كانت المؤسسات التعليمية في العصر الفاطمي عاملا مهما في تحقيق النهضة، فبدأ الأمر من الكتاتيب ثم المساجد، وتطور رويدا رويدا إلى أن أسست المدارس بعد المكتبات والقصور. الكتاتيب تعد أبرز وأهم مرحلة من مراحل التعليم في الدول الإسلامية عامة، وهي أماكن لتعليم الصبيان كمرحلة أولى ينتقل بعدها إلى المسجد، وانتشرت الكتاتيب في الدولة الفاطمية انتشارا كبيرا، فتعددت أسمائها، مكاتب، حوانيت وغيرها، يرسل لها الصبي في سن مبكرة، وحياته فيها فطرية في غالبها، فأوقات الدراسة فيها كانت تحدد بعلامات طبيعية، شروق الشمس يعتبر بداية اليوم الدراسي في الكتاب وآذان العصر نهايته، ومن ثم يطول اليوم أو يقصر تبعا لشروق الشمس وآذان المغرب، وكان الذهاب له يوميا عدا الجمعة أو المواسم الرسمية. ومثّل الدين عماد الدراسة في الكتاب، وأهم مواده القرآن الكريم، ويقول ابن خلدون عن ذلك: "أعلم أن تعلُّم الولدان القرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائد من آيات القرآن، وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني ما يحصل بعد من ملكات، وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخا، وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات". كان معلم الكتاب يحفظ الصبي السور القصار بعد تأكده من معرفة الصبي للحروف وضبطها بالشكل، كما كان يتعلم الخط والحساب وحفظ بعض الأشعار، بالإضافة إلى تعليم الصلاة في سن السابعة ويضربه عليها في العاشرة، والأمر الملفت أن الصبي كان يتعلم السباحة أيضا. المساجد لم تكن المساجد بمنأى عن دروس العلم، بل كانت مصبه الأول، لا سيما أن الفاطميين جاءوا بمذهب شيعي وكانوا يعملون على نشره في مصر، وهو مغاير لمذهب المصريين السني، ونظرا لمكانة المساجد، صب الفاطميون جل اهتمامهم عليها، لتنطلق منها دعوتهم. ومن أشهر المساجد التي اهتم بها الفاطميون قبل بناء الجامع الأزهر، كان جامع عمرو بن العاص الذي أطلق عليه الجامع العتيق، وتاج الجوامع، وكان دارا للعبادة ومعهدا للدراسة في آن، ويصفه ناصر خسرو في أيام المستنصر قائلا: "ويقيم بهذا المسجد المدرسون والمقرئون، وهو مكان اجتماع سكان المدينة الكبيرة، ولا يقل من فيه في أي وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتاب الذين يحررون الصكوك". ولجامع ابن طولون نصيب كبير أيضا من اهتمام الفاطميين، وعندما حُرق جزء منه، أمر الخليفة الفاطمي العزيز بالله بترميمه فعاد أفضل مما كان عليه، ورغم عدد المساجد التي أقامها الفاطميون، إلا أنه القائد جوهر السقلي أنشأ جامعهم الخالد الأزهر، الذي أصبح الرمز الأول في انطلاقة المذهب الشيعي، بيد أن التعليم في الجامع الأزهر لم يتوقف على المذاهب الدينية فقط، أبل ُقيمت فيه حلقات علم للعلوم الأخرى، مثل الرياضيات والطب والفلسفة والمنطق وغيرها. دار الحكمة أنشأها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 359ه 1005م في القاهرة على مثال بيوت العلم في بغداد وقرطبة، واهتم بها كثيرا، وأجرى عليها الأموال وجعل فيها أناسا يقومون عليها، وكانت الحلقات الدراسية في دار الحكمة كثيرة ومتنوعة، فشملت أيضا إلى جانب العلوم الدينية علوم الفلك والفلسفة والمنطق واللغة والطب، ورتب فيها أساتذة لتدريس الناس العلوم. المكتبات كانت لا غنى عنها في العصر الفاطمي بالنسبة للخلفاء والوزراء، فهم أصحاب مذهب جديد ولا بد لهم من الثقافة والمناظرات، كما أنها دليل واضح على مقدار العلم والتعليم في آنذاك، وانتشار الآداب والعلوم، ونجد الخلفاء الفاطميين حريصين على جمع أكبر عدد من الكتب والحصول على أندر المؤلفات في جميع العلوم. ويقول لنا المقريزي أنه ذُكر عند الخليفة العزيز بالله كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، فأخرج منه نيفا وثلاثين نسخة من خزائنه منها واحدة بخط الخليل نفسه، كما ذكرت عنه جمهرة بن دريد فأخرج منها مائة نسخة، ومن ثم تركزت هذه الكتب بالخزائن الموجودة بالقصر، وخزائن دار العلم والمارستان، كذلك وجد بعضها بالمساجد، مما أثرى الحياة الأدبية والعلمية في هذا العصر من خلال المنهج التعليمي السليم. القصور كانت في عهد الفاطميين عامرة بمجالس الأدب والمناظرت، ساعد على ذلك حب شغف الفاطميين أنفسهم بالأدب، فيذكر الصنهاجي أن أن العزيز بالله كان أديبا يقرض الشعر، والحاكم أيضا كان يحب العلم ويفرب أصحابه، والمعز كان عالما وشغوفا بعلم النجوم، فكان حب العلم والشغب به سمة كل الخلفاء الفاطميين. ويذكر لنا القاضي النعمان بن محمد قصة تظهر مدى احترامهم للعلم وتقديسهم له، وهي أن الخليفة المهدي سرقة منه بعض الكتب عندما كان متوجها من مصر إلى سجلماسة، وهي الكتب التي استرجعها الخليفة القائم بأمر الله في غزوته الأولى لمصر، فقال المهدي عن ذلك: "لو لم تكن هذه الغزوة إلا لرد هذه الكتب لكان ذلك فتحا عظيما.."، هذا كان السر في تقدم الفاطميين علميا. كانت تعقد المجالس دائما في القصور فيحضرها الشعراء والأدباء والعلما، غير أنهم جعلوا مجلسا للرجال ومجلسا للنساء، أي لم يقتصر العلم على جنس بعينه، وكان يؤم هذه المجالس شيوخ الدولة ويشرف خدم القصر على الوافدين عليها سوء من العامة أو من العلماء. المدارس جاءت المدارس ليس لقصور الأماكن الأخرى عن تأدية دورها، بل كنوع من التطور، أو ربما لمبارزة المذهب الشيعي والحد من انتشاره، لا سيما أن الفاطميين عولوا على ذلك كثيرا، فكانت أول المدارس في الإسكندرية التي تبعد عن القاهرة وما يحاك فيها لنشر مذهب الفاطميين، فجاءت المدارس وأولها مدرسة الطرطوشي، نسبة لمحمد بن الوليد الفهري الأندلسي المعروف بابن أبي رندقة، ولد ببلدة طرطوشة من بلاد الأندلس، ودرس فيها المذهب المالكي والشافعي. أما الثانية، فهي مدرسة أبي الطاهر بن عوف، وهو إسماعيل بن مكي بن إسماعيل بن عوف، واشتملت المدرسة على مساكن للطلاب لكي تكون محلا لهم وسكنا، وكان يطلق لهم من ديوان الخليفة ما يأودهم ويعينهم على التفرغ للدراسة، أما الثالثة التي أقيمت في الإسكندرية، فهي مدرسة الحافظ السلفي أبي طاهر عماد الدين أحمد بن محمد الأصفهاني، وكان شافعي المذهب أيضا.