شهدت الساحة المصرية حالة من التوتر علي خلفية إعلان الكنيسة الروسية قطع العلاقة مع بابا الأقباط الأرثوذكس في مصر بسبب سوء تفاهم نتج عن الخلط بين طائفة الروم الأرثوذكس بالإسكندرية والكنيسة الأرثوذكسية، ما دفع الأخيرة لإصدار بيان لتوضيح موقفها مؤكدة عمق علاقتها مع الكنيسة الروسية. وكانت طائفة الروم الأرثوذكس في مصر قد تسببت في اندلاع هذه الأزمة علي خلفية اعترافها بالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا المنشقة عن الكنيسة الروسية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول تفاصيل الأزمة بين الكنيستين وتاريخ نشأة وأعداد الروم الأرثوذكس في مصر. وكانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية قد قررت عدم ذكر اسم بطريرك الإسكندرية للروم الأرثوذكس تيودوروس الثاني، أثناء إقامة القداس، في رد فعل لها على اعترافه بمن تسميهم موسكو بالمنشقين الأوكرانيين في إشارة إلى الكنيسة الأوكرانية المستقلة التي تأسست في ديسمبر عام 2018 بمبادرة من الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو ما منحها استقلالية عن موسكو. وكان البابا ثيودروس الثاني بطريرك الإسكندرية وسائر إفريقيا للروم الأرثوذكس قد أعلن خلال القداس الإلهي الذي أقيم في نوفمبر الماضي بكنيسة رؤساء الملائكة بالظاهر في القاهرة اعترافه بالأنبا أبيفانيوس متروبوليت كييف كرئيس للكنيسة الأوكرانية المستقلة. وقالت الكنيسة الروسية في بيان لها إن قرار البابا ثيؤدورس الثاني لم يعرض في جلسة المجمع المقدس للبطريركية الإسكندرية الذي عقد في الفترة من 7 إلى 9 أكتوبر الماضي، ولم يتم طرحه للتصويت، وصدر بطريقة "غير مألوفة"، مؤكدة أنها ستغلق مكتباً تمثيليا لبطريركية الإسكندرية في موسكو وأن الإبراشيات الروسية الأرثوذكسية في أفريقيا لم تعد تحت إشراف البطريركية المصرية بل تحت قيادة البطريرك الروسي كيريل مباشرة. وقد أثار هذا البيان لغطاً داخل وسائل الإعلام نتج عن الخلط بين البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والبابا ثيؤدورس الثاني بطريرك الإسكندرية وسائر إفريقيا للروم الأرثوذكس، ما دفع الكنيسة الأرثوذكسية لإصدار بيان لتوضيح حقيقة الأزمة، حيث ذكر المتحدث باسم الكنيسة القس بولس حليم إن العلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أخوية طيبة للغاية، نافيا ما تم تداوله عبر عدد من وسائل الإعلام الغربية بشأن قطع الكنيسة الروسية لعلاقاتها مع الكنيسة الأرثوذكسية في مصر. وقال القس حليم، إن قرار الكنيسة الروسية الخاص بقطع علاقاتها مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والبابا تواضروس الثاني ليس له أساس من الصحة، مشيراً إلى أن القرار الصادر عن المجمع المقدس للكنيسة الروسية خاص بكنيسة الروم الأرثوذكس. وتابع: "حدث خلط بين الكنيستين نظرًا لأن بطريركية الروم الأرثوذكس وبطريركها يحمل اسم بابا الإسكندرية، ويتشابه اسمه مع اسم البابا تواضروس الثاني، وهو البابا ثيؤدورس الثاني بطريرك الإسكندرية وسائر أفريقيا للروم الأرثوذكس".. مؤكداً أن الكنيسة المصرية القبطية لم تتورط في القضية المثارة بين الكنائس حول كنيسة أوكرانيا، حيث يربطها علاقات جيدة مع الكنيسة الروسية ويتم تبادل الزيارات بينهما. ويجمع بين البابا تواضروس الثاني، والبابا ثيؤدورس علاقة صداقة، إذ يحملان الاسم نفسه، فكلمة تواضروس باليونانية يعني ثيؤدورس والاثنان بالعربية يعنيان "عطية الله"، إذ حرص البابا تواضروس على بناء علاقة وطيدة ببطريرك الروم الذى يبادله التهاني والزيارات في الأعياد والمناسبات، كذلك فإن مجلس كنائس مصر الذى أسسته الكنيسة القبطية وتبرعت بمقر له حظى بعضوية كنيسة الروم الأرثوذكس، وفي مايو 2018 وجه البابا تواضروس دعوة للأخيرة لبدء الحوار معها لبحث التقارب مع الكنيسة القبطية وهو ما يتسق تمامًا مع مشروع البابا تواضروس الثاني لتحقيق ما يسميه ب"الوحدة المسيحية". وفي نهاية أغسطس 2018 قام البابا تواضروس الثاني بزيارة للبطريرك ثيؤدوروس الثاني وذلك بمقر البطريركية اليونانية بالأسكندرية، ووقتها قال الأخير للأول، إنه في كل مكان يزوره داخل وخارج مصر يلمس محبة الجميع له. ولا يعد موقف الكنيسة الروسية من كنيسة الروم الأرثوذكس هو الأول من نوعه، إذ سبق وأعلن رئيس قسم العلاقات الخارجية في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المتروبوليت هيلاريون، قطع بطريركية موسكو علاقات الشراكة مع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، مطلع نوفمبر الماضي بسبب اعترافه بالكنيسة الأوكرانية المنشقة. الروم الأرثوذكس والروم الأرثوذكس من الطوائف الدينية المسيحية الصغيرة نسبياً، حيث لا يتجاوز عدد المنتمين لها فى كل أفريقيا، حسب إحصاءات رسمية نحو نصف مليون نسمة، ويقع مقرها الرئيسى فى مصر بمدينة الإسكندرية، فى حين يقع فرعها القاهرى بكنيسة القديس نيقولاس فى منطقة الحمزاوى بالأزهر والبطريرك وغالبية أفراد الإكليروس رجال الدين يونانيون. والبطريرك الحالى الذى يحمل لقب "بابا" هو ثيودوروس الثانى وهو من مواليد كريت فى اليونان فى سنة 1954 وانتخب فى منصبه فى أكتوبر 2004، ويقوم الأنبا نيقولا بمسئولية المتحدث الرسمى للطائفة. ويبلغ عدد الكنائس التابعة للروم الأرثوذكس فى مصر 18 كنيسة أغلبها فى الإسكندريةوالقاهرة ودمياط وبورسعيد وطنطا والمنصورة أشهرها مارجرجس فى مصر القديمة، وهى كنيسة أثرية أقيمت فوق حصن بابليون. وتأسست كنيسة الإسكندرية لطائفة الروم الأرثوذكس عام 64م على يد القديس مرقس الرسول، وفى القرن الرابع تقريباً كانت هذه الكنيسة قد انتشرت عبر مصر وليبيا وأصبح لديها نحو مائة إيبراشية، وكانت مدرسة الإسكندرية آنذاك نقطة ارتكاز لاهوتية لمسيحيى الشرق وانشقت الكنيسة بعد ذلك عن مجمع خلقيدونية عام 451 ميلادية ونشأ عنه بطريركيتان، البطريركية المصرية المعروفة بالبطريركية القبطية، والبيزنطية والتى أطلقت على نفسها اسم بطريركية الروم الأرثوذكس منذ عام 1453 ميلادية وبعد عام 1517 اتخذ البطاركة الروم القسطنطينية ملجأ لهم، ثم وعادوا للإقامة فى مصر بشكل دائم فى القرن الثامن عشر، وشكل القرن التاسع عشر بداية حياة جديدة للبطريركية بسبب تزايد عدد المنضمين من اليونانيين والعرب والروم الأرثوذكس. والعلاقات بين الأقباط الأرثوذكس والروم الأرثوذكس طيبة فهناك خيط رفيع يفصل بين الكنيستين يتمثل فى وجود اختلافات عقائدية طفيفة. أصل الأزمة يذكر، أن أزمة الكنيسة الأوكرانية والروسية ترجع إلي يناير الماضي، عندما أصدرت بطريركية القسطنطينية المسكونية ومقرها اسطنبول، مرسوماً رسمياً بإقامة كنيسة أوكرانية مستقلة لينهي ذلك أكثر من ثلاثة قرون من سيطرة سلطات موسكو على الكنائس الأرثوذكسية في أوكرانيا. سبق ذلك إعلان الكنيسة الأوكرانية في أواخر العام الماضي الانفصال عن الوصاية الدينية الروسية عليها المستمرة منذ 332 سنة، تبعه قيام رجال الدين الأرثوذكس بعقد مجمّع واسع في كييف لاتخاذ قرار تاريخي بإقامة كنيسة مستقلة عن الروس بدعم من بطريركية القسطنطينية التي اعترفت بالكنيسة الجديدة ما أثار غضباً واسعاً ضدها في روسيا. ورغم أن التطورات المتعلقة بالأزمة السياسية الروسية - الأوكرانية سرّعت من خطوات انفصال الكنيسة في كييف، فإن الخلاف بين الكنيستين له جذور قديمة؛ إذ جرت أولى محاولات التخلص من هيمنة الكنيسة الروسية في عام 1992 مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ اذ أعلن بطريرك كييف آنذاك فيلاريت الانشقاق في ذلك الوقت، لكنه قوبل بقرارات حازمة، وصدر ضده قرار بالحرمان الكنسي، ظل سارياً حتى اتخذت كنيسة القسطنطينية في أكتوبر 2018 قرارها برفع الحرمان. وفي عام 1997 أعلنت بطريركية موسكو الحرمان الأكبر بحق الكنيسة المنشقة، وأعلن بطريرك كييف في أغسطس من العام الماضي عن عزم بطريركيته على مصادرة جميع ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، بما فيها دير الكهوف في كييف الذي يعد من أهم المقدسات الأرثوذكسية. وتعد التطورات الجارية حالياً، أكبر هزة عنيفة تضرب الكيانات الكنسية الأرثوذكسية وتنسف التفاهمات التي ظلت قائمة فيما بينها منذ عام 1686، خصوصا أن تداعيات الخطوة لم تعد تقتصر على روسياوأوكرانيا؛ بل امتدت لتحدث انشقاقاً تاريخياً واسعاً في الكنيسة الأرثوذكسية عموماً.