بمناسبة احتفال مؤسسة روزاليوسف بالذكري العشرين علي رحيل الأستاذ إحسان عبد القدوس، صدر لي اليوم كتابا تذكاريا عنه، في سلسلة "الكتاب الذهبي" التي تصدر عن المؤسسة، ننشر لقراء "روزاليوسف" مقدمته. بعد عشرين عاما علي رحيل "صانع الحب" إحسان عبد القدوس، غابت الشمس ولم يظهر القمر، وانشغل "كيوبيد" بفواتير محلات "البيتزا" تاركا سيفه السحري يعلوه الصدأ، وتجمدت كلمات الحب علي شفاه العشاق، وسادت لغة المصالح المادية وهجاء الأزمات، لهذا تشتد حاجتنا إلي إحسان وكتاباته، فهو كما وصفه الأديب الكبير يحيي حقي "الكاهن الأكبر في معبد للحب" الذي يجلس في صدارة مجلس العشاق ليصعد إليه بريد القلوب من كل حدب وصوب، بعد أن تحول الحب في حياته ومؤلفاته إلي قضية ورسالة تطمح لتحرير روح الإنسان من دون أن تخجل من جسده، حيث يبدو الإنسان في روايات إحسان كائنا لا تنفصل فيه صوفية الروح عن غرائز الجسد، وعلي كل طرف منهما أن يسمو بالطرف الآخر، والأمر نفسه ينطبق علي المرأة والرجل معا، بل وينطبق علي الوطن أيضا، حيث كان يؤمن إحسان أن الوطن ليس أرضا نعيش عليها وفقط، كما أنه ليس قوما نعرفهم ونعيش بينهم، بل الوطن هو "علاقة الانتماء التي تربط هذا الإنسان بتلك الأرض"، وهي علاقة تجعل كل عاشق لوطنه مستعداً للتضحية بعمره في سبيل كرامة وحرية هذه الأرض بالذات، ولذلك فإن "صانع الحب" الذي بدأ حياته الأدبية بمجموعة قصصية تحمل هذا الاسم، وتلاها بأخري تحمل اسم "بائع الحب"، لم يكن بعيدا عن السياسة بمعناها المباشر، وبلغت جرأته أنه في عام 1942 م وكان لايزال شابا يافعا لم يكمل عامه الرابع والعشرين، كتب مقالا بعنوان "هذا الرجل يجب أن يرحل"، طالب فيه بخروج المندوب السامي للاستعمار البريطاني اللورد كيلرن من مصر، وأظهر وعيا قوميا ناضجا في مختلف القضايا حتي أنه في عام 1945م حذر من بذور النكبة التي حدثت بعد ذلك بسنوات، وكتب مقاله الشهير "يا عرب تضيع الآن فلسطين"، وعندما حلت النكبة في عام 1948م بدأ حملة جريئة من خلال عدة مقالات كشف فيها ما عرف بعد ذلك باسم "فضيحة الأسلحة الفاسدة"، والتي كاد أن يدفع حياته ثمنا لها، بعدما حاول شخص مجهول اغتياله بطعنة خنجر أمام عمارة "الإيموبيليا" وسط القاهرة، وبعد ثورة 23 يوليو 1952 استمر في نقده الجريء لمظاهر الفساد في أي مجال، وبالرغم من صداقته لعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر، إلا أن إحسان دفع ثمن شجاعته ودخل المعتقل بعد أن كتب مقالا ذاع صيته في كل مكان بعنوان "الجمعية السرية التي تحكم مصر". هكذا كان إحسان عبد القدوس مناضلا من أجل الحب والحرية، ومدركا أنهما ضرورة للإنسان وللوطن أيضا، إذا لا يمكن تصور إنسان حر في وطن محتل، ولايمكن تصور وطن حر، وسكانه مجرد جماعات من العبيد المقيدين بسلاسل التخلف والرجعية، أو الغارقين في مستنقعات الجهل والحقد والكراهية، وبهذه الروح المنطلقة خاض إحسان معركته من أجل التحرر والمحبة وفهم الإنسان لذاته وللمحيط الذي يعيش فيه أيضا، وقد استخدم الأدب والصحافة، وكل فنون الكتابة ليؤكد علي رسالته التي تلقفتها السينما والإذاعة، حتي أن السينما قدمت له 50 معالجة فنية من بين 57 كتابا قدمها للمكتبة العربية بين رواية ومجموعة قصصية. والمؤسف أن إحسان تعرض في حياته وبعد مماته لحملة تجريح وتضليل حاولت وصفه بالدعوة للانحلال الأخلاقي، ووصفت أدبه بأنه "أدب مكشوف"، وأطلق عليه البعض أحيانا لقب "أديب الفراش"، ولم يروا كتاباته إلا باعتبارها استثمارا متكررا لموضوعات العلاقة العاطفية والجنسية بين الرجل والمرأة. وللأسف فقد وقعت لفترة في هذا الفخ، ولم أتمكن من إدراك القيمة الأدبية لإحسان عبد القدوس إلا بعد أن قرأت عددا من أعماله، وكذلك بعد أن مر زمن تغيرت فيه النظرة للأمور، وظهر لي ولغيري بوضوح أن إحسان بميوله الليبرالية المبكرة كان سابقا لعصره، وأنه كان يمهد المجتمع لمرحلة من الحرية لابد وأنه سيدخلها. وعندما حاولت أن أتلمس المكونات التي أثرت في شخصية إحسان، لم أتوقف مثل كثيرين عند العبارات السطحية التي تقول أنه ولد لأب ممثل هو "محمد عبدالقدوس" وأم ممثلة هي السيدة فاطمة اليوسف التي اشتهرت باسم "روزاليوسف" فالأب كان مثقفا مرموقا، وعمل كمهندس لدي الحكومة المصرية قبل أن يستهويه الفن وكتابة المسرح والشعر، والأم لم تكن مجرد فنانة بسيطة الثقافة، لكنها كانت مهمومة بالعمل الاجتماعي والثقافي والسياسي، وأسست المجلة السياسية التي لاتزال تحمل اسمها حتي اليوم، وهي مجلة دخلت في العديد من المعارك العنيفة مع السلطة الحاكمة، وتعرضت لمصادرات وقرارات بالإغلاق، نتيجة دورها الوطني في مرحلة من أخصب مراحل النضال الوطني في مصر قبل ثورة يوليو وبعدها، هذا بالإضافة إلي أن إحسان اقترب في طفولته من جده لأبيه وكان رجلا أزهريا متمسكا بأصول الدين الإسلامي، وهكذا جمع بين ثوابت الدين وأركان الأخلاق، وبين التطلع لفضاء الحرية والفن وأحلام التحرر الإنساني. وفي ذلك الوقت كان العالم يعاني من ويلات الحرب العالمية الثانية، وكانت مصر تحلم بالاستقلال، وتتمزق بين تناقضات مخيفة، وتئن تحت وطأة استعمار طويل أورثها الفقر والجهل والمرض، ونخبة منقسمة بين تيارات متعددة بعضها ينادي بتقليد الغرب، وبعضها يطالب بإعادة الخلافة الإسلامية التي أسقطها كمال أتاتورك معلنا موت الدولة العثمانية وولادة تركيا، وبعضها يراهن علي أفكار وافدة من الشرق الشيوعي، وهكذا تشظت الفرق والطرق التي تزعم أنها وحدها التي تمتلك الطريق نحو النهضة. وفي وسط هذه الفسيفساء التقط إحسان نماذج رواياته وقصصه من الطبقة المتوسطة العليا وعناصر النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وبدأ عملية التشريح لتحليل وتفسير الازدواجية التي أدت إليها المفاهيم الوافدة التي تدعو لحرية نسمع عنها في الغرب، وتعاني في الوقت نفسه من تقاليد وأعراف ومفاهيم دينية وثقافية وأخلاقية لم يتم النظر إليها أو تجديدها وتطويرها منذ قرون طويلة، والحال نفسه ينطبق علي السلوكيات الاجتماعية التي تتوزع بين ادعاء استعارة مظاهر التمدن الأوروبي من ناحية، وبين التمسك الشكلي بمظاهر القيم الشرقية، وهو ما عرف بعد ذلك بثنائية "الوافد والموروث" أو "الأصالة والمعاصرة" هذا التوضيح لا يؤكد ما تردد كثيرا لوصف أدب إحسان عبد القدوس بأنه "أدب الطبقة المخملية"، لكنه علي العكس يبدو كمدخل موضوعي لفهم الطريقة الذكية التي دأب من خلالها إحسان علي تشريح أمراض المجتمع كله من خلال سرد حكايات وقصص لنماذج من الأبطال المثقفين المعنيين بهذه النوعية من القضايا التي لا تصلح كثيرا لأهل الريف، أو حتي المدن الصغيرة، لأن إحسان بحكم نشأته واهتماته بقضايا السياسة، كان يضع عينيه علي طبقة النخبة المؤثرة، وهذا ما يفسره تقديم إحسان نفسه لقصص "الساعات الأخيرة قبل الغروب" حيث يقول: "كثير من القصص التي كتبتها ترسم شخصيات من المجتمع الذي كنا نطلق عليه قديما لقب (أولاد الذوات) وهو مجتمع يمثل طبقة الرأسمالية والإقطاع، ولكن هذه الطبقة لم تنقرض ولم تنته أبدا خلال الثورة وإلي اليوم وإن كانت قد تغيرت أسماؤها وألقابها، وقد مرت مرحلة انتقلت فيها هذه الطبقة إلي داخل النظام البيروقراطي، وتغيرت بالتالي الألقاب التي يحملها أفرادها، فلم تعد باشا وبك وصاحب الرفعة ولكنها أصبحت "سي السيد"، "الوكيل الأول"، "المدير العام"، "الوزير"رئيس مجلس الإدارة"، و"العضو المنتدب",..إلخ ثم انتقل المجتمع إلي مرحلة أخري اتسعت فيها هذه الطبقة، فأصبحت أغلبيتها من رجال الأعمال وهي التي نعيش بينها أن تبرز أخبارها في الصحافة وتبرز شخصياتها في القصص، المهم أني عندما أعرض هذه القصص فإني لا أقول رأيا ولكني أسجل وأرسم "لوحة اجتماعية". هكذا تدلنا كلمات إحسان إلي المدخل الصحيح لقراءة رواياته باعتبارها تشريحا ذكيا وديمقراطيا للطبقة الرئيسية في المجتمع، وهي طبقة بدأت في النصف الأول من القرن واتسعت مع ثورة يوليو، وحتي بعد سقوطها وتحللها خلال الثلاثين عاما الأخيرة، لم تنته قضاياها، بل زادت إلحاحا، وربما ساهمت هذه الطبقة الجريحة الآن في زيادة الإحساس بقيمة وصدق أدب إحسان عبد القدوس، وعمق رؤيته التي تطرقت لأنماط من العلاقات والمفاهيم، لم تكن مقتصرة في رأيي علي عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، لكنها رؤية إنسانية شاملة تبدو صالحة الآن أكثر مما كانت صالحة من قبل، وهذه سمة من سمات الأدب العظيم، حيث لا يمكن لمنصف أن يفصل أزمة "ماجي" في "النظارة السوداء" عن أزمة المجتمع كله، فالقصة قد تبدو عن امرأة وطبقة مفككة وأجواء من الابتذال والرقص والقمار، لكن هذا الإطار الذي يستخدمه إحسان للحكي، لم يكن كل شيء، بل يبدو أن الأساس هو سؤال البحث عن الذات الفردية وسط مجتمع مرتبك، تنهض فيه الاشتراكية ومنظومة القيم الجديدة للطبقة العاملة، في مواجهة قيم متهالكة، لكنها ترفض الاستسلام بسهولة أمام الجديد، وهذا الأسلوب الذي يربط بين العام والخاص ويوضح مأزق الإنسان الفرد في علاقته مع المحيط الاجتماعي والسياسي يبدو بصور مختلفة في روايات وقصص متعددة مثل "أنا حرة"، و"شيء في صدري" و"لا أنام"، و"في بيتنا رجل"، و"أمس واليوم وغدا" و"يا عزيزي كلنا لصوص" و"الصيد في بحر الأسرار"، و"خيوط علي مسرح العرائس" والأعمال الأخيرة كانت نموذجا لتشريح أساليب الفساد في مجتمع السبعينيات وبدايات الانفتاح الاقتصادي غير المحسوب الذي كشف عن نماذج من الوصوليين والمرتشين لم يتوقفوا عند أسلوب "ماجي" ووالدتها، بالرغم من استخدام نفس المفاهيم الأنثوية في استثمار العلاقات الخاصة، كما فعلت "خديجة" في "خيوط علي مسرح العرائس " للحصول علي أذون الاستيراد والتصدير و"سميرة هانم " في "النساء لهن أسنان بيضاء"، بل وتبدو رؤية إحسان مستقبلية وواعية وهو يرسم صورة لاذعة لهيمنة مدرسة العلاقات العامة والخاصة علي كل شيء حتي في العمل الدبلوماسي والسياسي، باعتبار أن ذلك نتيجة منطقية لانهيار سلم القيم وتدهور موازين الأخلاق وتحول كل شيء إلي سلعة، ففي قصة" الصيد في بحر الأسرار " تبدو السفارات وكأنها مكاتب لنوع من العلاقات العامة والخاصة المشبوهة، وتبدو الدبلوماسية منفصلة عن الهم السياسي للوطن، وكأن السفارات تحولت إلي بوتيكات للتجارة في كل شيء حتي البشر والأخلاق نفسها.. إحسان إذن كان يقول إن المجتمع المأزوم الغارق في "بئر الحرمان" يعاني من ازدواجية مريضة شطرته إلي نصفين نصف تحكمه "ناهد" ونصف تحكمه "ميرفت"، وبين الليل والنهار تختلف الأدوار بين النصف الملتزم والنصف اللعوب، لكن المجتمع في الحالين سيظل خاسرا وممزقا ومنقسما علي نفسه ما لم ينتهي "الفصام"، و"الحرمان"، وتتصالح ميرفت وناهد في كائن واحد لا يكذب ولا يزيف.. كائن يؤمن بالحب طريقا ووسيلة، ليس حب الذات وفقط، ولكن الحب كطاقة حياة لفرد حر في وطن حر.. وما أحوجنا إليك اليوم وغدا يا "صانع الحب" يا عم إحسان.