كان أول من اهتم بتاريخ دار الإفتاء المصرية، ودعا المؤرخين إلى البحث في هذا المجال هو فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر ومفتي جمهورية مصر العربية الأسبق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الذي اهتم بنشر نصوص الفتاوى التي أصدرتها دار الإفتاء المصرية خلال القرن الماضي، وأصدر منها عشرين مجلدًا، وقدَّم لها بتمهيدٍ طويل عن مكانة الإفتاء وأهمية مؤسسة الإفتاء المصرية، وابتهل في هذا التقديم إلى الله تعالى قائلًا: "ولعل الله أن يقيض من العلماء المؤرخين الفاقهين من يؤرخ لمفتيي مصر، وينشر على الناس فقههم؛ فإن فيه بلا شك إثراءٌ للفقه الإسلامي في حقب الزمان المتتالية". وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة، فاستجيبت دعوة الشيخ جاد الحق، وظهرت إلى النور بعد حين، فلما تولَّى الدكتور علي جمعة منصب مفتي جمهورية مصر العربية، اهتم بهذا الأمر، وحرص على نقل سجلات الفتاوى من دار الإفتاء إلى دار الوثائق القومية لتكون متاحة للباحثين، واتفق مع الدكتور محمد صابر عرب- رئيس دار الكتب والوثائق القومية- على اختيار باحثٍ مؤرخ: له إلمامٌ بالفقه وأصوله، والمذاهب وتاريخها، والقضاء ومؤسساته، والقانون وتشريعاته؛ ليقوم بكتابة تاريخ دار الإفتاء المصرية، ووقع الاختيار على العبد الفقير، واجتمعت بهما في مكتب المفتي في شهر ربيع الآخر سنة 1429ه/ إبريل سنة 2008م، وكُلفت بهذا المشروع، وقدَّما لي دعمًا كبيرًا وفتحا لي أرشيفات دار الإفتاء ودار الوثائق، وبدأت في جمع المادة العلمية للكتاب، فوجدت أن الأمر أكبر مما كنت أتخيل وأعظم، وأن مؤسسة الإفتاء المصري أقدم وأعرق، فقررت الرجوع إلى الفترة التي سبقت نشأة دار الإفتاء المصرية المفترضة سنة 1313ه/ 1895م، فوجدت أن مصر في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي قد شهدت منظومة من مؤسسات الفتوى منتشرة في كل أقاليمها ووزاراتها ومجالسها، فهناك مفتي السادة الحنفية بالديار المصرية، ومفتي السادة المالكية بالديار المصرية، وإلى جانبهما شيخ الأزهر الشافعي، وهناك مفتي الأوقاف، ومفتي الحقانية، ومفتي مجلس الأحكام ومفتي المجلس الخصوصي، ومفتي المعية السنية، ولكل محافظة ومديرية مفتٍ، ولكل محكمة شرعية مفتٍ. ورجَّحت أن كل هذا لم يأت من فراغ، فرجعت إلى العصر العثماني، فوجدت مناصب الفتوى منتشرة في أقاليم مصر، ووجدت على رأس الفتوى في مصر أربعة مفتين من المذاهب الأربعة، كما رصدت ظهور منصب "مفتي السلطنة العثمانية الشريفة بالديار المصرية"، وبعد أن جمعت قدرًا لا بأس به من المادة العلمية عن هذه الفترة، قرَّرتُ الرجوع إلى الفترة السابقة للعصر العثماني، لعلي أجد فيها ما يشفي غليلي عن أصول هذه المؤسسة، فوجدت في العصر المملوكي مؤسسة الفتوى واضحة المعالم كاملة الأركان، تنتظم فيما عُرف باسم "دار العدل"، حيث كان هناك أربعة مفتين من المذاهب الأربعة يعملون في دار العدل هم: مفتي دار العدل الشافعي، ومفتي دار العدل المالكي، ومفتي دار العدل الحنبلي، ومفتي دار العدل الحنفي. وبالطبع كان لابد من تحديد فترة بداية لهذا الكتاب، فقررت البدء بالعصر المملوكي، ثم بعد أن قطعت شوطًا كبيرًا في جمع المادة وجدت أن منصب الفتوى أقدم وأعرق من العصر المملوكي، صحيح أنه في أغلب الفترات قبل العصر المملوكي لم يكن ثمة منصب رسمي للفتوى، لكن المؤكد أنه كان هناك مفتٍ متصدرٌ للفتوى دائمًا، وكانت فتواه محل احترام وتقدير من الحكام وعامة الناس، فقرَّرت تتبع هذه الشخصيات التي تصدرت للفتوى، حتى إن كتب التراجم أطلقت على كل منهم لقب المفتي، فمنهم من أُطلق عليه لقب "مفتي مصر"، ومنهم من سُمي "فقيه مصر ومفتيها" ومنهم من حمل صراحة لقب "مفتي الديار المصرية". وهكذا رجعت إلى الدكتور علي جمعة بعد بضعة أشهر من العمل، وعرضت عليه الأمر، حاملًا معي خطة للكتاب تشمل صدوره في ثلاثة مجلدات: الأول يغطي تاريخ الإفتاء المصري من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر المملوكي، والثاني يغطي تاريخ الإفتاء المصري في العصر العثماني ومحمد علي باشا وخلفائه حتى نشأة دار الإفتاء المصرية، والأخير يغطي تاريخ الإفتاء المصري من نشأة دار الإفتاء المصرية إلى الوقت الراهن. فوافق الدكتور علي على هذه الخطة، مع زيادة جزء رابع يخصص لواقع دار الإفتاء المصرية الآن وما شهدته من تطورات وتوسعات في الفترة الحالية. وبدأت العمل الجاد، وواصلت الليل بالنهار أجمع المادة وأصنفها وأكتبها، حتى صدر المجلد الأول في مطلع سنة 1431ه/ 2010م، وحمل الكتاب عنوان (الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة) وقد تكوَّن المجلد الأول من ستمئة صفحة، تغطي تاريخ الإفتاء المصري من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر المملوكي. وفي المقالة التالية سنعرض لأهم محتويات هذا المجلد ونستكمل عرض بقية المجلدات بمشيئة الله تعالى.