تَحدَّثنا في المقالة الثانية عن أشهر المفتين في مصر من الصحابة، والآن نتحدث عن أشهر المفتين في مصر من التابعين وتابعي التابعين: وقد بدأت ملامح مدرسة الإفتاء المصري في عصر التابعين تتشكل مع ولاية عبد العزيز بن مروان سنة خمس وستين، فهي السنة التي توفي فيها عبد الله بن عمرو بن العاص، ولم يبق أحدٌ من الصحابة المفتين بمصر بعده، وقد تتلمذ على يدي عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، وغيرِهما من الصحابةِ عددٌ كبيرٌ من التابعين الذين لازموهم وأخذوا عنهم، ومارسوا الإفتاء بعدهم، بل إن بعضَهم مَارَس الإفتاء في حياة الصحابة. وقد برز عدد من التابعين في الإفتاء، وحمل كلٌ منهم لقب "مفتي الديار المصرية" في عصره، أو "مفتي أهل مصر" أو "فقيه مصر ومفتيها" إلى غير ذلك من الألقاب التي أطلقها المؤرخون وأصحاب كتب التراجم على من تصدر منهم للفتوى، وهي ألقاب لم تكن تمنح جزافًا. وقد أحصى لنا المؤرخون تسعة من التابعين الذين برزوا في مجال الفتوى، أولهم عبد الله بن مالك الجيشاني المتوفى سنة 77ه، وهو تلميذ الصحابي معاذ بن جبل، وراوية الحديث عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي ذر، وقيس بن سعد بن عبادة رضوان الله عليهم أجمعين، قد تصدر للتدريس والإفتاء بمصر غير أنه لم يشغل منصبًا رسميًا للفتوى بل كان عمله تطوعيًا. أما أول المفتين الرسميين في مصر فكان عبد الرحمن بن حجيرة المتوفي سنة 83ه، فقد كان من كبار التابعين ومن رواة الحديث الثقات، وكان مقربًا من عبد العزيز بن مروان، فأجلسه للفتوى في مجلسه، وبذلك شغل وظيفة الإفتاء بتكليف من والي مصر فكان أول من جلس للفتوى بشكل رسمي، ومن فتاواه أنه أول من أفتى بجواز وطء الحامل في أي وقت من حملها ما لم تثقل أو يحضرها نفاس، وكان لا يحجر على السفيه في ماله بل يشهره بين الناس وينهاهم عن معاملته، ويقر ماله بيده يصنع به ما شاء. أما ثاني المفتين الرسميين فهو مُرْثد بن عبد الله اليَزَني المتوفى سنة 90ه، والذي أجلسه عبد العزيز بن مروان للفتيا، ووُصِف بأنه مفتي مصر في كثيرٍ من المصادر. ثم تلاه نافع مولى عبد الله بن عمر المتوفى سنة 117ه، وقد تتلمذ نافع على مولاه عيد عبد الله بن عمر وروى عنه الحديث، وسنده عنه هو أصح الأسانيد عند البخاري، وقد أرسله الخليفة عمر بن العزيز بن مروان إلى مصر سنة 99ه ليعلم أهل مصر السنن، فجلس للتدريس والفتوى وكان هو ثالث المفتين الرسميين بمصر. ثم تلاه الإمام الثقة بُكَير بن عبد الله الأشَج المتوفى سنة 122ه، الذي كان متصدرًا للفتوى بصفة تطوعية. أما رابع المفتين الرسميين في مصر فهو يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128ه، والذي كان عبدًا أُسِر طفلًا في حملة عبد الله بن سعد بن أبي السرح على إقليم النوبة سنة 31ه، ثم لم يلبث أن أعتقه سيده فاشتغل بطلب العلم، قال عنه المؤرخون: "كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليمًا عاقلًا، وكان أول من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب في الخير". ولما تولى أيوب بن شُرَحْبيل ولاية مصر اختار ثلاثة من أعلام التابعين وأجلسهم للفتوى هم: يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر المتوفى سنة 132، وهو خامس المفتين الرسميين، وجعفر بن ربيعة المتوفى سنة 136ه وهو سادس المفتين الرسميين بالديار المصرية، وآخر من تصدر للفتوى من التابعين. ثم بدأت مدرسة تابعي التابعين تتشكل في مصر في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وكان على رأسهم الإمام الحافظ عمرو بن الحارث المتوفى سنة 148ه، وقد تصدر للإفتاء في زمن التابعين، وجلس للفتوى في زمن يزيد بن أبي حبيب، وقال عنه الإمام النووي: "وأما عمرو بن الحارث فهو مفتي أهل مصر وقارئهم"، وقال عنه ابن حجر العسقلاني: "كان عالم الديار المصرية ومحدثها ومفتيها"، ولكنه بالرغم من تصدره للفتوى إلا كان يعمل متطوعًا. ثم تصدر للفتوى بعده قاضي الديار المصرية ومفتيها ومحدثها عبد الله بن لُهيعة المتوفى سنة 174ه، عينه الخليفة أبو جعفر المنصور قاضيًا على مصر، وهو أول من تولى القضاء في مصر من قِبل العباسيين، وهو أول من خرج من قضاة مصر لاستطلاع هلال شهر رمضان، ومن أشهر فتاواه أنه لما أمر والي مصر علي بن سليمان بهدم الكنائس بمصر وقام الخليفة هارون الرشيد بعزله وعين مكانه موسى بن عيسى، أفتى ابن لهيعة هو والليث بن سعد بجواز بناء الكنائس التي هُدِّمت وقال عبارته الشهيرة: "هو من عمارة البلاد". وقد عاصره إمام مصر وشيخ الإسلام الليث بن سعد المتوفى سنة 175ه وهو إمام غني عن التعريف كان مجتهدًا صاحب مذهب، أستاذًا للإمام الشافعي، لولا أن تلاميذه لم يقوموا بواجبه كما قام تلاميذ الشافعي بنشر علمه على الناس. قال عنه النووي: "وأما الليث بن سعد فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته وشهادة أهل عصره بسخائه وسيادته وغير ذلك من جميل حالاته أشهر من أن تذكر.. وكان قد استقل بالفتوى في مصر في زمانه". وهو آخر من تصدر للإفتاء بمصر من تابعي التابعين. وفي المقالة الرابعة نتحدث بمشيئة الله عن المفتين بمصر من أصحاب الإمامين مالك والشافعي، فإلى الملتقى.