■ أحمد بهاء الدين يطالب الدولة بصرف معاش استثنائى لحمدان والنتيجة مقاطعة حتى الموت بين الصديقين ■ «هيكل»: «لم أتجاسر على طرق بابك هذه المرة على غير موعد وأترك لك اختيار الوقت المناسب لنلتقى» ■ أنيس منصور: «أتمنى لو أراك، وأجلس إليك وأسمعك وأقول لك، ولكننى لم أفقد الأمل» ■ تنبأ فى مفكرته الشخصية قبل وفاته فى 93 بثورة ضد «مبارك» نتيجة الظلم الاجتماعى وكأنه راهب أو ولى من أولياء الله الصالحين، كان عالم الجغرافيا، الشهير الراحل، جمال حمدان، يسمو فى عزلته فوق أطماع ودناءة البشر، مكتفيا بمناجاة ربه، وعاش حياته فى عزلته الاختيارية بشقته المتواضعة بمنطقة الدقى، مخلصا للعلم ولمحبوبته «مصر» التى لم يكرهها يوماً رغم ماتعرض له من ظلم، على أيدى عديمى المواهب العلمية، محترفى النفاق وتملق السلطة. كتب حمدان فى حب مصر أروع قصيدة من قصائد العشق والعشاق فى تاريخها، طوال عزلته الاختيارية التى بلغت نحو 30 عاماً، كتب 3552 صفحة هى موسوعته «شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان» التى جاءت فى 4 أجزاء، تفوح منها رائحة عشق مصر، حيث صال وجال فيها فوق تضاريس وجبال وصحراء وأنهار معشوقته، وتغزل فيها، كاشفا أن «الجغرافيا» والتضاريس والحدود ليست مجرد رمال وصخور ولكنها أجزاء حية من ذاكرة الشعوب، قراءتها الصحيحة كافية لمعرفة الماضى والحاضر والمستقبل. مثلما عاش «حمدان» فى هدوء مكتفيا بعزلته الاختيارية.. تمر ذكرى وفاته واحدة تلو الأخرى، دون تكريم يليق براهب الجغرافيا، حيا وميتاً، حيث تحل فى 17 إبريل الجارى، ذكرى وفاته ال 23- توفى فى 17 إبريل 1997- والتى يبدو أنها ستمر أيضا مرور الكرام. وأثناء بحث «الفجر» عن وسيلة لتكريم «راهب العزلة» لم تجد أفضل من الكتاب التى احتفت به «مكتبة الإسكندرية» لذكرى الراحل نهاية العام الماضى، بعنوان «جمال حمدان وعبقرية المكان» للباحثين محمد غنيمة وأيمن منصور، بالتعاون مع شقيقه اللواء عبد العظيم حمدان، والذى يعد وثيقة رائعة تليق برجل فريد فى شخصيته وزمنه. يحتوى الكتاب الأنيق الطباعة على و»ثائق نادرة» تخص حمدان بدءاً من صور الطفولة والشباب والبعثة الدراسية فى الخارج، مرورا بأبحاثه وشهاداته الجامعية، إضافة ل»مفكرته» الخاصة، وخواطر كتبها بخط يده، ولوحات رسمها، ومن المعروف أن حمدان كان يقوم بتصميم أغلفة كتبه بنفسه، إضافة لمجموعة من «الخطابات» الخاصة به، والمرسلة من كبار مشاهير الثقافة والصحافة والفكر فى مصر والعالم العربى، تكشف قدر ومكانة حمدان الرفيعة وسعيهم الدائم للقائه، بينهم محمد حسنين هيكل، أحمد بهاء الدين، أنيس منصور، لويس عوض، والروائى يوسف القعيد وفهمى هويدى وآخرين. يقول هيكل فى أحد الخطابات المرسلة لحمدان بتاريخ 28 مايو 1979: «لم أتجاسر هذه المرة، أن أطرق بابك على غير موعد، وهكذا فإنى أكتب إليك لأقول، إننا عدنا إلى القاهرة بعد غياب عدة أسابيع، وكما اتفقنا فإنى أترك لك اختيار الوقت الذى تراه مناسبا لكى نلتقى مرة أخرى». ويتناول الكتاب الأزمة الشهيرة و«القطيعة» بين «حمدان» والكاتب الكبير أحمد بهاء الدين وتفاصيلها، حيث حرم جمال حمدان من المعاش بالجامعة بسبب الروتين، الذى لا تسمح لوائحه بمعاش إلا لمن قضى 10 سنوات فأكثر فى الخدمة، وأبلغت إدارة شئون العاملين «حمدان» بذلك وقطعت عنه المعاش، وكان حمدان وبهاء الدين صديقين حميمين، وكان حمدان يقول عن صديقه إنه المفكر الفنان، المكافح الأخير بين المصريين، ضد القبح والدمامة الباحث عن الجمال، بمعناه الفنى والإنسانى بكل مافيه من قيم ونبل. وعندما سمع «بهاء الدين» بأمر انقطاع المعاش عن حمدان، كتب يطالب الدولة بصرف معاش استثنائى له وقال: «إن الرجل يعيش على معاش تقرر له منتصف الستينيات، وإن مصر التى تقرر فيها هذا المعاش ليست مصر السبعينيات، وأن الرجل يعيش فى غرفة وصالة، تحت السلم بالدور الأرضى، فى عمارة بشارع أمين الرافعى، وأنه يمر بظروف حياتية أكثر من صعبة، وأن طباعة كتبه، لاعائد وراءها تقريبا، وليس له دخل آخر»، وكانت هذه العبارة بداية الخلاف واحتدام الخصام، حيث ثار حمدان لكرامته وخاصم بهاء حتى نهاية حياته. ويحدثه أنيس منصور فى خطاب بقوله: «عزيزى دكتور حمدان، أين أنت، ما أبعدك وما أقربك، أتمنى لو أراك، وأجلس إليك وأسمعك وأقول لك، ولكننى لم أفقد الأمل»، ويحتفظ «حمدان» ضمن أوراقه الخاصة، بكتاب «شكاوى الفلاح الفصيح»، العمل الأبرز والأضخم فى مسيرة الكاتب يوسف القعيد، حاملاً أهداء: «الأستاذ الدكتور جمال حمدان .. واحد من أعظم رجال عصرنا كله، المخلص يوسف القعيد 2/9/1984»، إضافة لخطاب آخر من «القعيد» يخبر فيه حمدان بأنه فاز بإحدى جوائز الدولة التقديرية جاء فيه:»مساء الخير .. مبروك لقد حصلت على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية اليوم، جئت للتهنئة، ولكنك لم تكن موجوداً، سأحضر صباح الغد فى التاسعة صباحا ومبروك مرة أخرى ودمت لمن يحبك، 29/6/1986» . يقع الكتاب فى نحو 154 صفحة مقسمة على 5 فصول، إلى جانب قائمة طويلة بالمراجع والمصادر التى تعد فى مضمونها هى ببليوجرافيا متكاملة للدكتور جمال حمدان ومؤلفاته والمؤلفات التى تحدثت عنه، بما فيه مسودات أبحاثه العلمية وأفكار مشروعات كتبه. عنوان الفصل الأول من الكتاب: «محطات على الطريق» ويتناول حياة «حمدان» الشخصية منذ نشأته الأولى بقرية «ناى» التابعة لمحافظة القليوبية، ثم انتقاله مع أسرته للقاهرة ودخوله المدرسة التوفيقية التى ظهرت بها دلائل عبقريته وحبه للعلوم الجغرافية، كما استعرض أيضاً فترة دراسته بجامعة فؤاد الأول «القاهرة حالياً» وكيف أحب الطالب جمال حمدان أستاذه الدكتور محمد عوض محمد، حتى أنه دون بخط يده كتاب «النيل» له، وفى هذا الفصل نشر غنيمة ومنصور، كمية كبيرة من الصور الخاصة ب«حمدان» خلال مراحل عمرية مختلفة، وبين زملائه بالجامعة، وشهادات ووثائق ومراسلات لم تنشر من قبل، بينها كراسات الطالب وقتها جمال حمدان التى تظهر حبه للخط العربى وتمكنه منه. كما استعرض المؤلفان حياة «حمدان» فى البعثة الدراسية بجامعة «رادنج- بإنجلترا» التى كانت فى السابق فرعاً من جامعة أكسفورد ثم استقلت عنها تماماً عام 1926، والتى حصل منها على درجة الدكتوراه، مع مرتبة الشرف الأولى عام 1953، فى فلسفة الجغرافيا، حول «سكان وسط النيل» ليصبح سادس باحث فى العالم يكتب رسالة دكتوراه عن فلسفة الجغرافيا وقتئذ، بتشجيع من البروفيسير «أوستين ميللر» العالم الجغرافى الإنجليزى الشهير، والمشرف على رسالته، الذى طلب منه العودة لمصر لاستكمال أبحاثه عام 1951 والعودة للجامعة للحصول على الدكتوراه عام 1953. ويتناول الكتاب فى فصل كامل تحت عنوان «ثلاثون عاما من العزلة»، أسباب عزوف «حمدان» عن المشاركة الاجتماعية واختياره للعيش وحيداً وكيف عاش فقط فى حب مصر يبحث ويألف ويدرس الشخصية المصرية، عقب الصدمات المتتالية التى تعرض لها عقب عودته من بعثته الدراسية بالخارج، والتحاقه بالعمل عضواً بهيئة التدريس بجامعة القاهرة، وتقدمه بالاستقالة من عمله بالجامعة عام 1963، احتجاجاً على تخطيه فى الترقية، إلى وظيفة أستاذ مساعد، والتى لم تقبلها الجامعة إلا بعد عامين، فضلاً عن العزلة الاختيارية عن المجتمع، التى فرضها على نفسه، وتفرغه لدراساته وأبحاثه، مردداً عبارة:» لا أريد التعامل مع المجتمع، ولن أخرج من عزلتى، حتى ينصلح حاله، وإن كنت أتصور أن ذلك لن يحدث». ويقول شقيق حمدان، الدكتور عبد الحميد، عن تلك الفترة، إنه ساءت الأمور بالنسبة لشقيقه فى قسم الجغرافيا، بكلية الآداب، وبدأ الجميع يتربص به، وكان من سوء طالعه، أنه التقى تلك الديناصورات الذين كانوا يعتبرون أن علاقتهم بمسئولى الدولة جواز مرورهم صوب اعتلاء المناصب بلا مجهود أو علم، ولم يقتصر الحال على تخطيه فى الترقية، ولكن وصل الأمر، لحد منع حمدان من تدريس مادته المفضلة- جغرافيا المدن- وتكليفه بتدريس مادة «الخرائط» لطلبة السنة الأولى، والتى عادة ما كان يقوم بها المعيدون. وعندما تم انتداب حمدان للعمل فى فرع جامعة القاهرة العاصمة السودانية، الخرطوم، وجد أحد زملاءه ممن سبقوه فى العمل هناك سرق كتبه ومحاضراته وطبعها ووزعها على الطلبة باعتبارها أفكاره، فأصيب بالدهشة والصدمة، وبعد أن استطاع إثبات أنه صاحب النصوص، وجد نفس الأستاذ السارق ينافسه على الترقية، ويحصل عليها قبله دون وجه حق، فرأى أن ينسحب من هذا الميدان، وأن يترك الكعكة كاملة، وأن يكرس نفسه لمشروعه الكبير الذى كان يحلم به فى أبحاثه العلمية. وتحت عنوان «الجوائز والتكريم»يوثق الكتاب الجوائز والتكريمات التى حصل عليها «حمدان» بينها شهادة تقدير من مؤسسة الكويت للتقدم العلمى عام 1985، والمراسلات المتبادلة بين «حمدان» والمجلس الأعلى للثقافة بمصر، بمناسبة إبلاغه بحصوله على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية لعام 1985، ورد «حمدان» برفضه للجائزة، لأنها قدمت له بشكل غير لائق، ولأنه كان يرفض كل مايأتى من أى جهة رسمية - حسب قول شقيقه بالكتاب -. وفى نهاية الفصل يتناول الكتاب تحقيقًا بعنوان «علامات استفهام حوله وفاته» أخذت فيه آراء كل من أخيه اللواء عبد العظيم حمدان، والروائى يوسف القعيد، وبعض ما نشر فى الصحف والمجلات عن الحادث، وصور نادرة لشقته بعد حادث الحريق،حيث يكشف يوسف القعيد، أن حمدان قبل وفاته كان قد انتهى من 3 كتب، أولها «اليهود والصهيونية وبنوا إسرائيل» ويقع فى نحو ألف صفحة، وكان من المفروض أن يأخذه ناشره يوسف عبد الرحمن، وكتاب «العالم الإسلامى المعاصر» الذى أصدره عام 1965 ثم توسع فيه حتى صار كتاباً جديداً، والكتاب الثالث عن علم الجغرافيا، ولقد ذهبنا للشقة فور علمنا بالوفاة، وعايناها، ولم نجد هذه الكتب التى كانت موجودة ورأيتها بنفسى»، وأضاف المؤلفان فى نهاية الفصل، مقالا نادرا للدكتور جمال حمدان تحت عنوان « من إسرائيل إلى فلسطين جوانب استراتيجية فى معركة العودة» وهو مقال لم ينشر من قبل. وجاء الفصل الثانى تحت عنوان «حمدان والجغرافيا» استعرض فيه غنيمة ومنصور رؤية حمدان لعلم الجغرافيا، ورؤيته الاستراتيجية، وتنبؤه فى وثائقه الشخصية بثورة الشعب المصرى ضد نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وبأن الثورة ستكون فى غضون عام 2000 بسبب تردى الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمصريين، وأيضًا تنبؤه بانهيار الاتحاد السوفيتى، وتراجع الساحل الشمالى للدلتا، وصعود تيار الإسلام السياسى فى بعض الدول العربية عقب الثورات. أما الفصل الثالث فاستعرض فيه الباحثان آراء «حمدان» فى القضايا المصرية ولعل أبرزها تناول الشخصية المصرية، والسد العالى، والمسلمون والأقباط ووحدة الحضارة والوطن، وبعض الرسائل التى أرسلها حمدان للحكومة المصرية ولأقباط مصر والعالم الغربى. وفى الفصل الرابع قام الباحثان بعمل مقارنة بين النسخ الأولى من كتاب شخصية مصر الصادر 1967 ثم كتاب شخصية مصر الوسيط الذى صدر بالسبعينيات من القرن العشرين ثم ملحمته الخالدة «شخصية مصر- دراسة فى عبقرية المكان» والمكونة من أربعة آلاف صفحة، بمجلداتها الأربعة التى يقف وراءها 245 مرجعاً عربياً و791 مرجعاً أجنبيا، كما تم عرض لمجموعة كبيرة من كتبه عل أبرزها كتاب «بترول العرب»، «اليهود أنثروبولوجيا»، «استراتيجية الاستعمار والتحرير»، «العالم الإسلامى المعاصر».