لم أكره في حياتي عبارةً مثل تلك التي جائت علي لسان "الباشا" في فيلم "غزل البنات" لعبقري الكوميديا الدائم "نجيب الريحاني":"مرزوق أفندي.........إديلُه حاجة". تذكرت تلك العبارة في الأيام القليلة الماضية كلما قرأت تعليقاً لبعض السياسيين من ضرورة "التبرع" للفقراء و "الإحسان" إليهم و "الإبتهال" إلي الله لأجل التخفيف عنهم في هذا الصقيع، فوصل أقصي ما قاموا به -و هو لا شك جهدٌ مشكورٌ علي المستوي الإنساني- إلي تجهيز حملات لتوزيع البطاطين علي فقراء مصر في ممارسةٍ حديثة لطلب "الباشا" من "مرزوق أفندي" و كأن سبعين عاماً من النضال السياسي الإجتماعي لم تُغير من حالنا شيئاً بل ربما إزداد سوءاً علي سوء. عندما قامت ثورة يوليو 1952 كان لدي قادتها مشروع سياسي وطني و إنحياز إجتماعي واضح نَتَجَ عنه تغيير جوهري في تركيبة المجتمع المصري الطبقية حالت دون تطويره و تنميته عوامل متعددة ليس هذا مقام مناقشتها. و مرت تحت الجسر مياهٌ كثيرة وصل المجتمع المصري فيها -قبل يناير 2011- إلي ما يشبه الحال أيام "الباشا" الذي تملك وسائل الإنتاج بل و تملك الماء و الهواء أيضاً ليمنح و يمنع حسب هواه وحده و زاد الأمر عن أيام "الباشا" بغيابٍ شبه كامل لأي ممارسة ديمقراطية. ثم كانت شعارات يناير 2011 التي لخصت معاناة السنين في 6 كلمات عبقرية: "عيش..حرية..عدالة إجتماعية..كرامة إنسانية" التي صاغها -بإقتدارٍ واعٍ- صديقنا "سامر سليمان" الذي تحل هذه الأيام ذكري رحيله الأولي عن عالمنا. و لا شك عندي أن هناك إرتباطٌ وثيقٌ بين العيش و العدالة الإجتماعية و الكرامة الإنسانية من ناحية و الحرية و الديمقراطية من ناحية أخري. الديمقراطية و العدالة الإجتماعية يتكاملان و لا يتقاطعان و هما وجهان لعملة واحدة لا تستطيع فصل إحداهما عن الأخري، فالديمقراطية لا تزدهر إلا في ظل العدالة الإجتماعية و العدالة الإجتماعية هي الضامن للديمقراطية. إن العدالة الإجتماعية من تقريب الفوارق بين طبقات المجتمع و محاربة الفقر و توفير حياة كريمة هي دعامة الممارسة السياسية و هي ضمانةُ ترسيخ النظام الديمقراطي. و لا يمكن للعدالة الإجتماعية أن تنشأ فتترسخ في ظل نظام ديكتاتوري قمعي غاشم و سلطوي يحتكر العملية السياسية أو يصادرها لصالح مجموعة بعينها مُركزاً للسلطات جميعها بين يديه ، لكنها تنمو و تزدهر من خلال المشاركة المجتمعية الحقيقية في العملية السياسية بدءاً من الحق في إنشاء النقابات و الروابط و الأحزاب السياسية و الحق في الإنتخاب و الترشح لمجلس الشعب و المحليات و المناصب العامة التي نص الدستور المصري عليها دونما تمييزٍ. هذه هي العدالة الإجتماعية كما أفهمها و تلك هي الديمقراطية كما أعرفها. أحبطت الممارسات السياسية الفاشلة خلال الثلاث سنوات الماضية الكثيرين و أعاقت مسيرتنا للمستقبل كما حلمنا بها، فكان أن لهث السياسيون المحترمون وراء الأحداث المتلاحقة سعياً لتصويب أخطاء ما بعد فبراير 2011 في الوقت الذي كانت فيه قوي الفساد من ناحية و قوي الرجعية و التخلف و الجهل من ناحية أخري تسعيان بشراسة للحيلولة دون وضع الشعار النبيل موضع التطبيق إلي أن جاء 30 يونيو 2013 لمحاولة تصحيح المسار. أعلم أن الطريق مازال طويلاً بعد سنوات التجريف و التجهيل و الضياع لكن............دعونا نبدأ. و أنا في هذا الإطار لا ألوم علي أحدٍ جهده الإنساني المشكور لمساعدة الفقراء بترتيب حملات البطاطين أو المساعدات المالية أو حتي القوافل الطبية لكني ألوم عليهم الإكتفاء بهذا و إستمراءه و إعتبار أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. ألوم عليهم أنهم لم يبادروا بطرح برامج للقضاء علي الفقر المتلازم -في ثالوثٍ غير مقدسٍ- مع"الجهل" و "المرض" و تمكين الفئات الفقيرة و دمجها في خطة تنمية حقيقية من خلال العمل الجاد لا بالتبرع و الإحسان ثم الدعاء بتخفيف الألم فالله لن يغير ما بكم إلا إن رغبتم أنتم في التغيير و بدأتم بأنفسكم. يا ساسة مصر الكرام، إن أردتم خدمة هذا البلد و أهله حقاً فلتهجروا شعار "الباشا": "مرزوق أفندي.....إديلُه حاجة" و لتنظروا في كيفية تحقيق العدالة الإجتماعية من أجل القضاء علي الفقر قضاءاً مبرماً.