حفرقناة السويس و 112 ترعة عملاقة على النيل إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على الكبير ولد فى سنة 1830 وتلقى علومه فى مدرسة خصوصية أنشأها جده العظيم محمد على باشا فى القصر العالى ثم أوفده جده فى سنة 1846 إلى باريس لإتمام دراسته وهناك شغف بالهندسة وفن التخطيط والرسم، وكان ذلك من أسباب عنايته بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء. الخديو إسماعيل انتقل إلى الدار الآخرة فى مارس من عام 1895. ولا نعرف سببًا تمليه السياسة أو العلم أو الأخلاق يبرر أن ننسى هذا الرجل وننفيه من حياتنا، برغم أننا مازلنا نعيش بعد مرور 120 عامًا فى جوانب من خيراته وعمارته الحديثة ومشروعات الرى العملاقة التى ابتدعت فى عصره مع استكمال - حفر ترعة قناة السويس - كما كان يقال فى أيامه. رحل الخديو الحالم باستقلال مصر ، وصاحب فكرة نقلها حضاريًا لتصبح قطعة من أوروبا، وأول من أسس لفكرة البرلمان الديمقراطى فى مصر،غريبًا منفيًا من الدول الأوروبية التى ضاقت بسنوات حكمه الأخيرة فطالبت السلطان العثمانى بعزله فعزله الرجل المريض واضطر أن يقضى بقية حياته فى المنفى. والذين يتنطعون على الخديو إسماعيل الآن، لا يدركون عدد الحروب التى خاضها فى حياته للسيطرة على منابع النيل حتى وصل لوسط إفريقيا، ولا حجم المشروعات التى أقامها فى كل أرجاء مصر والتى تفوق كل ما بناه حكام مصر فى العصر الحديث. خلفاء إسماعيل ظلوا يتوارثون عرش مصر بعده ثمانين عامًا أو تزيد حتى توارى الجميع وسقطت الملكية وأعلنت الجمهورية. والسؤال لماذا نخجل من إسماعيل ونسب إسماعيل؟ وهل نخجل من ذكر أبيه - معشوق المصريين - إبراهيم البطل الفاتح الذى خرج على رأس جيش من المصريين الذين سمح لهم بحمل السلاح لأول مرة منذ عصر الرعامسة قبل ثلاثة آلاف عام فلم يتوقف حتى بلغ شواطئ الخليج العربى شرقًا وشواطئ البسفور شمالًا ليدق حصون إسطنبول ويتحدى أربع دول - إنجلتراوتركيا وبروسيا وروسيا- وهل نخجل من استشهاد شقيق الأمير إبراهيم الآخر إسماعيل الكبير بن محمد على فى فتوحات إفريقيا ؟ ليس صحيحًا أن إسماعيل كان مجرد طاغية سفيه مسرف استغرق فى طلب الملذات حتى أغرق مصر فى الديون وتركها فريسة للدائنين ، وللأسف تلك العبارة جاءت على لسان اللورد كرومر فانتقلت مزاعمه بالقراءة مرة وبالسماع مرات حتى أصبحنا لا نرى إسماعيل إلا فى المسلسلات الدارجة والمليودرامات الساذجة متآمرًا قاتلًا وسكيرًا عربيدًا. ولم يكن إسماعيل ملاكًا، بل كان حاكمًا عثمانيًا من جيل جديد نشأ فى حجر جده محمد على وتبنى شعاراته ودرس فى فرنسا ففهم معنى التقدم ومعنى المعرفة ومعنى الديمقراطية، ومن هنا كانت سنوات حكمه الست عشرة جهادًا متصلًا للنفس وللظروف حاول فيه إسماعيل كما حاولت مصر أن تعبر من عصور الجهل والخرافة والسخرة والاستبداد إلى عصور النور والتقدم. وكان طبيعيًا - كما يحدث الآن - أن تنصب لنا الفخاخ وتمد الشراك وتصوب السهام ويأتمر بنا الطامعون وما أكثرهم وما أشهانا. والدكتور لويس عوض محق تمامًا فى اعتقاده أن الفرنسيين أو الإنجليز الراغبين فى التوسع وفتح الأسواق وبناء المحطات فى طرق التجارة البعيدة كانوا لا محالة سيستولون على مصر، ولو لم تكن لهم ديون فيها كما فعلوا من قبل فى حملة بونابرت وحملة فريزر. إذن فديون إسماعيل لم تكن سببًا لتدخل الأوروبيين فى مصر واحتلال الإنجليز لها بل كانت مجرد ذريعة إلا أن ديون إسماعيل الاسمية شىء وديونه الفعلية شىء آخر فلم يزد ما تسلمه الخديو بالفعل على حوالى ثلاثين مليون جنيه، لكن هذا الدين تضاعف بالدين الأول الذى ورثه إسماعيل عن سعيد وبالفوائد التى أضيفت إلى الأصول. وهل يستند كتاب المليودراما إلى التاريخ الحقيقى حين يزعمون أن إسماعيل أغرق مصر فى الديون ليرضى غروره ويشبع شهواته ؟ كلام فارغ لا يستحق ردًا جادًا، وإن كان علينا مع ذلك أن نذكر بأن إسماعيل أنشأ على النيل وفروعه مائة واثنتى عشرة قناة من ضمنها ترعة الإسماعيلية التى تمد مدن القناة والأراضى المستصلحة حولها بالمياه العذبة والترعة الإبراهيمية فى الصعيد الممتدة من أسيوط حتى حدود الجيزة شمالًا وحتى الفيوم غربًا والرياح البحيرى فى غرب الدلتا، وقد استطاع المصريون أن يستصلحوا بفضل هذه القنوات حوالى مليون ونصف المليون فدان، ومن واجبنا أن نذكر اليوم أيضًا أن إسماعيل أنشأ أربعمائة وثلاثين جسرًا أشهرها بالطبع جسر إسماعيل أو كوبرى قصر النيل. أما المدارس التى بناها إسماعيل فتعد بالألوف، وكان عمه سعيد قد توفى عن مائة وخمس وثمانين مدرسة فبلغ عددها فى عهد إسماعيل أكثر من أربعة آلاف وثمانمائة. فهل من يفعل كل ذلك خائن ؟ تلغراف عاد محمد سعيد باشا والى مصر من أوروبا فى أواخر سنة 1862 إلى الإسكندرية والمرض الذى ذهب إلى بلاد الغرب ليتطبب منه على يد نطس أطبائها تمكن من حياته تمكنا سمم كل ينابيعها فبات ميئوسًا من نجاته وأخذ الموت ينسج أكفانه. وأما إسماعيل نفسه فقد أخذ منذ أن تأكد أن رقدة عمه لا يعقبها قيام ينتظر وهو فى القاهرة أن ترد عليه الأنباء المبشرة بارتقائه سدة جده الباشا العظيم. وكانت قد جرت العادة أن يُنعم بلقب بك على أول من يحمل إلى الوالى الجديد خبر صيرورة العرش المصرى إليه وأن ينعم عليه بالباشوية إذا كان «بيك» فلم يغادر (بسى بك) مدير المخابرات التلغرافية عدته ثمانى وأربعين ساعة لم ينم خلالها عسى أن يكون أول المبشرين فيصبح باشا ولكن النعاس غلبه فى نهاية الأمر فاستدعى أحد صغار موظفى مصلحته وأمره بالسهر بجانب العدة ريثما يذهب هو إلى مخدعه وينام قليلًا وبالإسراع إلى إيقاظه حال ورود إشارة برقية من الإسكندرية تنبئ بانتقال محمد سعيد باشا إلى دار البقاء ووعده بجائزة قدرها خمسمائة فرنك مقابل ذلك ثم ذهب إلى مخدعه ونام على سريره وهو بلباس العمل. ولم يكن الموظف الصغير الذى أنابه عنه يجهل عادة الإنعام الملكى فلما انتصف الليل بين اليوم السابع عشر واليوم الثامن عشر من شهر يناير سنة 1863 وردت من الإسكندرية الإشارة البرقية المنتظرة بفارغ الصبر فتلقاها ذلك الموظف الصغير وأسرع بها إلى الأمير إسماعيل وطلب المثول بين يديه وكان لا يزال جالسًا فى قاعة استقباله سهرانًا يحيط به رجاله، فلما رفع إليه طلب ذلك الموظف أمر بإدخاله حالًا فأدخل وأحدقت به أنظار الجميع فجثا الرجل أمامه وسلمه الإشارة البرقية الواردة فقرأها إسماعيل وما أتى على ما دون فيها إلا ونهض والفرح منتشر على محياه فوقعت الإشارة من يده وشكر الله بصوت عال على ما أنعم به عليه من رفعه إلى سدة مصر السنية ثم ترحم على عمه ترحمًا طويلًا فشاركه رجاله المحيطون به فى فرحه وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء والدوام والعز وأخذوا يهنئونه ويهنئ بعضهم بعضًا. ثم نظر إسماعيل إلى الموظف الجاثى أمامه والذى كان قد التقط الإشارة البرقية حالما وقعت من يد مولاه ووضعها فى جيبه وتبسم وقال: انهض يا بك، وبعد أن حباه نفحة من المال أذن له بالانصراف فعاد الموظف مسرعًا إلى مصلحة التلغرافات لرغبته فى الحصول على جائزة الخمسمائة فرانك التى وعد بها زيادة على الذهب الذى أصابه ودخل بتلك الإشارة على رئيسه بسى بك وأيقظه وسلمها إليه فتناولها بسى بك وقرأها ثم فتح كيسه بسرعة وأعطى الرجل المبلغ الذى وعده به ثم أسرع بالرسالة إلى سراى الأمير إسماعيل وهو يحلم بأنه قد أصبح باشا وتتلذذ نفسه بذلك. فلما دخل على الأمير وعرض عليه الإشارة قابله إسماعيل بفتور وقال لقد أصبح هذا لدينا خبرًا قديمًا فأدرك الرجل أن موظفه خانه وسبقه إلى استجلاء أنوار الشمس المشرقة ونعمها ثم ضحك عليه واستخلص منه خمسمائة فرنك فاستشاط غضبًا ونقمة وعاد إلى مصلحته واستدعى ذلك المكير فأوقفه الموظف عند حده قائلًا: صه فإنى أصبحت «بيك» مثلك.. وهكذا أضاع بسى بك ثمرة سهره ثمانى وأربعين ساعة بعدم تجلده على الاستمرار ساهرًا بضع سويعات أخرى. بداية انهيار عصر أفندينا مصرع إسماعيل المفتش إسماعيل باشا المفتش كان يوصف بالخديوى الصغير. أخو الخديو فى الرضاعة كان فى الحقيقة الصدر الأعظم، فكان الكل محاسيبه يفعمون جيوبه بالمال الذى يعصرونه من جسم الفلاح ليستبقوا لأنفسهم رضاه لدرجة أن هؤلاء رسخ باعتقادهم أن الخديو نفسه لا يستطيع أن يمسهم بضر ما دام إسماعيل صديق باشا يظللهم بحمايته. دب الخلاف بين المفتش وولى نعمته، على خلفية ديون مصر. فى الوقت نفسه كانت الثروة التى جمعها المفتش بالطرق غير الشرعية فظيعة ومثيرة لدرجة أنها تفوق ثروة أى أمير مصرى، وكانت ملابس نساء المفتش وحليهن وفخامة دورهن ومواكبهن مما تحسدهن عليه حسدًا حقيقيًا أميرات البيت الخديوى. ولبيان ذلك فإن ثمن إحدى مراوح زوجة ذلك الوزير المحبوبة بلغ 357 ألف فرنك وثمن شمسية من شماسيها بلغ ستمائة ألف من الفرنكات. وكان الأمراء ينظرون لإسماعيل المفتش بوصفه ابن فلاح وصعلوك الأصل طالما مد أجداده بل أبوه ذاته تحت الكرباج وازرقت أرجلهم ودفقت دمًا من تعاقب السياط عليها. أمر إسماعيل مجلسه الخاص ومنه المفتش بالاجتماع للمداولة فى أمر الديون وبما أن عموم أعضاء المجلس كانوا يكرهون المفتش ويتمنون زوال نعمته فإن الآراء بدت كلها مع فرنساوإنجلترا وموافقة على مقترحات المستر جوشن والمسيو جوبير ومخالفة لرأى وزير المالية فلم يحول ذلك الاجتماع المفتش عن رأيه بل زاده تمسكًا به ودفاعًا وهاجم التعديلات المشير جوشن بإدخالها على الإدارة المصرية وختم كلامه بأنه يرى أن إشهار مصر إفلاسها مهما تكن العواقب مع تمسك الخديوى بحقوقه وسلطته أقل ضررًا من تسليمها بمقترحات مندوبى الدائنين وبالتعديلات التى يطالبان بإدخالها. إن كلامه كان على جانب عظيم من الصواب، ولم يكن من عيب فيه سوى أنه صادر عن إسماعيل صديق باشا الرجل الذى كان أكبر جان فى أمر صيرورة مصر إلى ذلك الموقف الحرج. ولكى يتغلبوا على وزير المالية تظاهروا بأنهم يعتقدون أن مقاومته مبنية على كراهته الشخصية للمستر جوشن، وكان أشد أعضاء المجلس تظاهرًا بهذا الاعتقاد الأمراء الثلاثة: محمد توفيق وحسين وحسن فنظر المفتش إليهم نظرة المستهزئ بحداثة سنهم العالم ما لا يعلمون وقال: إنكم لا تزالون أولادًا فلا تستطيعون إدراك كنه الأمور. فاستشاط الأمير حسن غاضبًا لهذا الكلام، وكان عصبيًا سريع الانفعال فهجم على المفتش وصفعه على وجهه صفعة شديدة لوت سلك نظارته الذهبية. وهكذا رفض المجلس مقترحات المفتش، ولما أعلن المفتش بذلك بعث للخديوى باستقالته المسببة وتتضمن خطابًا أوضح فيه الأسباب التى حملته على تقديمها. أبى الخديوى إسماعيل قبول الاستقالة واستقبل وزيره القديم ببشاشة ولطف وأمر أن يتركا وحدهما. وكأن المفتش أفاق من كابوس فى منام فهذب سلك نظارته الذى لوته فى «الصباح» صفعة الأمير حسين وقال: «إذا سمح لى مولاى أن أكلمه بالصراحة»... فأجاب الخديوى: «تكلم تكلم أنا أطلب منك ذلك لا بصفتك وزيرًا بل بصفتك صديقا لى...». فتنهد المفتش الصعداء ورفع نظارته لكى يمسح بطرف منديله دمعة تتلألأ فى جنب عينه ثم أخذ يد إسماعيل وقبلها وقال: «إن الوسيلة يا مولاى جاهزة لدى ولست أشك فى أنها ناجحة..» فهش الخديوى وبش لأنه كان يود حقيقة الإفلات وسأله : ما هى ؟ فأجاب المفتش: «نطالب المرابين الذين مصوا دماءنا بتخفيض المبلغ المطلوب» فقال الخديوى: «وكيف كذلك ؟» فقال المفتش: «مولاى يعلم أن القرآن ينهى عن الربا وينذر المتعاملين به بعقاب شديد فما علينا والحالة هذه إلا تفهيم الأمة المصرية أن معظم الأموال التى تدفعها إلى خزينة الميرى تذهب إلى أيدى الفرنجة بصفته ربا والحكومة مضطرة إلى إرهاق الأمة بالضرائب العديدة الثقيلة التى تحصلها منها فأبرقت أسرة إسماعيل وقال: «أجل ولكن كيف تفهم الأمة ذلك ؟ ». فقال المفتش: « نكلف علماءنا وقضاتنا ومفتينا بهذا العمل وإنى إذا سمح مولاى أخذ على نفسى تحريض رجال الدين الإسلامى على مباشرة هذا العمل منذ اليوم». ولاية العهد الأمير إسماعيل هو ثانى ثلاثة أنجال البطل المغوار والقائد المقدام إبراهيم باشا ابن محيى الديار المصرية الأمير (محمد على). ولد فى 31 ديسمبر سنة 1830 على أصح تقدير فى قصر المسافر خانة بمصر ومن المؤرخين من يجعل مولده فى 15 أو 27 ديسمبر سنة 1827 من والدة غير والدتى أخويه الاثنين: البرنس أحمد رأفت والبرنس مصطفى فاضل وتربى فى حجر والده وبحياطة جده فى المدرسة الخصوصية التى أنشأها فى القصر (محمد على باشا) لتربية الأمراء أولاده الصغار وأحفاده . تعلم إسماعيل اللغات: العربية والتركية والفارسية ونزرا يسيرا من الرياضيات والطبيعيات. فجع إسماعيل وأشقاؤه بوفاة والدهم العظيم إبراهيم باشا القائد بداء السل ولم تنجح جهود أطباء أوروبا فى إنقاذه. عقب عودته من أوروبا اهتم الأمير إسماعيل برعاية أطيانه الشاسعة فى الصعيد ونجح فى مضاعفة محصولها وأوجد فى تلك الأصقاع معملًا بخاريًا لتكرير السكر على غرار المعامل الإنجليزية. وبينما هو موجه كل اهتمامه إلى أشغاله الخصوصية هبط ملك الموت وقبض بالإسكندرية بقصر رأس التين روح محمد على باشا المنزوى عن العالم وسط هلاوس من الجنون تزايدت بمرض وموت ابنه الأثير القائد إبراهيم. فما واروه التراب فى مسجده الرخامى المرمرى الذى أنشأه على جبين قلعة الجبل إلا ونشب نزاع بين عباس نجل الأمير طوسون وسعيد ابن محمد على باشا مبنى على اختلاف فى تقسيم تركته ولما كان الحق فى جانب سعيد وكانت مصلحته مصلحة عموم الأسرة انحاز سائر الأمراء وفى جملتهم إسماعيل إلى سعيد وأخذوا يقاومون مطامع عباس. وتصاعد النفور بين الطرفين وبات حرجًا لأن عباس من أجل مطامعه لم يحجم عن ارتكاب جريمة عائلية وعرف الكل بأنه حاول قتل عمته الأميرة زهرة باشا الشهيرة بنازلى هانم أرملة محمد بك الدفتردار لولا أن أهل قصرها تمكنوا من تهريبها. كان عباس حلمى الأول يكره جده محمد على والقائد إبراهيم وبمجرد توليه الحكم عمد إلى هدم آثارهما ومطاردة الأمراء بالتهديد بالقتل. ولكن الأمراء وإسماعيل فى مقدمتهم لم يكونوا ليرهبوا سطوة ذلك العاتى. نجحت جهود الأمراء فصدرت إرادة السلطان عبدالمجيد بإنفاذ فؤاد أفندى وهو الذى أصبح فيما بعد فؤاد باشا الطائر الصيت وجودت أفندى الذى أصبح فيما بعد جودت باشا ليسويا الخلاف ويصلحا بين أفراد الأسرة العلوية فأتيا ونجحا فى مهمتهما فعاد الأمراء إلى مصر إلا إسماعيل فإنه فضل البقاء فى الأستانة على الرجوع إلى قطر يحكمه عباس ولبث فيها والحرب قائمة بين تركيا وروسيا ولم يعد إلى مصر إلا بعد أن قتل عباسا فى سراياه ببنها المملوكان اللذان أرسلتهما بهذه المهمة إلى مصر الأميرة نازلى هانم عمته الناقمة عليه فى يوليو سنة 1845 فولاه عمه محمد سعيد باشا رئاسة مجلس الأحكام المصرى الأعلى فاهتم بشأنه أعظم اهتمام. وفى مايو سنة 1858 أقام محمد سعيد باشا حفلة حافلة فى الإسكندرية دعا إليها جميع أمراء بيته العالى وفى مقدمتهم ولى العهد أحمد باشا رأفت أكبر أولاد إبراهيم باشا وحليم باشا أصغر أنجال محمد على واعتذر الأمير إسماعيل ولما انقضت الحفلة عاد الأميران السابق ذكرهما للقاهرة بقطار خاص مع حاشيتهما فسقطت العربة التى كانت تقلهما فى النيل عند كفر الزيات فغرق الأمير أحمد باشا ونجا الأمير حليم باشا فأصبح الأمير إسماعيل ولى عهد الدولة المصرية لأنه بات أرشد رجال البيت العلوى بعد موت أحمد باشا أخيه الأكبر. تحويل مجرى نيل القاهرة فى زيارة الخديو إسماعيل لباريس عام 1867 لحضور المعرض العالمى، طلب الخديو إسماعيل شخصيًا من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسى «هاوسمان» الذى قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية. وفى مقابلة التكليف بين الخديو إسماعيل وهاوسمان، طلب إسماعيل من هاوسمان أن يحضر معه إلى القاهرة كل بستانى وفنان مطلوب لتحقيق خططه. تخطيط القاهرة الخديوية وعلى رأسه هاوسمان حول القاهرة إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم، ليطلق عليها كتاب الغرب حينذاك «باريس الشرق». وكان الإنجاز الكبير فى هذا المجال أن يكون مسار نهر النيل فى وسط القاهرة مثلما حال نهر السين بباريس حيث كان مجرى النيل القديم يمتد من مدينة الجيزة القديمة ويمتد بمحاذاة شارع الدقى الحالى مارا بمناطق الأورمان والجامعة والدقى والعجوزة وبولاق الدكرور وإمبابة بينما المنطقة الشرقية منه ومن شواطئه كانت عبارة عن سيالة ضيقة تنحسر عنها المياه أكثر فصول السنة لارتفاع منسوب قاعها وقد بدأ العمل فى إجراء عملية التحويل مع البدء فى تخطيط المدينة نفسها أواخر عام 1863 ولقد ساعد ارتفاع منسوب الفيضان المفاجئ وقوة اندفاع مياه تياره على تحقيق المعجزة فحفر النيل مجراه فى يوم واحد وتمت عملية التحويل واتخذ نهر النيل موقعه الجديد فى التخطيط المرسوم له أواخر عام 1865 أى أن عملية التحويل بالكامل استغرقت 18 شهرا وعندما تم تحويل مجرى النيل تخلفت عن المنطقة الغربية من مجراه القديم الذى انحسر عنه الماء أراض واسعة بين شارع الجيزة الحالى وكورنيش النيل بخلاف المجرى نفسه وجاءت فكرة ردم المجرى القديم والمستنقعات المتخلفة عنه ونتجت عنها إقامة «حديقة الأورمان» المماثلة لغابة «بولونيا» المشهورة بفرنسا كما نتج عن تحويل المجرى تراكم الطمى والرمل بالمنطقة الشمالية من الجزيرة وهى منطقة الزمالك الحالية أما الجزء الجنوبى من الجزيرة فقد تحول إلى مجموعة من الحدائق والبساتين. نهاية عصر الرقيق لما آل العرش إلى إسماعيل صمم على إدخال بلاده بصراحة فى مضمار المدنية الغربية ووطن نفسه على إبطال الرقيق وتوطينه إياها على إلغاء السخرة كقول فون ستيفان فى كتابه «داس هوتجى اجبتن».