أيضًا كانت بمثابة المعلم الأول، فهي دائمًا الموجه المباشر والقائد، هي التي تشكل وعينا ارتضينا أم لم نرتضِ، شعرت أيضًا بحنين لأيامنا التي عكر صفوها الانهماك في العمل و"المااادة" – مفيش فايدة في عفريت ماجدة الخطيب – أمي كدأب أمهات اليوم امرأة عاملة، و"اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لأمها"، أصبحت أنا الآن أيضًا "ميني" امرأة عاملة، ودون أن نشعر جرفنا العمل ورتم الحياة السريع، السريع جدًا بعيدًا عن لحظات الهناء والصفو القديمة، حينما كنا نذهب أيضًا لتناول الآيس كريم – يمكن عشان كده بحب الآيس كريم جدًا دلوقتي - كل ده كان بيحصل بعد لفة كبيرة أوي وجميلة أوي في وسط البلد، تكون قد انتقت لي فيها أجمل وأشيك الثياب، وهو ما أصبحت أقوم أنا به الآن سواء بمفردي أو مع شقيقتيّ أو الأصدقاء.. الحنين القاتل ليس هينًا.. الاشتياق لهذه اللحطات الأثيرية المفقودة الآن لا يمر بنا مرور الكرام.. لم يعد الحال كما كان ذي قبل ليس لشيء ولكنها طبيعة الحياة، وحينما تضربني الذكريات في عمقي أعود لأقول ياريتني فضلت صغيرة. الطفولة لا تعني شيئًا دون الأب والأم وذكرياتك معهما، لذلك كان الحديث بالتحديد عنهما وعن لحظات سعيدة قضيتها معهما والتي لا تُحصى، بالطبع حياة كبيرة مليئة بالمواقف والفرح والاحتواء والأمان ولا تخلو أيضًا من الشجن اختزالًا لهذه الفترة، لتبقى بقية الأشياء والأشخاص والأماكن تفاصيل تغذي الحكاية أو الحدوتة القديمة، لأنك حينها لم تكن ترى غيرهما حتى ذاتك وأنت لم تكن تراها، هي الفترة اللي كان شعورنا بهما أشبه بالطيور ننتظر من يطعمها في أفواهها، ولم نكن نأبه فيها لشيء، وهو ما نفتقده اليوم على الرغم من وجودهما بجانبنا، الإحساس اللي خلى هشام عباس يقول "ولقيت الكون كله بيتغير قلت ياريتني فضلت صغير".