منذ القضاء على نابليون بونابرت (أواخر 1814) بدأ نظام دولي تقرر في فيينا في العام التالي (1815) يقوم على التوازن بين القوى المنتصرة (إنجلترا والنمسا وروسيا وبروسيا) للحيلولة دون ظهور بونابرت آخر. وكان هذا التجمع الدولي يراقب حركة الشعوب هنا وهناك للقضاء على حركات الثورة التي تستهدف الخروج من تحت سيطرة القوى الكبرى. وكانت المفاجأة الكبرى أن تخرج روسيا من دائرة التوازن الدولي بقيام الثورة الشيوعية فيها (اكتوبر 1917) فتنقسم القوى الكبرى على نفسها إلى معسكرين كل منهما يعادي الآخر حتى فرضت الظروف تحالفهما لمواجهة عدو مشترك (المانيا النازية، وإيطاليا الفاشية). وبعد التخلص منه بنهاية الحرب العالمية الثانية (1945) عاد المعسكران لحالة العداء والتربص فيما أصبح يعرف اصطلاحا ب "الحرب الباردة"، وكل منهما يحاول إضعاف الآخر وتحطيم نفوذه عن طريق مد حبل المساعدات لشعوب العالم الثالث في كل من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ثم تمكنت أمريكا من تفكيك الاتحاد السوفييتي أواخر 1991 وتبعه سقوط حكم الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية وحينئذ أعلن الرئيس الأمريكي بوش الأب قيام النظام العالمي الجديد والذي بدت ملامحه في تفكيك القوميات الكبيرة إلى أوطان صغيرة على أسس طائفية: عرقية أو دينية أو مذهبية، وتمت أول تطبيقاته بسلخ جزر تيمور الشرقية من أندونيسيا بدعوى أن سكانها ثلاثة أرباع مليون مسيحي يعيشون في دولة إسلامية كبيرة. وعقب نجاح تلك العملية أعلن شمعون بيريز في 2004 مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، ويقوم على تقسيم البلاد العربية إلى عدة أوطان طائفية حسب مقتضى الحال حتى تتمكن إسرائيل من إعلان "يهوديتها". وفي العام التالي (2005) أعلنت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عن مبدأ "الفوضى الخلاقة" لبناء الشرق الأوسط الكبير، وتفكيك كل كيانات قومية كبرى على مستوى العالم فتصبح أمريكا هي القوة الكبرى الوحيدة في العالم التي تفرض إرادتها على الجميع. ومما يساعدها على ممارسة هذه الشيطنة أنها تسيطر على هيئة الأممالمتحدة وتوجه القانون الدولي حيث تشاء وتفسر الأحداث هنا وهناك بما يتفق مع أهدافها في التفكيك والهيمنة، فنراها تخلع على ثورة الشعوب العربية على حكامهم في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا (يناير-مارس 2011) مصطلح "الربيع العربي" لدعم حكومات تعمل على التخلص من رداء العروبة. ولما استعادت روسيا قوتها من جديد في ظل قيادة فلاديمير بوتين، بدأت أمريكا تسعى لمزيد من تفكيك الاتحاد الروسي. فلما استعادت روسيا شبه جزيرة القرم في 21 مارس 2014 بمقتضى استفتاء (16 مارس)، وكان خروشوف قد ضمها إلى أوكرانيا بلده الأصلي في إطار حكم ذاتي، لم تهدأ أمريكا خاصة وأن سكان شرق أوكرانيا وكلهم من الروس يريدون الانضمام إلى روسيا الأم، فأخذت تهدد روسيا بالعقوبات، بينما في أماكن أخرى تناصر حق تقرير المصير للشعوب: جنوب السودان، والأكراد في العراق وسوريا، وكذا الدروز، والأقباط في مصر طالما أن هذا يحقق الشرق الأوسط الجديد، بينما انضمام القرم لروسيا يعني خروج على مقتضى "الأدب الدولي" في العرف الأمريكي. ولعل هذا يفسر لماذا رحبت أمريكا بفوز بوروشينكو "ملك الشوكلاته" برئاسة أوكرانيا ولم تطعن في انتخابه لأنه يناصر الغرب الرأسمالي، بينما تطعن في العملية الانتخابية الي جرت أخيرا في مصر وتصف ما حدث في الثالث من يوليو (2013) بالانقلاب لأنه ضد الأجندة الأمريكية. وعندما هدد بوتين باستخدام القوة العسكرية في شرق أوكرانيا صرح جون كيري أن من الخطأ استخدام أساليب القرن التاسع عشر في القرن الحادي والعشرين، على حين أن أمريكا دخلت أفغانستان (أكتوبر 2001) والعراق (أبريل 2003) بالقوة العسكرية. وهكذا تصبح البرجماتية حكرا على أمريكا وحلال عليها وحرام على غيرها. والحال كذلك لا مفر من التخلص من الوصاية الأمريكية ولن يتم ذلك إلا بانسحاب شعوب العالم الثالث من منظمة الأممالمتحدة، وتكوين منظمة جديدة ترعى مصالح شعوب هذا العالم المطحون الذي يملك مصادر الطاقة والمواد الأولية ولا يتمتع بها وإنما تذهب إلى العالم الأول الذي يمارس عنصريته باسم "حقوق الإنسان".