عرضنا خلال المقالات الأربع السابقة لحالة الإفتاء المصري في عصر الصحابة، ثم عصر التابعين وتابعيهم، ثم في عصر الأئمة وتلاميذهم حتى بداية العصر الفاطمي. واليوم نستكمل الحديث عن حالة الإفتاء المصري في العصر الفاطمي، فلم يكن دخول مصر في حوزة الفاطميين سنة 296ه/ 908م يعني سقوط دولةٍ وقيام أخرى كما هو الحال في عصري الطولونيين والإخشيديين، فقد كان العصر الفاطمي انقلابًا دينيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا بعيد المدى، فلأول مرة بعد ثلاثة قرون تخضع مصر لحكم دولة لا تدين بالولاء للخيفة العباسي السني في بغداد، فقد أوجدوا خلافة شيعية مناهضةً للخلافة العباسية السنية، وأوقفوا العمل بمذاهب أهل السنة، وأوجدوا منصبًا جديدًا في القضاء هو منصب "قاضي القضاة" الذي كان يُختار من بين الشيعة الاسماعيلية، كما أوجدوا منصب "داعي الدعاة" لنشر المذهب الشيعي في مصر، وأذنوا "حي على خير العمل، محمد وعلي خير البشر" وصاموا رمضان ثلاثين يومًا بدون اعتبار لرؤية الهلال، وقصروا الوظائف على أتباع مذهبهم، وفضلوا توظيف أهل الذمة من اليهود والنصارى على المسلمين من أهل السنة، واضهدوا علماء أهل السنة حتى ألجأوا كثيرين منهم للهجرة خارج مصر، بل وصل الأمر إلى حد صدور أمر صريح من الخليفة الفاطمي الظاهر بنفي من وجد في مصر من فقهاء المالكية وغيرهم من أهل السنة. وكانت النتيجة أن خلت مصر من فقهاء أهل السنة، ورحل كثير منهم إلى المشرق الإسلامي فأقاموا في بغداد ودمشق وغيرها، ولقد راجعت تراجم الفقهاء الشافعية من كتاب "طبقات الشافعية الكبرى" للتاج السبكي، فوجدت أن مصر التي كانت قبلة فقهاء الشافعية من كل مكان، والتي كان فقهاء الشافعية فيها ملء السمع والبصر قبل العصر الفاطمي، قد خلت منهم تمامًا أثناء العصر الفاطمي واستمر الأمر على هذا الحال حتى بداية العصر الأيوبي عندما أبطل صلاح الدين المذهب الشافعي وأعاد لمذاهب أهل السنة اعتبارها خصوصًا المذهب الشافعي. ولم يشذ عن قاعدة التدهور السني تلك إلا بعض من فقهاء المالكية الذين فروا من بلاد المغرب والأندلس إلى مصر، وأقاموا في الإسكندرية التي لعبت دور المقاوم للمد الشيعي في مصر، حيث يعود لهم الفضل في بقاء علقة أهل السنة في مصر طوال العصر الفاطمي، وساعدهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في أواخر أيامها، ونتيجة لما شهدته من ضعف سياسي وأزمات اقتصادية ومجاعات؛ تراجعت عن سياسة التشديد على أهل السنة، وسمحت ببناء المدارس السنية، فكان أولها وأشهرها المدرسة التي بناها الفقيه المالكي أبو بكر الطرطوشي بالإسكندرية ودرَّس فيها بنفسه. كما سمحت الدولة الفاطمية بتعيين قضاة من أهل السنة، بل وصل الأمر إلى حد تولي بعض أهل السنة منصب الوزارة، وكان أول وزير سني في الدولة الفاطمية هو رضوان بن وَلَخْشي سنة 531ه/ 1137م، الذي عمل على استرضاء أهل السنة من المصريين، فسمح ببناء مدرسة مالكية ثانية بالإسكندرية عُرفت باسم "المدرسة الحافظية" نسبة إلى الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، وتولى التَّدريس فيها الفقيه المالكي أبو الطاهر بن عوف، كما أنشأ الوزير السُّني العادل بن السَّلار مدرسةً شافعية بالإسكندرية أيضًا، تولى التدريس فيها المحدِّث الشافعي الكبير أبو الطاهر السِّلَفِي. وقد ساهمت تلك المدارس الثلاث في تخريج جيل جديد من المفتين والفقهاء من المالكية والشافعية، سيكون لهم الدور الأكبر في إنعاش الحركة الفقهية في العصر الأيوبي. ولما تولى الناصر صلاح الدين الأيوبي الوزارة في مصر سعى في إسقاط الدولة الفاطمية بشكل تدريجي، فبدأ بإنشاء المدارس الدينية السنية في القاهرة، وأهمها "المدرسة الناصرية" نسبةً إليه، ثم قام بعزل قاضي القضاة الشيعي وعين قاضيًا شافعيًّا مكانه، هو القاضي صدر الدين عبد الملك بن درباس الهمداني، وعندها أظهر الناس مذهبي مالك والشافعي بالديار المصرية، وأبطلوا رسوم الفاطميين، ثم كانت الخطوة الأخيرة التي تمثلت في عزل آخر خلفاء الفاطميين العاضد لدين الله، وبدأ العصر الأيوبي الذي شهد تحولًا كبيرًا في الفقه والفتوى على مذاهب أهل السنة. ولو استعرضنا أهم المفتين في مصر خلال العصر الفاطمي سنجد أن مصر خلال العصر الفاطمي الأول قد خلت من المفتين من أهل السنة، ثم بدأ يظهر على الساحة بعض فقهاء المالكية من أهل الإسكندرية الذين كان شيخهم بمثابة شيخ علماء مصر ومفتي الديار المصرية، ومن أشهرهم أبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 520ه/ 1059م، وقد جاء إلى مصر مهاجرًا من المغرب سنة 490ه، ومن أشهر فتاواه فتواه في الصوفية، حيث سئل بسؤال نصه: ما يقول سيدنا الإمام الفقيه في مذهب الصوفية؟ فأجاب بقوله: "مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلًا جسدًا له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون... فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها". ومن فقهاء المالكية أيضًا أبو الطاهر بن عوف المتوفى سنة 581ه/ 1185م، الذي وصفه ابن تغري بردي بأنه "شيخ المالكية بثغر الإسكندرية" كما وصفه لسان الدين بن الخطيب بأنه "مفتي الديار المصرية ورئيسها". ولم يختلف الحال عند الشافعية، فلم يظهر من فقهائهم بمصر في العصر الفاطمي إلا مجلي بن جميع الذي ظهر في أواخر العصر الفاطمي، وتوفي سنة 550ه/ 1155م، والذي نشأ فردًا وحيدًا حيث يقول عنه ابن القليوبي إنه "تفقه من غير شيخ" وهذا دليل على ندرة الفقهاء الشافعية بمصر، ولكنه نبغ واشتهر وصار له تلاميذٌ كثيرون أشهرهم العراقي شارح المذهب وأحد أعلامه، وأصبح مجلي بن جميع مفتي مصر وأحد أئمتها، حيث قال عنه التاج السبكي: كان من أئمة الأصحاب وكبار الفقهاء وإليه ترجع الفتيا بمصر"، ولم يظهر غيره من الفقهاء الشافعية طوال العصر الفاطمي، فلم يكن الحافظ السلفي مفتيًا، وإنما برع في علوم الحديث، ولم تُرصد له إلا فتاوى نادرة. وفي المقالة القادمة بمشيئة الله نتحدث عن نهضة الإفتاء في العصر الأيوبي.