في محل صغير للكاوتش بمنطقة فيصل يحاول الأسطى روسيا - 50 عاماً - الذي لا يتجاوز طوله 90 سم استخدام عصاه الطويلة لتساعده في إنزال الكاوتش من فوق الرف، تقف إلى جواره ابنته أسماء «9 سنوات» التي ورثت عنه قصر القامة فلا يتعدى طولها 45 سنتيمترا هي وشقيقتها شيماء 13 سنة. تجري أم محمد جارة "روسيا" لتسأله: «عاوز حاجة يا اسطى»؟ أرادت المرأة الاطمئنان عليه ومساعدته في إنزال ما لم تصل إليه يداه، حتى لا يقع الكاوتش على رأسه كما حدث من قبل، يشكرها عم "روسيا"، ويدعو لها بالصحة كما يفعل مع كل من يعرض عليه المساعدة، ويواصل عناده مع الرفوف العالية لكي لا يشعر بأن قصر قامته سبب له العجز. عم "روسيا" وابنتاه ثلاثة من بين 80 ألف قزم يعيشون في مصر، مشكلتهم هي تأخر علاجهم في مرحلة الطفولة، كما يقول الدكتور عبدالله حسين الصادق، أستاذ الغدد الصماء بطب الأزهر، مشيراً إلى أن «القزامة» أو قصر القامة المعيب يرجع لأسباب وراثية جينية أو عيوب في تكوين العظام أو بسبب أمراض عضوية، ويحتاج للمتابعة والعلاج في مرحلة مبكرة لتعويض نقص الهرمونات. الألم الأكبر الذي تعانيه هذه الفئة من المصريين هو اتخاذها مادة للسخرية، خاصة في الأعمال الفنية، وهو ما يدفع عدداً كبيراً منهم إلى العزلة والاختلاط فقط بذويهم ومن يعانون من نفس مشكلتهم، ويعلق عم "روسيا" بأسى: «فيه ناس كتير ما عندهاش رحمة ولا إيمان وبتتريق على اللي زيي وناسيين إن دي خلقة ربنا»، تقاطعه ابنته أسماء بصوتها المنكسر قائلة: «ساعات العيال في المدرسة يغيظوني ويقولولي يا أوزعة». تدمع عينا عم "روسيا" حين يسمع ابنته ويقول: «أنا حتى اسم "روسيا" ده مش اسمي، أنا اسمي الحقيقي محمد محمود هريدي، لكن أصحابي كانوا بينادوني باسم "روسيا" علشان راسي كبيرة بالنسبة لجسمي، وبعدها اشتهرت بيه». يسترجع الرجل الذي لا يدعى "روسيا" آلامه وهو صغير وقت أن توفي والده وهو في سن العاشرة، وقبله ماتت والدته، لينتقل هو وشقيقه الأكبر من بني سويف ليعيشا مع عمهما في الجيزة، مؤكداً أن والديه المتوفيين وشقيقه طبيعيون ولا يعانون قصر القامة. لم يلتحق عم "روسيا" بالمدرسة وتنقل بين عدة مهن في طفولته، فعمل «مكوجي» ثم نجار وبعدها استقر مع الكاوتش : «كان الشغل صعب علشان حالتي، وكنت بتعالج وعملت عمليات في رجلي، الأسطوات كانوا شداد عليا لكن لما اشتغلت في الكاوتش مع الأسطى محسن كان حنين وحبيت الشغلانة»، وعن زواجه يقول: «حاولت أخطب 4 مرات وكل مرة مابيحصلش نصيب علشان هيئتي، وأراد ربنا أن أتقدم لأم محمود، ووافقت رغم أنها طبيعية، واتجوزنا وخلفنا محمود والحمد لله طلع طبيعي عنده 21 سنة وبعده جت شيماء في أولى ثانوي زراعي وبعدها أسماء وأخيراً محمد، البنات طلعت زيي، وأسماء محتاجة جراحة لتقويم الساقين ومستنية دورها في المستشفى». عم "روسيا" لم يسمع عن الجمعية التي أنشأها عدد من الأقزام منذ عام تحت اسم «جمعية قصار القامة المصرية» للتعبيرعن مشكلاتهم في المجتمع والمطالبة باعتراف الدولة بهم كمعاقين لينضموا إلى نسبة ال 5% التي يحظى بها المعاقون في فرص العمل، كما لم يسمع عن مقاهي الأقزام التي أنشئت لهم خصيصاً في مدينة نصر والهرم، ويقوم بالعمل فيها عدد من قصار القامة وصممت الطاولات فيها بحيث تلائم قدراتهم. سيجعلك عم "روسيا" توقن بأن صبر الرجال وقوة عزيمتهم لا يتناسب طردياً مع طولهم، حين تراه يعمل يومياً من العاشرة صباحاً وحتى العاشرة مساءً، ويقول: «الحمد لله احنا أحسن من غيرنا كفاية إننا بنشتغل، دي قدرة الواحد على دخول الحمام نعمة». ويتذكر حين رفض عرضا من المخرج فهمي عبدالحميد حيث كان يبحث عن عدد من الأقزام للمشاركة في الفوازير، وعرضاً آخر من حسن عاكف للعمل في السيرك، ويقول: «أنا عندي تعب الشغل أحسن من إنهم يتريقوا عليا ويضحكوا من هيئتي، لأني باشوف إزاي بيطلعوا الأقزام في المسرحيات والأفلام، بدل الدولة ما توفر لنا العلاج والاهتمام بتسيب الناس تضحك علينا». عم "روسيا" يتمنى أن ينظر الناس إليه على أنه إنسان وليس مجرد قزم، أما ابنته أسماء فتتمنى أن تصبح طبيبة تحاليل، لحسن معاملة طبيبة التحاليل لها في العيادة التي تعمل بها والدتها، وتقول: «هابقى أشطر وأطيب دكتورة تحاليل في مصر».