اختارت الكاتبة زينب عفيفي في هذه القصص زاوية رؤية وهي محاولة استرجاع بعض مشاهد الماضي وخاصة في فترة الطفولة من خلال راوية حاضرة أحيانا وغائبة أحيانا أخري . ومن ثم يتولد الإحساس بالدراما عند المقابلة بين حدثين أو شخصيتين أو لحظتين ؛بين لحظة ماضوية عميقة متجذرة في اللا وعي ولحظه آنية حاضرة بكل مقوماتها . يتبلور هذا المفهوم بداية بالإهداء الذي اختارته الكاتبة :إلي الطفلة التي كانت وكأنها تود أن توجه نظرنا إلي رغبتها في العودة الي الماضي والحنين إلي رحم الطفولة وكما استشهدت الكاتبة بما قاله "ساراماجو" : هناك من يعتقد أن السنوات الاولي من حياتنا سنوات البراءة . هي فترة نعيشها وننساها . وأنا أعتقد عكس ذلك تماما .فالحفر في الذاكرة في السنوات الاولي لا يمكن أن يمحي في قصة "رائحة الطعمية " تستحضر الكاتبة صورة حديثة للحي العتيق المزدحم بالناس والباعة الجائلين والمحال الصغيرة . صور قديمة تحمل تعرجات كتعرجات السنين . وكما جاء في القصة علي لسان الراوية : "كنا صغارا تبدو البيوت في عيوننا شاهقة الارتفاع والدكاكين الصغيرة واسعة ورحبة . نلهو ونجري ونلعب ونشتري كل ما نريد من حلوي وألوان وكراريس وأقلام رصاص . لكن دكان "ظريفة " كان له وجه مختلف . تتراص أمامه طوابير الرجال والنساء والأطفال كل صباح حاملين الأطباق الفارغة في انتظار الفول الطازج والطعمية الساخنة . وفي قصة "خمس دقائق "وهي الفترة الزمنية التي تأخر فيها الحفيد وهي تبحث عنه ؛ طوفان من الذكريات تتزاحم وتتراقص في ذاكرة الراوية الجدة لتعود بها إلي زمن الطفولة والبيانولا . من مدينة الاطفال إلي بيانولا عم محروس التي تدار بالمانفيلا وتنتقل إلي مرحلة المراهقة وما كان يدور بين أبيها وأمها . انها لعبة الذاكرة . والسؤال: هل تعتبر هذه القصص مقاطع سيرة ذاتية مختارة من حياة الكاتبة ؟ أري أن معظم الإبداع يمنح من معين السيرة الذاتية بشكل أو بآخر وبالفعل هي محاولة استعادة الماضي بما فيه من أفكار وأحداث وشخصيات موجودة في اللا شعور . وهي محاولة كسر قشرة الأسرار في الطفولة فتأتي في واقع راهن في مشاهد ملونة . في قصة "القناع" ومن خلال الراوية الحاضرة التي تشارك في الحدث. تقول : " اقتربت من أم الطفل التائه. حاولت طمأنتها دون جدوي . فقد كانت تشبه إلي حد كبير أمي في لحظة جنونها وعندما جاءت تشكرني لم أكن أحتاج منها إلي كلمات شكر أو امتنان بل أحتاج فقط إلي حضن أمي؛ ووجه أمي ولمسة أمي علي خدي حبا وحنانا وافتقادا .ألا يذكرنا ذلك بقصيدة الراحل الرائع محمود درويش : أحن إلي خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر فيّ الطفولة يوما علي صدر يوم وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي تبقي القصة القصيرة بحكم طبيعتها رومانتكية وفردية ومتأبية وهذا ما تحقق في معظم القصص . إن الفعل كله يتركز في لحظه واحدة .وقد حاولت الكاتبة أن تجعل هذا التفرد النفسي موضوعيا وقد تبلور ذلك في قصة "السلالم الصغيرة تصعد إلي أعلي أيضا " نحن أمام شخصيات ثلاث . أم عفاف . عفاف . السيدة الغنية العجوز. كما أن العلاقة بين أم عفاف الخادمة والسيدة العجوز هي علاقة خضوع وتنفيذ أوامر . هذه هي النظرة الاستعلائية من العجوز إلي أم عفاف وابنتها . لكن الابنة عفاف ترفض هذا الوضع كما ترفض الخدمة في البيوت وتتمرد عليها . وتنتهي القصة بأن تصبح عفاف دكتورة وتقوم الخادمة بعمل الشاي لها. وتلجا الكاتبة إلي تقنية فنية تتمثل في المقارنة أو المقابلة وقد حدث ذلك بشكل واضح في قصتي واحد+ واحد = واحد وقصة الكعب المكسور في قصة واحد+ واحد = واحد الراوية الغائبة العليمة تقول : "تتأمل بائع الايس كريم " المودرن " المهندم وهو يرتدي قميصا أبيض و "ببيون " أحمر وبنطلونا أسود رالخر أين أنت ياعم (حسين) بالكاساته اللذيذة والجرانيته المثلجة التي كانت تخفي معالم الحر من الحلوق؛ زرعت مكانها مرارة في زمن غلا فيه كل شيء إلا الانسان ! هذه المقابلة بين زمن الطفولة والزمن الحاضر للراوية تظهر أيضا في قصة الكعب المكسور . وجدت نفسها تجلس أمام " باتريك " الإسكافي الانجليزي ترتعش من شدة البرد بملابسها المبتلة وشعرها المزعور يرتجف فوق كتفها ...الخ.. سرحت دكتورة ندي بخيالها عبر حكي " باتريك " إلي هناك ؛ تحت بئر السلم حيث كان يقطن عم (عاشور الجزمجي) المقارنة واضحة بين عم عاشور الذي كان يعيش زمن الدفء وباتريك الماثل في اللحظة الحاضرة جاء السرد تلقائيا ومتدفقا والحوار فصيحا مكثفا القصص بعيدة عن كل ما هو غريزي ومادي فالذاكرة هنا تجاهد من أجل الوصول إلي لحظة النقاء مما يضفي عليها نوعا من الصوفية أو محاولة الوصول إلي درجة من درجات الصفاء إنها قصص تعصر القلب وتغسل الروح .