ذكرت في المقالة السابقة أنني اتفقت مع الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق، والدكتور صابر عرب وزير الثقافة السابق على أن تصدر هذه الموسوعة في أربعة مجلدات، وأن تحمل عنوان (الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة) وبالفعل صدر المجلد الأول في مطلع سنة 1431ه/ 2010م ، وقد تكوّن المجلد الأول من ستمئة صفحة، وسبعة فصول، تغطي تسعة قرون من تاريخ الإفتاء المصري، بداية من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر المملوكي. ثم صدر المجلد الثاني في مطلع سنة 1434ه/ 2013م، وضم ستمئة صفحة وسبعة فصول أيضًا، وقد سار ترقيم المجلد الثاني مكملًا للمجلد الأول، فبدأ بالصفحة رقم 601 وانتهى بالصفحة رقم 1200، وتضم هذه الصفحات الفصول من الثامن إلى الرابع عشر. وقد غطى هذا المجلد ثلاثة قرون، هي فترة الحكم العثماني لمصر من بداية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، حتى بداية القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، أي منذ دخول السلطان العثماني سليم الأول لمصر، حتى تولية محمد علي باشا حكم مصر. وواجهَت المجلد الثالث بعضُ المشكلات التي تمثلت في انتهاء فترة تولية الدكتور علي جمعة لمنصب الإفتاء، وانتخاب مفتٍ جديد هو الدكتور شوقي علام، وكذلك انتقالي للعمل في جامعة الملك فيصل بالمملكة العربية السعودية، واحتياجي لبعض الوقت للسفر والتكيف مع العمل الجديد، ونقل الأسرة وإدخال الأولاد في مدارس سعودية وما وراء ذلك كله من إجراءات ومستندات وتوثيقات. ولكن المفتي الجديد الدكتور شوقي علام بعد أن اطلع على الجزأين الأولين لفت انتباهه أهمية الموضوع وعمق الدراسة، وتعجب من عدم استكمال الموسوعة، وفوجئت به يتصل بي، ويحثني على سرعة إنهاء الكتاب، وتكررت اتصالاته وزاد دعمه وتشجيعه، فعاد إليّ نشاطي وتركيزي، وواصلت العمل في الموسوعة بهمة ونشاط، وأخيرًا صدر المجلد الثالث من هذه الموسوعة منذ أيام، مطرزًا بتصدير قيم من فضيلة الدكتور شوقي علام، وقد تكون هذا المجلد من ستمئة وعشرين صفحة، وخمسة فصول، بداية من صفحة 1201 حتى صفحة 1820، تضم الفصول من الخامس عشر حتى التاسع عشر. وهو يغطي تاريخ الإفتاء المصري في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. أما المجلد الرابع فقد انتهيت منه تقريبًا، وهم يضم خمسة فصول ناهزت الألف صفحة، وإن كنت أفكر في قسمته إلى مجلدين، ولكن الأمر سيتوقف على ما يؤول إليه الشكل بعد التبييض النهائي لهذا الجزء، الذي يستكمل تاريخ الإفتاء المصري في القرن الثالث عشر الهجري، خصوصًا إفتاء الأقاليم، حيث عرضت تراجم وافية لكل من شغل مناصب الإفتاء في كل محافظات مصر، ثم رصدت تاريخ دار الإفتاء المصرية وترجمت لكل من شغل منصب مفتي الديار المصرية حتى الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي ومفتي الديار المصرية الأسبق. ثم نخصص الجزء الخامس أو السادس- إذا قسمنا الرابع إلى جزأين- لواقع دار الإفتاء المصرية اليوم، ونرصد فيه ما شهدته من تطورات في دولاب العمل في عهدي الدكتور علي جمعة والدكتور شوقي علام. وفيما يلي نعرض لأهم القضايا التي ناقشناها في الأجزاء التي صدرت وبعض الشخصيات المحورية في تاريخ الإفتاء المصري. وقد جعلت الفصل الأول بمثابة تمهيد للموسوعة، تحت عنوان "الإفتاء: مفاهيم وأحكام"، وعرضت فيه للمعاني المختلفة للفتوى من ناحية اللغة والاصطلاح، وحُكمِها ومكانتها، كما عَرَضْتُ لأركان عملية الفتوى: المفتي والمستفتي وأمين الفتوى، كما انتقلت إلى موضوع متصل بها وهو كتب الفتاوى، وذَكَرْتُ أشهر ما وُضِع في هذا المجال في العالم الإسلامي كله. ثم عَرَضْتُ في القسم الثاني من هذا الفصل للشروط والآداب المرتبطة بكل من المفتي والمستفتي والفتوى. وميزت بين الفتوى والاجتهاد، والفارق بين المفتي والقاضي، وناقشت كثيرًا من القضايا المهمة بالنسبة للفتوى كمسألة خطأ المفتي، أو رجوعه عن فتواه. وقد نسب الله سبحانه وتعالى الفتوى إليه وتولاها بنفسه، فقال: }وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ( (سورة النساء: 127)، وقال تعالى: }يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ(. (سورة النساء: 176). ثم كان محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم- أول من قام بمنصب الفتوى عن الله سبحانه وتعالى، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، فمنها قوله تعالى: }وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ( (سورة البقرة: 122). فكانت فتاواه- صلى الله عليه وسلم- جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلًا. ثم نهض بعده بهذا الشرف الرفيع جماعة من أصحابه الذين أخذوا الدين من منبعه الصافي، فالتزموا أوامر الشريعة وأحكامها، وأفتوا الناس حسبما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلوا العلم إلى من وراءهم، مصداقًا لقوله- صلى الله عليه وسلم-: تَسْمعون، ويُسْمَع منكم، ويُسْمع ممن سَمِع منكم". والذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله مئة ونيف وثلاثون نفسًا، ما بين رجلٍ وامرأة. منهم المُكثرون في الفتوى، ومنهم المتوسطون، ومنهم المُقلون. وانتشر الصحابة في الأمصار، فمنهم من ذهب إلى العراق، ومنهم من ذهب إلى اليمن، ومنهم من ذهب إلى الشام، ومنهم من أقام في مصر، ومن هنا بدأت حديثي عن "الإفتاء المصري" – الموضوع الأساسي للكتاب– بداية من الفصل الثاني، حيث خصصت لكل عصرٍ فصلاً، فاختص الفصل الثاني بأشهر من مارس الإفتاء في مصر من الصحابة ومن سار على نهجهم من التابعين وتابعيهم. وهنا أنوه إلى أنني لم أتحدث عن كل من دخل مصر من الصحابة، بل من مارس الإفتاء في مصر منهم فقط. كذلك لم أترجم لكل التابعين الذين عاصروا الصحابة وتعلموا منهم، بل ترجمت فقط لكل من تصدر للفتوى منهم في مصر. وفي ثنايا حديثي تعرضت لمنصب الفتوى في مصر ومن شغله منهم. ثم انتقلت بعد ذلك إلى تابعي التابعين، وهم الجيل الثالث من الموقعين الذين تعلموا على أيدي التابعين، وجلسوا الفتوى في مصر. وقد شهد فتحَ مصر عددٌ كبير من الصحابة، فمنهم: الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والمقداد بن الأسود، وأبو رافع مولى رسول الله، وعقبة بن عامر الجهني– وهو كان رسول عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يأمره بالرجوع عن فتح مصر إن لم يكن قد دخلها– وعبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الدرداء، وغيرهم كثيرون رضي الله عنهم أجمعين. وقد قام أولئك الذين استقروا بمصر من الصحابة بنشر الدعوة والتدريس، وبالإضافة إلى ذلك فقد اضطلعوا بمهمة الإفتاء وتعليم الناس أمور دينهم، والإجابة على كل ما يستجد من أمور لم تكن مشاهدة على عصر الرسول r أو لم يعرفها المسلمون في الحجاز؛ لاختلاف البيئات والظروف والعادات والتقاليد. وكان من أشهر الذين مارسوا وظيفة الإفتاء في تلك الفترة: عقبة بن عامر الجهني، وعبد الله بن عمرو بن العاص. وكان عقبة أول من تصدى للفتوى، وأشهر من أفتى في مصر من الصحابة، ولذلك تصدر اسمه عنوان موسوعة (الإفتاء المصري) هذه، وقد تولى إمارة مصر مرتين، وقاد أسطول مصر لغزو جزيرة رودس في البحر المتوسط، كما كان راوية للأحاديث النبوية، فذكر ابن عبد الحكم في كتابة (فتوح مصر وأخبارها) أن أهل مصر يروون عن عقبة بن عامر نحو مئة حديث، وذكر منها عددًا كبيرًا، أشهرها قوله: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: {من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار}. وكان عقبة قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، وكان الصحابة يستفتونه في أمور دينهم. ويكفي أن كل المفتين المصريين من جيل التابعين قد تتلمذوا على يديه كما سوف نرى. وقد توفي عقبة بمصر سنة 58ه ودفن في قرافتها، وقبرها بها معروف يزار. ومن أشهر الفتاوى التي تنسب إلى عقبة والتي أُخذ بها في معاملة المصريين على الدوام: فتواه بأن أرض مصر خراجية لأنها فُتحت صلحًا، وهو الرأي الذي أخذ به المفتون من بعده، منهم: يزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وغيرهما ممن سنذكر ترجماتهم بمشيئة الله في المقالة التالية.