عندما أدرك فلادمير بوتين رئيس الاتحاد الروسي أن الولاياتالمتحدةالأمريكية "قائدة" النظام العالمي الجديد تسعى لاقتناص أوكرانيا وضمها إلى المعسكر الرأسمالي الإمبريالي لتصبح أداة تهديد مباشر لروسيا، انتفض الرجل للزود عن حياضه، واستثمر الأزمة القائمة في أوكرانيا منذ الثورة البرتقالية الشهيرة (أكتوبر 2004-يناير 2005) لكي يفوت الفرصة على أمريكا. ومن المعروف أن الثورات البرتقالية في دائرة المعسكر الاشتراكي قامت بتشجيع أمريكي شأن ثورات الربيع العربي لأن كل منها يخدم الاستراتيجية الأمريكية في التوسع والهيمنة عن طريق إضعاف القوى الأخرى. ولم يكن رئيس اوكرانيا يانوكوفيتش هو الشخص الذي يساعد أمريكا في تحقيق استراتيجيتها فقد رفض توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي فثارت ضده موجة من احتجاجات أصحاب رؤوس الأموال الجدد في أوكرانيا، وكانت تلك بداية الخطة الأمريكية في الهيمنة. فقد انقسم شعب أوكرانيا إلى فريقين: فريق يؤيد الاندماج مع الغرب في إطار الرأسمالية الجديدة وهم سكان غرب أوكرانيا، وفريق يمثل الغالبية يريد البقاء في احضان روسيا وهم سكان شرق أوكرانيا بعد أن تبينوا أن التحولات الرأسمالية الجديدة أضرت بالتوازن الاجتماعي في البلاد. وفي هذا الخصوص قامت الخطة الأمريكية على تشجيع انفصال شبه جزيرة القرم التي تقع على البحر الأسود عن أوكرانيا تحت شعارات "العالمية الجديدة": حق تقرير المصير، والحريات، وحقوق الإنسان، والديموقراطية والشرعية .. إلخ، وبهدف إضعاف أوكرانيا التي تأبى الانصياع للغرب الامبريالي. ففوجئت أمريكا بأن سكان القرم قرروا العودة لأحضان روسيا الأم مثلما كانوا من قبل خاصة أن 60% من أهلها من الروس الأرثوذوكس أصلا، والحال كذلك يصبح الانضمام إلى روسيا أو العودة إليها أمر مشروع. وهذه حقيقة تاريخية لكن أمريكا لا تعترف بالتاريخ إلا إذا كان يخدم عمليات تفكيك الدول القومية أو إضعاف الدول الوطنية، فقد كانت شبه جزيرة القرم جزء من الاتحاد السوفييتي ثم قام الرئيس خروشوف بضمها لأوكرانيا "وطنه الأصلي" في عام 1954 وبدون إجراء استفتاء أو تشاور مع أولى الأمر هنا وهناك، وآنذاك لم تكن هناك أية حساسية من هذا الضم لأن الجميع تحت مظلة الاتحاد السوفييتي. وهكذا التاريخ .. فالاتحاد السوفييتي قام على نفس الخريطة التي كانت عليها أقاليم روسيا القيصرية التي كان أباطراتها يتوسعون هنا وهناك ويضمون شعوبا مختلفي العقائد والأعراق. لكن لما قامت الثورة الشيوعية في روسيا (اكتوبر-نوفمبر 1917) واندمجت شعوب الإمبراطورية القيصرية في جمهوريات باسم (إتحاد الجمهوريات السوفييتية الإشتراكية)، انزعج الغرب الرأسمالي. وبعبارة أخرى فما كان جائز زمن القياصرة الروس (الاقطاعيون والرأسماليون) لا يمكن أن يكون كذلك زمن الحكم الشيوعي. لكن سرعان ما تحالف المعسكران معا أمام عدو مشترك ظهر لهما وهما ألمانيا (النازية) وإيطاليا (الفاشية)، وانتهى الأمر بالانتصار على هذا العدو في الحرب العالمية الثانية، وبعدها عاد المعسكران للوقوف ضد بعضهما البعض ومن ثم كانت الحرب الباردة التي انتهت بتفكيك الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991 بفضل الرئيس جورباتشوف (1988-1991) الذي استقطبته المخابرات الأمريكية، وتم منحه جائزة نوبل تقديرا لدوره في التفكيك. وعلى هذا أخذت أمريكا تعمل على تفكيك كل الكيانات القومية والوطنية في إطار مبدأ "الفوضى الخلاقة" التي صاغته كوندوليزا رايس (2005). وفي هذا المنعطف يرتكب بوتين خطيئته الكبرى في نظر الغرب الأوروبي-الأمريكي لأنه يعمل على استعادة القوة في الوقت الذي يعمل فيه النظام العالمي الجديد على التفكيك. فلما قام بتوقيع معاهدة لضم القرم للإتحاد الروسي (19 مارس 2014) ثارت أمريكا وحلفاءها وبدأت حملة التهديد بتوقيع العقوبات اللازمة مثل إخراج روسيا من زمرة الدول الثمانية الكبار، وعزلها دوليا، وليس ببعيد أن تقوم أمريكا بتشجيع الأقلية المسلمة من التتار في القرم ويمثلون 12% من السكان بالمطالبة بإقامة دولة إسلامية لهم مثلما فعلوا مع مسيحيي جزر تيمور الشرقية وفصلهم عن اندونيسيا الدولة الأم .. وما خفي كان أعظم. والحال كذلك .. فهل ينتبه العرب إلى حقيقة المصالح وراء المبادىء البراقة التي تعلنها أمريكا من آن لآخر.؟.