في عام 1977 ، تفتقت روح سيد حجاب عن : إيه يا بلاد يا غريبة / عدوة ولا حبيبة / في الليل تصحي عيونك / ونجومك مش قريبة .. وغناها منير ضمن أغنيات ألبومه الأول.. غناها بعد أن وصل إلى سر صوته وتفرده الخاص ، غناها بعد أن التف حوله : عبد الرحيم منصور ، أحمد منيب ، هاني شنودة ، يحيى خليل ، ومن قبلهم زكى مراد ، وقبضوا معاً على سر النسيم العابر لذلك الوطن ، وأمسكوا به قبل أن يتلاشى مع موجات سفر المصريين المتتالية إلى الجزيرة العربية .. ولم يكن سر تفرد الأغنية وقتها ، يكمن في كلمات الشاعر سيد حجاب ، أو في لحن هاني شنودة ، الذي مزج فيه بين موسيقى الجاز وموسيقى السلم الخماسي النوبي ، أو حتى في الكيمياء الإنسانية والفنية التي آلفت بين ذلك الفريق العبقري من الفنانين .. السر : الوطن .. ففي النصف الثاني من السبعينات ، رفع السادات يافطة الانفتاح الاقتصادي ، وأهدى نصر أكتوبر إلى حلفائه الجدد من الطبقة الطفيلية من رجال الأعمال ، وفتح بوابات وطنه إلى كل لصوص الأوطان ، وصلى وراء الإمام الامريكى صلاة الولاء .. وجُرفت مصر من أنبل وأجمل ما فيها ، بعد تفرق فقراء المصريين في شتات الصحراء العربية ، و سمع صوت شجنهم الأسين ذلك الفريق العبقري، وغنوا لهم تلك الأغنية البديعة .. ومع دخولنا أعتاب عام 2012 ، يبدو أن شاعرنا وعمنا سيد حجاب سيؤلف أغنية أخرى عن الغربة ، لكنها غربة أرض الوطن عن أهلها ، فالمصريون الذين تفرقوا بين فيافي الصحراء ما يزيد عن أربعين عاماً ، عادوا ومعهم رمالها ، ومدوا خلائها الموحش على بلادهم ، ونثروا ترابها على أرواحهم وعقولهم ، واستبدلوا حضارتهم العريقة بخلاء البرية .. استبدلوا الشيخ محمد عبده ، والشيخ شلتوت ، والشيخ المراغى ، بشيوخ الوهابية ومفتيها .. استبدلوا أصوات السماء : محمد رفعت ، وعبد الباسط عبد الصمد ، والشيخ الحصرى ، بالسديسى ، والحذيفى ، والعجمى .. استبدلوا ألحان : سيد درويش ، ومحمد القصبجى ، زكريا أحمد ، محمود الشريف ، رياض السنباطى ، بليغ حمدي ، بأهازيج الفلاة الرتيبة ، وساروا ركباً وراء نوقها حتى الغياب .. يقيناً ليست رحلة شتات المصريين ، وحدها سبب غربة أرواحهم عن أرضهم ، لكنها عادة التاريخ ، حينما يبرق الذهب في مكان ، تخفت حوله الأماكن الأخرى ، فخفتت حاضرة التاريخ أمام حواضر الجزيرة العربية الناشئة ، خفتت فقراً وحسرة ووجعية ، على حلم لم يكتمل في زمن ناصر ، وُوئد عمداً في زمن السادات ، ورثيناه ثلاثين عاماً في زمن مبارك ، وكأننا استمرأنا وجيبه الحزين .. حينما انتفض المصريون عام 1919 ، لم يشعلوا ثورة على الاحتلال البريطاني ، بقدر ما أعادوا اكتشاف الوطن ، وأعادوا إحياء مصر التي غابت ، من احتلال إلى احتلال .. ولم يكن عالم الفيزياء العبقري : مصطفى مشرفة ، مجرد عالم فذ فاق أقرانه ، لكنه كان أحد شواهد مصر العبقرية على الحياة .. ولم يكن سيد درويش مجرد موسيقار نابه ، بقدر ما كان أحد القابضين على سر هذا الوطن ، ولم تكن تماثيل محمود مختار أيات بديعة ، على عبقرية مثّال عظيم ، بقدر ما كانت عودة لنهار الفن المصري القديم ، ولم يكن : طه حسين ، عباس العقاد ، توفيق الحكيم ، يحيى حقي ، نجيب محفوظ ، يوسف إدريس ، مجرد مفكرين وأدباء فارقين ، بقدر ما كانوا دروايشاً من دروايش هذه الأرض العبقرية .. المدهش ان ثورة 1919 ، التي فشلت في تحرير مصر من الاحتلال البريطاني ، أعادت مصر القيمة والمعنى إلى قلوب المصريين ، وثورة يناير 2011 ، التي حررت مصر من قبضة ديكتاتورية الحاكم الواحد ، في طريقها إلى محو ملامح مصر واستبدالها بملامح أخرى ، غريبة عنها وعن أهلها .. فيا مآذن المحروسة آذني : حي على الوطن