للكاتبة الصحفية زينب عفيفي، صدرت مؤخرا المجموعة القصصية: «خمس دقائق»، التي حملت، رغم قلة عدد صفحاتها – 112 صفحة من القطع المتوسط - زخمًا كبيرًا من الكتابة التي تستدعي لحظات الطفولة وتصوراتها الساذجة والعميقة، من خلال قصص تميزت بلغة شفيفة، متماسكة. ويكاد يكون الحنين إلى الطفولة هو المحرِّك الأساسي لقصص المجموعة - 19 قصة قصيرة؛ فأبطالها دائمًا يعودون إلى ماضيهم البعيد، يستحضرون تفاصيله البريئة، ولحظاته المبهجة؛ ليتغلَّبوا على حاضرهم المُحبِط، وواقعهم القاسي. وبحسب كلمة الناشر "المصرية اللبنانية" فبأسلوبها السهل، البسيط، الذي يَستمدُّ من أجواء قصصها الطفولية البراءةَ، تنتقل بنا الكاتبة زينب عفيفي من لقطةٍ بريئةٍ إلى أخرى، حيث تساهم كل لقطة منها في إكمال الصورة المبهجة، التي التقطتها يد الزمن، بعدسة الخيال، لتتجسَّد على بياض الورق بنعومة. وقد بدأت الكاتبة مجموعتها القصصية بإهداء أشبه بالمفتتح أو المنهج الذي ستسير وفقًا له في قصصها؛ إذ قالت في إهدائها: «إلى الطفلة التي كانت...»، ثم وقعت باسمها الأول، وثنَّت بمفتتح آخر، قالت فيه: «حكاياتنا التي لم ننشرها، هي بعض منَّا، إن لم تكن نحن»، ووقعت باسمها الثنائي، وبهذين المدخلين، أخذت الكاتبة قارئها معها في رحلة شجية إلى عالم الطفولة البريء، حيث تعيش شخصيات قصصها في واقع صلد، تجبر قسوته على استدعاء لحظات البهجة البريئة، وسني الطفولة الناعمة. «اللحظات المسروقة من الزمن في حضن الذاكرة صور أبيض في أسود»، بهذه العبارة تفتتح الكاتبة قصتها الأولى: «رائحة الطعمية»، التي تجترُّ فيها بطلتها صورًا قديمة «تحمل تعرُّجات كتعرجات السنين، وتحمل بين جنباتها أسرارًا، ووجوهًا غابت عن الوجود، عين الذاكرة ترى جزءًا، وتخفي آخر، فتبدو الصور كسرابٍ في صحراء قاحلة»، كل هذا تستدعيه الذاكرة حين ترى البطلة «ظريفة» التي تبدو كما لو كانت في الخمسين من العمر، رغم أنها لم تتجاوز الثلاثين، وبسرعة تعود إلى الماضي؛ لتستدعي لحظات لم تعد موجودة، بعد أن ترك الزمن آثار يده القاسية على الوجوه والأرواح: «هكذا رسم الشقاء ملامحه بكل تفاصيله على الوجه البعيد الذي تتذكَّره طفلة العاشرة بصعوبةٍ بالغةٍ، تقف في دُكَّانها الضيق المخنوق برائحة الزيت المقدوح من كثرة قلي الطعميَّة دون أنْ تبذل عناء تغييره، تلقي بالفول المدشوش مع البصل وعيدان الكُرَّات الأخضر والكُسبرة الجافة والملح داخل الجرن العميق..». أما في قصة «الإرث»، فالكتابة تنحو منحًى فلسفيًّا؛ إذ تكتشف البطلة/ الطفلة فجأة أن جدَّها كفيف، رغم أن له عينين مفتوحتين، ويصبح الأمر أكبر من استيعاب طفلة لا تُدرك الفرق بين البصر والبصيرة، فتقترب منه لتتأكد بنفسها: «ضبطتني أمِّي متلبسة أنظر إلى عينيه المفتوحتين عن قربٍ شديدٍ، كان يشعر بأنفاسي المتلاحقة بجوار أنفه ولم يتحرَّك له ساكن، وإذا بأمِّي تجذبني من أطراف قميصي القطني للخلف، فيبادرها جدي: اتركيها ترَ عينيَّ وتتأكد أنني أراها»، وعندما تكبر هذه الطفلة، تعيش التجربة بكل تفاصيلها مرة أخرى، مع اختلاف مؤلم، أنها هي هذه المرة التي تلعب دور الكفيف: «وحين غزا الشيب مفرقي وبدأ الضوء يتضاءل أمام عينيَّ، وتختفي الألوان رويدًا رويدًا، حتى تبدَّلت واختُزلت في اللون الأبيض، صرت أرى أشياء جميلة لم أكن أراها من قبل، واستطعت أن أعيش تجربة جدِّي وأمي، دون أن أفتح عينيَّ وأغلقهما في حركات متتالية، بلا ملل أو هلع، ويقترب حفيدي منِّي، يتحسَّس وجهي، ويضع يديه الصغيرتين أمام عينيَّ، يحاول أن يتحقَّق من أنني أراه، فتجذبه ابنتي بعيدًا عنِّي، وأنا أقول لها بعبق تاريخ يعرف كيف يترك رائحته في دواخلنا بانسيابية: اتركيه يُدرك أنني أراه»! وبهذه البراءة، وذلك العمق، وتلك النظرة الفلسفية التي تظهر وتتوارى بانتظام شبه ممنهج، تتوالى قصص المجموعة: السلالم الصغيرة تصعد لأعلى أيضًا، اختناق، القناع، عالم لا يفهمه أحد سواها، واحد + واحد = واحد، الكعب المكسور، الأحلام الكاذبة، الصفقة، عروسة ورق، أنا وظلِّي، القلم المقصوف، نصفي الآخر، مكتوب، سيد الحلم، شجرة الخوخ، هواجس.. وكذلك قصة «خمس دقائق» التي استعارت المجموعة منها اسمها، والتي حملت الرقم أربعة من حيث الترتيب، وفيها تقول الكاتبة على لسان الجدة التي تنتظر حفيدها وسط دوامات التذكر: «يزداد التصفيق ويتوافد الصغار من كل حدب وصوب يلتفون حولي وأنا أدور حول نفسي وأرقص، والصور تتوالى، وصوت أبي يحذِّر أمي من خروجي للعمل، وأمي تؤكد له أن زواج البنات سُترة، وتزداد الموسيقى الصاخبة... البنات الصغيرات يرقصن كفراشات ملونة... وأنا في انتظار الحفيد الذي تأخَّر عن موعده خمس دقائق فقط». زينب عفيفي.. كاتبة صحفية، مدير تحرير «أخبار اليوم». خريجة كلية الإعلام، جامعة القاهرة.. تشرف على صفحة «أخبار الكتب وحكايات الأدب» التي تصدر أسبوعيًّا على صفحات جريدة «أخبار اليوم».. عضو اتحاد الكتاب. صدر لها عدد من الكتب في الثقافة والإبداع سواء في مجال الرواية أو القصة القصيرة، وترجمت بعض أعمالها إلى اللغة الإنجليزية عن دار نشر أسترالية، ولها العديد من المقالات الأسبوعية في الأدب والثقافة. http://10.1.1.91/portal