عين قارئا للأزهر وللملك قبل اعتماده في الإذاعة.. وكرمه عبد الناصر مع أم كلثوم وعبد الوهاب أبهر المستمعين بتنقله بين المقامات.. ووصفه السعدني بأنه أحلى صوت بين القراء والمطربين نال أعلى وسام ماليزي.. واستقبله الرئيس التركي في القصر الجمهوري.. وقرأ في استاد إسلام أباد بسبب احتشاد الجماهي هو القائد الأعلى لدولة التلاوة، مجدد روحها، وعنوان مجدها، وآيتها العظمى التي آمن بها كل من امتلك أذنا واعية، وألقى السمع وهو شهيد، سبيكة نغم، ودوحة فن، وجامعة أداء، وعملاق تصوير، وصوت يصدق فيه قول المتنبي: "أمط عنك تشبيهي بما وكأنه.. فما أحد فوقي وما أحد مثلي". مصطفى إسماعيل، صاحب الأثر الأكبر في قراء مصر والعالم، كان في دولة التلاوة أمة وحده، فليس كمحافله محافل، وليست كلياليه ليال، كيف لا؟ وقد كانت السرادقات تكتظ بالناس، ويمتد الزحام إلى الشوارع، ويأتي المحبون رجالا وركبانا، كلهم يطلب إسعاد نفسه وقلبه بالاستماع لهذا الصوت العظيم الجبار، وهذا الأداء القوي المحكم الفريد. عام 1905، وفي قرية ميت غزال بطنطا، كانت خبيئة القدر، وهدية السماء، حيث ولد الطفل الموهوب لأسرة ميسورة، وحرص جده على تحفيظه القرآن، فأتمه وهو ابن عشر سنين، لتبدأ مرحلة التجويد والقراءات على يد الشيخ إدريس فاخر، ولا يأت عام 1917، إلا وقد اكتملت المعجزة، بقارئ قوي قادر متمكن ستمتد رحلته في التلاوة ستة عقود بتوهج لا يخبو، وصعود لا يتوقف. ومن مأتم أحد كبار الأعيان في طنطا بدأت الانطلاقة والاشتهار في المحافظات المجاورة، وصولا إلى القاهرة، حيث رتبت له المقادير أن يقرأ في محفل غاب عنه الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، حيث استمع إليه العالم الموسيقي الكبير الشيخ درويش الحريري، أستاذ كبار المطربين في عصره، فسأله بعد التلاوة: في أي معهد للموسيقى تعلمت؟ فأجاب: لم أتعلم، وإنما هي الفطرة، فعلق الحريري قائلا: إن فطرتك أقوى من كل المعاهد. ولأن الموهبة تخترق كل الحواجز، فوجئ الشيخ مصطفى إسماعيل بطلب الديوان الملكي له ليقرأ القرآن في شهر رمضان، وأصبح الرجل قارئا للملك وقارئا للجامع الأزهر قبل أن يعتمد إذاعيا، مما أثار حفيظة بعض القراء، لكن صوت إسماعيل كان قادرا على مواجهة كل الصعاب وتذليل كل العقبات. تتسم تلاوة مصطفى إسماعيل بأنها بناء نغمي محكم، فالشيخ يبدأ القراءة من مقام البياتي، ومن طبقة قرار عميق، ثم يتصاعد على مهل، ليصل إلى جواب البياتي بعد مدة من التلاوة تتجاوز أحيانا 20 دقيقة، وبعد أن يشعر بأنه أشبع مستمعيه من نغمة البياتي، ينطلق في نزهة مقامية: من الصبا إلى النهاوند، ومن النهاوند إلى الراست، ومن الراست إلى السيكاه، ومن السيكاه إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى العجم. ولا يكتفي مصطفى إسماعيل باستخدام تلك المقامات الأساسية، وإنما يستخدم فروعها باقتدار، فيلون البياتي بفرع الشورى، والسيكا بالهزام، والعجم بالجهاركاه، والنهاوند بالعشاق، وفي كل هذا يحرص على الإشباع النغمي، والقراءة بكل درجات المقام، من القرار إلى الجواب، مع انتقالات عجيبة، جديدة، سلسة، غير متوقعة. وصوت مصطفى إسماعيل في الدرجات العليا (الجوابات) لا يكاد ينتمي إلى عوالم البشر، ويصف الناقد الفني الراحل كمال النجمي، صوت الشيخ وهو يؤدي مقام راست النوى، فيقول: "يستخدم المطربون من ذوي الأصوات واسعة المساحة مقام راست النوى للانطلاق إلى الأجواء العليا، والتغريد كما يشتهون، وأحسن من سمعناه يغرد في الطبقات العليا من راست النوى هو الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي كان يتفنن في هذا المقام تفننا يخلب الألباب، ولم نسمع طوال حياته من يدانيه في هذا الباب إلا أم كلثوم والشيخ محمد رفعت"، ويضيف النجمي: "لقد كان الشيخ مصطفى إسماعيل يمتلك صوتا فذا واسع المساحة، وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا مثيل لها عند أحد من المقرئين". أما الموسيقار محمد عبد الوهاب، فيقول عن مصطفى إسماعيل: "يفاجئنا دائما بمسارات موسيقية وقفلات غير متوقعة، وهو كبير جدا في موهبته، وكبير في إدارة صوته، وله جرأة في الارتجال الموسيقي والصعود بصوته إلى جواب الجواب بشكل لم نعرفه في أي صوت حتى الآن". وقد توقف الموسيقار عمار الشريعي بالتحليل مع تلاوة الشيخ لقوله تعالى في سورة القمر: "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيونا"، وكيف قرأها مصطفى إسماعيل أولا بمقام الصبا الخالص، ثم أعادها بنفس المقام مع قفلة من السيكاة، مكونا مقام بستنيكار، ويؤكد الشريعي أن هذا الأداء النغمي من الشيخ يؤكد درايته الواسعة بالمقامات العربية وأصول النغم. أما الكاتب الراحل محمود السعدني، فيصف صوت الشيخ قائلا: هو أجمل صوت بين المقرئين، بل هو أجمل صوت بين المطربين أيضا، إن صوته أجمل من صوت عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد قنديل، وعبد الحليم، ولولا أن صوته "يضيع" في طبقة القرار لكان أجمل وأحلى وأقوى صوت في الوجود، فليس لصوته نظير في الطبقات العليا، وهو صاحب طريقة فذة فرضت نفسها على العصر كله، وهو إمام المقرئين باعترافهم جميعا، وشهرته تدوي كالطبل في جميع أنحاء العالم العربي من المحيط إلى الخليج. أما إمام القراءات العلامة علي الضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية، فيقول عن مصطفى إسماعيل: "إنه كوكب خاص متفرد بين قراء عصره، بمناخه ومحيطاته وعبقه وتضاريس صوته مدا وجزرا وقرارا وجوابا، وتمكنه من أحكام القراءات السبع، وطول باعه فى الاحتفاظ بموهبة التألق، والحضور، مهما طال زمن التلاوة ساعات وساعات". زار القارئ الكبير كل الدول العربية، كما زار تركيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا، وأمريكا وكندا وأستراليا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وكان أول قارئ للقرآن تكرمه الدولة المصرية، حيث منحه الرئيس جمال عبد الناصر وسام العلوم والفنون عام 1965 مع أم كلثوم وعبد الوهاب، وطه حسين وفكري أباظة. كما نال الشيخ عددا من الأوسمة من الدول العربية والإسلامية، ومنها وسام الأرز من لبنان، ووسام الاستحقاق من سوريا، ووسام الفنون من تنزانيا، كما حصل على أعلى وسام ماليزي، وكرمته البحرينوسوريا والأردن وتونس والمغرب وباكستان التي قرأ في استادها الرئيسي حتى يمكن استيعاب الجماهير المحتشدة للاستماع له، كما استقبله الرئيس التركي فخري كورتورك في القصر الجمهوري، وأهداه مصحفا أثريا مكتوبا بماء الذهب. مع تقدم السن، كان مصطفى إسماعيل يعوض بخبرته الكبيرة ما طرأ على صوته من وهن، واستطاع حتى آخر تلاوة له أن يبهر الجماهير ويسيطر على المستمعين، رغم أن تلاوته الأخيرة كانت قبيل وفاته بأربعة أيام، حيث تلا قرآن الجمعة من سورة الكهف في افتتاح مسجد البحر بدمياط يوم 22 ديسمبر، وتوفي بالإسكندرية يوم الاثنين الموافق 25 من نفس الشهر عام 1978. وكان وداعه يوما مشهودا، وشيعه الآلاف بالتكبير والتهليل إلى ضريحه في المسجد الذي بناه بمسقط رأسه، وفي القاهرة، أقيم سرادق ضخم بميدان التحرير، توافد عليه كبار رجال الدولة والعلماء والقراء، وتقاطر إليه عشرات الآلاف من محبي الشيخ من كل محافظات مصر، ونقلت وسائل الإعلام العربية والأجنبية تفاصيل العزاء الضخم، وشعور المصريين بالخسارة الفادحة لفقدان هذا الصوت الخالد في سمع الزمان.