جمع ابن قيم الجوزية في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) كلَّ من تصدَّر للفتوى في مصر من التابعين وتابعيهم ومن تلاهم من أصحاب الإمامين مالك والشافعي في عبارة موجزة فقال: "ومن المفتين من أهل مصر: يزيد بن أبي حبيب، وبُكير بن عبد الله بن الأشج، وبعدهما عمرو بن الحارث والليث بن سعد، وعبيد الله بن أبي جعفر. وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب، وعثمان بن كنانة، وأشهب، وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأقل. ثم أصحاب الشافعي كالمُزني، والبُويطي، وابن عبد الحكم. ثم غلب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي، إلا قومًا قليلًا لهم اختيارات كمحمد بن علي بن يوسف، وأبي جعفر الطحاوي". وقد عرضنا في المقالة الثالثة لملامح مدرسة الإفتاء المصري في عصر التابعين وتابعيهم، والآن نعرض لملامح مدرسة الإفتاء المصري في عصر أصحاب الإمامين مالك والشافعي؛ فقد كان الإمام الليث بن سعد آخر الأئمة المجتهدين الذين لم يسيروا على مذهب معين وإن كان البعض قد عدَّه من أصحاب الإمام أبي حنيفة. وبعد وفاة الليث سنة 175ه/ 791م خلا الجو لأصحاب الإمام مالك بن أنس- المتوفى بالمدينةالمنورة سنة 179ه/ 795م- لنشر مذهبهم في مصر، والحق أنهم كانوا قد بدأوا ينشرونه في حياة الإمام مالك، وبمرور الوقت انتشر المذهب المالكي في مصر، وتحول الإفتاء إلى أصحاب مالك وتلاميذه الذين تصدروا المشهد الفقهي في مصر خلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، كما شاركوا تلامذة الإمام الشافعي في صدارة المشهد الفقهي خلال القرن الثالث الهجري. وكان أول من تصدر للفتوى من تلامذة مالك الإمام الحافظ عثمان بن الحكم الجُذامي المتوفى سنة 163ه/ 779م، وكان فقيهًا زاهدًا، عرض عليه الخليفة أبو جعفر المنصور أن يتولى قضاء مصر فأبى، وخاصم الليث بن سعد وهجره لكونه هو الذي دلَّ الخليفة عليه. قال عنه الإمام السيوطي: "هو أول من أدخل عِلْمَ مالك مصر، ولم يأتِ مصر أنبل منه". ثم تلاه عبد الرحمن بن القاسم المتوفى سنة 191ه/ 807م، والذي أجمعت المصادر على أنه كان عالم الديار المصرية ومفتيها، وهو أول من حمل الموطأ- كتاب الإمام مالك- إلى مصر، واشتهر بإجاباته على أسئلة رجل من المغرب يقال له أسد سأل بها محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة فلم يجبه، وسأل بها ابن وهب فلم يجبه، فأتى عبد الرحمن بن القاسم فأجابه عنها، فالناس يتحدثون بها. وتصدر المشهد الفقهي من بعده عبد الله بن وهب بن مسلمة الفهري المتوفى سنة 197ه/ 813م، قال عنه الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما عبد الله بن وهب فعلمه وورعه وزهده وحفظه وإتقانه وكثرة حديثه واعتماد أهل مصر عليه وإخبارهم بأن حديث أهل مصر وما والاها يدور عليه، فكله أمرٌ معروفٌ مشهور في كتب أئمة هذا الفن، وقد بلغنا عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه لم يكتب إلى أحد وعَنْوَنَه بالفقه إلا إلى ابن وهب". وذكر الإمام شمس الدين الذهبي أن الإمام مالك كان يكتب رسائله إليه معنونة بعبارة "إلى عبد الله بن وهب مفتي أهل مصر". وعُرض عليه قضاء مصر فتغيب واختفى، وقال: بينما أنا أرجو أن أحشر في زمرة العلماء؛ أحشر في زمرة القضاة؟! ثم تبوأ كرسي الإفتاء المالكي بمصر الإمام أشهب بن عبد العزيز القيسي المتوفى سنة 204ه/ 820م، الذي قال عنه الإمام الشافعي: "ما أخرجت مصر أفقه من أشعب لولا طيشٌ فيه". وكان أشهب من أصحاب مالك الكبار وعاصر الإمام الشافعي وعزَّ عليه أن يرى مذهب الشافعي ينتشر في مصر على حساب مذهب مالك، فيقال إنه دعا على الشافعي بالموت وهو ساجد، فمات من سَنَته ولم يعش أشهب بعده إلا 18 يومًا. ثم انتهت رئاسة الفتوى بمصر بعد أشهب إلى عبد الله بن الحكم المتوفى سنة 214ه/ 829م، فكان شيخ أهل مصر وأعقلهم بأصول مذهب مالك، وفرَّع عليه. وكان أول من أفتى من المالكية بأن لمس فرج البهيمة ينقض الوضوء. ثم تلاه في رئاسة الفتوى على مذهب مالك الشيخ الإمام الكبير أصبغ بن الفرج مفتي الديار المصرية وعالمها ومحدثها، المتوفى سنة 225ه/ 840م، روى عنه الإمام البخاري في صحيحه، والترمذي والمروزي وغيرهم. وذكره ابن معين فقال: كان من أعلم خلق الله برأي مالك، يعرفها مسألةً مسألة: متى قالها مالك، ومن خالفه فيها. ثم تصدر الإفتاء المالكي بمصر الإمام محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المتوفى سنة 268ه/ 882م، وقد أخذ مذهب مالك عن ابن وهب وأشهب، فلما قدم الشافعي إلى مصر صحبه، فلما مات الشافعي رجع إلى مذهب مالك وتصدر حتى انتهت إليه الرئاسة بمصر. قال عنه أبو بكر بن خزيمة: "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين من محمد بن عبد الحكم"، ولابن عبد الحكم مصنفات كثيرة في الفقه والحديث والتاريخ أشهرها كتابه (فتوح مصر والمغرب وأخبارهما). وبموت ابن عبد الحكم ساد المذهب الشافعي في مصر وانتشر في أرجائها، وتصدر شيوخه ومفتوه، واختفى الفقهاء المالكية من المشهد ورجعوا إلى الصف الثاني، واستمر الأمر كذلك إلى أن سقطت الدولة الإخشيدية وجاء الفاطميون إلى مصر. وينسب المذهب الشافعي إلى الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204ه/ 820م، ولد بغزة سنة 150ه/ 767م، وهي سنة وفاة الإمام أبي حنيفة النعمان، ومات أبوه وهو ابن عامين، فتحوَّلت به أمه إلى مكة فنشأ فيها وحفظ القرآن الكريم وعمره سبع سنين، وحفظ موطأ مالك وعمره عشر سنين، وتتلمذ على مسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة ومفتيها في ذلك الوقت، وأجازه مسلم بن خالد بالإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى المدينة ولازم الإمام مالك وغيره، ثم رحل إلى اليمن فأخذ عن مطرف بن مازن وهشام بن يوسف القاضي، ثم رحل إلى بغداد فأخذ عن محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفه، وأقام ببغداد عامين، وصنَّف بها كتابًا في الفقه، ولم يطب له المقام هناك، فرحل إلى مصر سنة 198ه/ 814م، فاشتهر فيها وصاغ مذهبه فيها ورجع عن كثير من آرائه التي سجلها وهو بالعراق، وصنف بمصر كتابه (الأم) وكذلك كتاب (الأمالي الكبرى) وكتاب (الرسالة)، وبلغت مصنفاته نحو مئتي مجلد، وذاع صيته وكثرت تلاميذه، وكان الشافعي يأخذ بكتاب الله ثم بالحديث الصحيح، ثم القياس والاجتهاد، وكان يكره علم الكلام والمتكلمين، حتى إنه نهى محمد بن عبد الحكم عن الكلام وقال له: "يا محمد إن سألك رجلٌ عن شيءٍ من الكلام فلا تُجِبْه، فإنه إن سألك عن دِيَّة فقلت: درهما أو دانقًا؛ قال لك: أخطأت، وإن سألك عن شيء من الكلام فزللت؛ قال لك: كفرت". ويروى عن الشافعي أنه كان يقول: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي". ومع ذلك فكان مجتهدًا نبيهًا راجع العقل، سئل مرة عن رجل في فمه تمرة، فقال: إن أكلتها فامرأتي طالق، وإن طرحتها فامرأتي طالق، فأفتاه بأن يأكل نصفها ويطرح نصفها. وبعد وفاة الشافعي تصدر تلاميذه وأصبحوا هم شيوخ مصر ومفتوها، فأولهم تلميذه وخليفته في مجلسه يوسف بن يحيى البويطي المتوفى سنة 231ه/ صنَّف كتاب (المختصر) الشهير باسم (مختصر البويطي) اختصره من كلام الشافعي، وقد تصدر للفتيا في حياة الشافعي، حيث كان الشافعي يحيل عليه إذا جاءته مسألة، فيقول للسائل: سل أبا يعقوب، أي البويطي. ومن فتاواه أنه أفتى بأنه لو ادعى زيدٌ على عمرو بأنه مملوك له، فأقر له عمرو بالعبودية وهو معروف بالحرية لم يجز إقراره، لأن الحرية ليست مما يتنازل عنه أو يباع أو يوهب. ثم آلت رئاسة الإفتاء الشافعي إلى الإمام إسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة 264ه/ 878م، وكان إمامًا عالمًا مجتهدًا زاهدًا محجاجًا غواصًا على المعاني، قال عنه الشافعي: المزني ناصر مذهبي، وقال أيضًا: المزني لو ناظر الشيطان لغلبه. وصنف كتبًا جليلة، هي من أهم كتب الشافعية، منها (المبسوط) و (المختصر) وكتاب (الوثائق والعقارب) سُمي بذلك لصعوبته. وذهب البعض إلى أن المزني صاحب مذهبٍ مستقل، وقال آخرون: هو في المذهب الشافعي مثل صاحبي أبي حنيفة في المذهب الحنفي. ومن فتاواه المشهورة أنه أجاز للمضطر أكلَ لحم إنسانٍ ميتٍ إن لم يجد حيوانًا يأكله، والفتوى في المذهب الشافعي جارية على قوله هذا، واستثنى المَرْوَروذي من ذلك أن يكون لحم نبي. ومن أئمة الشافعية بمصر قَحْزَم بن عبد الله الأسواني المتوفى سنة 271ه/ 844م، كان فقيهًا كبيرًا في مذهب الشافعي، ولكنه كان مقيمًا بأسوان يفتي فيها على مذهب الشافعي، ثم تصدر المشهد الفقهي في مصر أبو بكر بن الحداد المتوفى سنة 344ه/ 955م، قال عنه النووي: "كان إمامًا في الفقه والعربية، وانتهت إليه إمامة مصر في عصره". ولَّاه محمد بن طغج الإخشيد قضاء مصر، وبعد عزله من القضاء استمر على رئاسته وتصدره، فلا تُعمل في مصر قضيةٌ حتى يُرَاجَع فيها، فيفتي فيها أو يشير بالرأي. صنَّف كتاب (الباهر في الفقه) وهو كتاب مفقود قيل إنه في مئة جزء، وله كتاب (أدب القضاء) في أربعين جزءًا، وله كتاب (الفروع المولدات) وهو مختصر في فقه الشافعي شرحه كثير من عظماء الشافعية. وبسقوط الدولة الإخشيدية تدخل مصر في حوزة الدولة الفاطمية الشيعية المذهب، فاضطهدت أهل السنة، وشردت فقهاءهم في الأمصار، فندر وجود المفتين في مصر، ولكن المشهد لا يخلو من رجالٍ من أهل السنة- خاصة المالكية- جاهدوا وصابروا وناضلوا وحافظوا على مذهب أهل السنة في مصر نترجم لهم بمشيئة الله في المقالة الخامسة.