في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر ظاهرة لافتة للنظر في محافظتنا الغربية، وهي أن كثيرًا من "شيوخ القبة" أصبحوا من فئة الشباب. ظاهرة قد تبدو في ظاهرها طموحًا وحيوية وتجديدًا للدماء، لكنها في باطنها تثير كثيرًا من التساؤلات حول الكفاءة والخبرة والمصداقية. فالناس بطبيعتها اعتادت أن ترى في مقاعد الشيوخ رموزًا مرّت بتجارب طويلة في العمل العام والقانوني والنيابي، شخصيات صقلتها السنوات، وامتلكت من أدوات الفهم والرؤية ما يؤهلها لصناعة القرار الرشيد والتمثيل الحقيقي. لكننا اليوم نجد من يُرشَّح لمقاعد الشيوخ وهو صاحب مطعم، أو تاجر أسمنت، أو رجل أعمال لم يعرف من العمل النيابي إلا اسمه. ولا عيب في المهن، لكن العيب أن يغيب عن تلك القبة من يملك الخبرة القانونية والعلمية والنيابية التي تحتاجها هذه المنصة الحساسة في الدولة. إن مجلس الشيوخ ليس منصبًا بروتوكوليًا أو وجاهيًا، وليس "كارنيهًا" يفتح الأبواب ولا "سيارة" تحمل لوحة مميزة تجوب الشوارع، ولا وجاهة اجتماعية يتفاخر بها صاحبها في المناسبات. هذا الكرسي أمانة ثقيلة ومسؤولية جسيمة، من يجلس عليه لا يمثل نفسه ولا عائلته ولا تجارته، بل يمثل صوت الدولة وعقل المجتمع وضمير التشريع. المجلس ليس مكانًا للمظاهر الاجتماعية، بل منصة للتفكير العميق والنقاش الجاد وصياغة السياسات التي تمس حياة الناس وتؤثر في مستقبل الأجيال. هو بيت الخبرة الذي يعيد النظر في القوانين ويزنها بميزان الحكمة والتجربة، ويقدم الرأي الرصين الذي يوجه بوصلة الوطن في أوقات المنعطفات. ومن يظن أن هذا الكرسي وجاهة أو مكسبًا شخصيًا، فهو لم يدرك بعد قيمته ولا تبعاته، لأن الجلوس تحت قبة الشيوخ يعني أنك أصبحت مسؤولًا عن الكلمة والتشريع والرأي أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ. هذا المقعد لا يحتمل المجاملة ولا التجريب، ولا يقبل أن يكون محطة لوجاهة مؤقتة، بل يحتاج إلى عقول تعرف القانون، وخبرات تدرك معنى التشريع، وتجارب قادرة على الموازنة بين مصلحة الوطن وحقوق المواطن. ولعل من أخطر ما ابتُلي به هذا الموقع في السنوات الأخيرة أن البعض بات يتعامل مع عضو مجلس الشيوخ وكأنه "نائب خدمات" أو "وسيط طلبات"، فينحصر دوره في نقل طالب من مدرسة إلى أخرى، أو المطالبة بإقامة مطب صناعي، أو التدخل في أمور تنفيذية يومية. وهذا اختزال خطير لدور مجلس الشيوخ، لأن من يجلس تحت هذه القبة ليس موظف خدمات عامة، بل شريك في صناعة القوانين والسياسات العامة للدولة. إن عضو مجلس الشيوخ هو أحد أعمدة العملية التشريعية في مصر، وصوته في صياغة القوانين التي تنظم حياة الناس لا يقل وزنًا عن صوت الحكومة نفسها. هو من يراجع ويُدقّق ويُصحّح، وهو من يفتح النقاش حول ما قد يغيب عن أعين التنفيذيين، ويُذكّر دائمًا بأن التشريع لا بد أن يوازن بين القوة والعدل، بين الحقوق والواجبات. فالنائب في هذا الموقع لا يُقاس بما أنجزه من "طلبات خدمات"، بل بما قدمه من أفكار تشريعية ورؤى إصلاحية، وبما تركه من بصمة حقيقية في مسار القوانين التي تحكم هذا الوطن. وإن كنا نؤمن بدور الشباب في البناء، فلا بد أن ندرك أن لكل موقع متطلباته ولكل مسؤولية شروطها، وأن مجلس الشيوخ تحديدًا لا يحتمل إلا من جمع بين العلم والخبرة والرؤية، لأن الكراسي تزول... لكن ما يُصنع تحت قبتها يبقى، ويُحاسَب عليه التاريخ. والتاريخ لا يكتب أسماء من جلسوا على المقاعد... بل أسماء من غيّروا بها وجه الوطن.