على الرغم من أننا بحثنا عن الدراما الرمضانية هذا العام لتنآى بنا بعيدا عن الإحتلال الأخوانى الجارف لمشاعرنا وأفكارنا..وعلى الرغم من أن الشاشة الرمضانية كانت هى الطريق الوحيد للخلاص من الزخم السياسي الذى هزمنا فى كل المواقع الحياتية طوال العام الماضى..إلا أن الواقع الأليم ونبض الشارع المصرى فرض نفسه وبقوة على كل مسلسلات رمضان هذا العام.. فالجلاليب البيضاء واللُحى كانت الزى الرسمى لمعظم الأعمال الدرامية هذا العام.. وعلى الجانب الآخر إحتلت الواقعية معظم الحكايا وامتزجت الحبكة الدرامية بقصص خرجت من قلب الشارع المصرى.. فمن قسوة الحياة وحرارة الواقع فى "موجة حارة" إلى الحياة المُترفة وشذوذ المجتمع فى "حكاية حياة"..ومن بساطة الحوار وصدق المشاعر فى "العراف" إلى تاريخ مصر الخلاب فى "حكاية بنت إسمها ذات"..من هذا إلى ذاك إختلطت مشاعرنا بين الشعور بالألم والأسي إلى الإحساس بالفرح والسعادة.. تابعت مسلسل "موجة حارة" الذى نجح بجدارة فى إجتياح مشاعرى وغزو أحاسيسي..فالقصة للكاتب المتميز أسامة أنور عكاشة مأخوذة عن رواية (منخفض الهند الموسمى) ومعالجة درامية متميزة للسيناريست مريم نعوم.. الأحداث والأبطال كونا معا حالة منفردة من العزف الدرامى الناعم الذى يشبه الدانتيلا من حيث النعومة والشفافية.. أرفع القبعة لأداء متميز للفنان الذى أمتعنا منذ وضع قدمه فى حذاء حسن البنا ومرورا بالمواطن إكس وسر علنى، حيث كتب (إياد نصار) شهادة ميلاده السينمائية بحروف من ذهب ورسخ لدى المشاهد فكرة أنه لا ينتمى لدور واحد ولا هو سجين نمط متكرر..هاهو هنا يمتلك خيوط شخصية ضابط الشرطة سيد العجاتى، الذى تتحكم مهنته فى كل دقائق حياته، فهو يتعامل مع زوجته من واقع تعامله مع نساء مكافحة الأداب..ويتعامل مع أخيه اليسارى من واقع الضابط الذى يقمع ويقهر الحريات بدافع من شرطيته الشديدة..وهنا تقوم رانيا يوسف أيضا بدور تمكنت منه تماما وهى فنانة تمتلك الحس الفنى الممزوج بالإغراء، وهو دور الزوجة التى تحارب ضعفها، وتأبى السقوط فى أحضان الرذيلة باللجوء إلى أحضان الزوج الغير موجود الغير رومانسي.. هو يشك فيها وهى تتألم من نظراته..هو يحاوطها وهى تتملص من قبضته..هو يحبها بطريقته وهى تُريد أن تُحب بكل الطرق الأخرى.. فاجئتنى أيضا الفنانة التونسية ميلادا المصرية كيانا (دُرة)..وعلى الرغم من أن دور دُرة كما جاء بالتتر هو دور ضيفة الشرف، إلا أنه دور بطولة بلا جدال، فهى قد أثبتت أن مساحة الدور ليست لها أى علاقة بقوة تأثيره..فالفنانة الجميلة شكلا وموضوعا، إستطاعت من خلال مشهد حار جدا أن توصل لجمهورها بدموعها الساخنة وأنفاسها المتهدجة بأنها زوجة خائنة..خانت زوجها وهى مسكونة بحبه..سقطت فى هوة الخيانة الجسدية وبقى قلبها طاهرا عفيفا.. ومن خلال مشهد رائع إعترفت فيه لسيد العجاتى بأنها سلمت جسدها لآخر على الرغم من أن عقلها وقلبها ملك لضابط الشرطة الذى تزوجته عن حُب..لكن حين تغلبت حاجتها المادية على حُجتها الإنسانية وقعت فى براثن الخطأ..واستطاعت دُرة أن تجعلنا نتعاطف معها ونبكى لإنتحارها على الرغم من رائحة الخطيئة التى تفوح من أنفاسها.. ولا يسعنى هنا أيضا إلا أن أنحنى إحتراما وإعجابا بدور الفنانة (معالى زايد) إبنة الزمن الجميل المعجونة بالموهبة..ولا أخفى عليها سرا، فقد ذكرتنى بالعملاقة آمال زايد حين كانت ترتدى نفس الحُلة..نعم..إبن الوز عوام..وعوام قوى.. وعلى الرغم من كون الرواية قد كُتبت فى مرحلة سابقة إلا أنها أشارت لواقع أليم نعيشه ونماذج من البشر كانت ولازالت وستبقى دوما موجودة حولنا فى كل زمان..وهكذا جاء نموذج الشيخ سعد العجاتى الذى يحلل لنفسه الخطايا ويحرمها على الجميع بدافع الدعوة والقوامة هو النموذج الأكثر إيلاما وقسوة..فهو النموذج الذى إنتشر أيام حكم السادات وتفشى فى أيام مبارك واستشرى إبان حكم الأخوان.. الدعوة بالباطل..والتمسك بالشرعية المرتعشة..والحكم على الأمور بمكيالين..هى أخلاق أصحاب اللُحى الزائفة ومُدعى الدين بالأمس واليوم..وندعو الله ألا يكون لهم تواجد بيننا غدا.. موجة حارة مسلسل إكتملت له كل أركان النجاح، وامتزجت كل عناصره من سيناريو وتصوير وممثلين وإخراج، لتصنع عملا جذب المشاهد منذ بدايته وحتى حلقاته الأخيرة لمتابعته بنفس الحماس، حتى وإن شعرت فى بعض حلقاته الأخيرة بشئ من التكرار وبعض من المط.. لا يسعنى أيضا سوى أن أبعث بتحية خاصة للكاتب (مدحت العدل) الذى أرسل إلينا رسالتان هامتان من خلال مسلسل "الداعية" فى وقت حرج لمجتمع يحاول الخروج من كبوة الثورة إلى نور الحرية، فالرسالة الأولي هى تسليط الضوء على شخصية خطيرة ومؤثرة فى أجيال لا تقرأ ولا تبحث عن المعلومة إلا من خلال شاشات الفضائيات والإنترنت، وهى شخصية الداعية، حيث تتوه الفتاوى وتختلط الآراء وتخرج الدعوى من إطار الهداية إلى الورطة..فالداعية شخص يصنع المال من خلال التسبيح بحبات سبحته ويرتدى ثوب الشهرة فوق رداء الدين ليصبح خطرا أشد من الكوليرا من حيث التفشى السريع..إنه يمنح صكوك الغفران ويمنعها بزر فى الريموت كونترول.. والرسالة الثانية هى للداعية نفسه ولكل من تشوشت أفكارهم بالسير وراء فتاوى الضلال فى قطيع مُغيب فكريا وذهنيا، الرسالة تؤكد على أن الخروج من الأزمة لن يكون سوى بالحب، فهانى سلامة بطل المسلسل حين وقع فى غرام بسمة وأحب عالمها، تحول من الغلظة إلى السماحة ومن الكُره إلى الحُب..فتذوق الشعر واستمتع بالموسيقى وتثقف بالأدب ليخرج من شرنقة التشدد الدينى إلى دنيا رحبة من المفردات الحياتية..