للمرة المليون وليست الأخيرة يدافع التليفزيون المصري الحكومي عن مكانته التي تربع عليها بجدارة طوال خمسون عاماً .. يستميت في الدفاع عن النظام البائد كما الحالي تصديقاً لمقولة عاش الملك مات الملك.. فهو “رجل” لكل العصور وخادم وفى لكل سلطة باطشة ومن يواليها من أفاقين ومرتزقة ومهرجي السلطان وبائعي الضمائر والأوطان، وعدو لدود للشعب، مصدر رزقه ومموله الأساسي! القناة.. نايل سينما .. والضيف .. محمد صبحي الذي احتل اسمه مكاناً بارزاً في بعض القوائم السوداء للفنانين والإعلاميين الذين باعوا الثورة وهاجموها بلا خجل! وفى مكالمة لا أشك ثانية واحدة في أنها سابقة الإعداد والتجهيز، كان المتصل مفيد فوزي الذي لا مجال هنا للكلام عنه، فتاريخه وسجله معروفان وكذلك اسمه الذي وُضع في نفس القائمة الحالكة. كانت المكالمة مباراة بينج بونج ما بين أسئلة وإجابات لا يخفى على أي ساذج أنها قد تم انتُقاؤها بعناية وأُعدت سلفاً، ظهر من خلالها كم الحقد والكراهية لثورة يناير. أبرز عبارات صبحي في ذلك اللقاء كانت كالآتي: ثمانين بالمائة من الشعب أصبح لا يعلم هل يكره الشرطة أم الثوار؟! كل شعب يستحق حكامه! لا تجلدوا عصام شرف فهو لا يملك عصا سحرية! قتلت الثورة على يد أبنائها! من يقم بالثورة الآن ليسوا هم من قاموا بها في أول الأمر. وإذا سمح لي سيادته فأنا في حدود معلوماتي الضئيلة ربما أمتلك من التعليقات على عباراته ما يلي: 1- المقارنة بين الثوار والشرطة فاسدة منطقياً ولا تصح، ومعروف تماماً من الذي ترك موقعه وإلى وقتنا الراهن والذي تخلى عن صلاحياته وأخلى الطرقات بل حرم الشعب الذي يدفع رواتبه من وجوده ليعاقبه على ثورته، وليعود بشروطه هو، من إذلال وقمع وتعذيب، وهو ما يحدث حتى الآن في تحد صارخ ومحو كامل لكل ما نادت به الثورة! 2- نعم، كل شعب يستحق حكامه، لكن شعبك أيها الفنان العظيم استفاق أخيراً وقرر الثورة على النظام الفاسد، فهل نظل نجلده طوال العمر على صبره واستكانته علماً بأنه بثورته هذه كان “يغير ما بنفسه” حتى “يغير الله ما به”. 3- في أية ثورة يصبح مطلب “حكومة إنقاذ وطني” قوية استثنائية على مستوى الثورة، مطلباً أساسياً لا غنى عنه وليس رفاهية ولا مستحيلاً، لتعبر بالبلاد من هذه الحلقة الصعبة المليئة بالتحديات. وهو ما لم يحدث في حالتنا، بل كانت السمة الغالبة في هذه الحكومة هي الضعف والتخاذل، بل قتل الثورة. وإذا كانت فترة تسعة أشهر غير كافية لإرساء مبادئ عامة تهدئ من روع الشعب، فترى كم يكفيها من الوقت؟ هل يتطلب تطبيق قانون الغدر أو تحديد الحد الأدنى والأقصى للأجور أو إقالة عمداء الكليات التي بُح صوت الطلاب في المناداة بها تستدعى قروناً؟ إن هذه المطالب القلائل تحديداً كان بمقدورها أن تمتص غضب الشارع وأن تحمى الثورة وأن تنبئ بغد أفضل. لكن ما حدث كان عكس كل التوقعات وكل ما آمل به الشعب، ولا أقُل الثوار، فقانون الغدر يعلم الله متى يطبق، وإن طُبِق فقد فَقَدَ معناه بعد معركة الانتخابات التي تَرَشَح فيها غالبية فلول النظام وأعضاء الحزب الوطني الذين اجتمعوا تحت لواء أكثر من حزب ما هو سوى استنساخا مقيتاً للحزب المنحل، وقد تمت إجازتهم بمنتهى اليسر والسهولة من قِبَل السلطة. ولم يتم حتى الآن من قريب أو بعيد مناقشة الحد الأدنى والأقصى للأجور تطبيقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية وهى مطلب أساسي من مطالب الثورة، ولم يتم إقالة أي عميد تم ترشيحه من أمن الدولة في النظام السابق، بل تمت حمايتهم واعتقال الطلاب بعد تلفيق التُهَم لهم! إن كل ما حدث ويحدث ما هو سوى استفزاز وتحدٍ صارخ لمطالب الشعب تماماً كما كان يحدث سابقاً إن لم يكن أسوأ. ألم يتبادر إلى ذهن الفنان الكبير لمصلحة من يتم كل هذا ؟؟؟ 4- لم تقتل الثورة على يد أبنائها، فأبنائها لم يحكموا بعد، ومن يحكم الآن هو النظام القديم الذي دخل الجحور في بداية الثورة، وها هو الآن على كل الشاشات الحكومية والفضائية، بعد إن احتضنته وحمته السلطة الحالية، يعلن عن نفسه بكل سفور وجرأة، بل يهدد ويتوعد إن تم تطبيق قانون الغدر فسوف يحرق البلاد ليُصدّق هو الآخر على مقولة المخلوع: “إما أنا أو الفوضى”، وقد وفى بوعده هو وأبناءه من عينة “إحنا آسفين يا ريس” وأعضاء الحزب الوطني السابق وعناصر الأمن والشرطة، فكانت حوادث الفتنة الطائفية، وحادث مسرح البالون والعباسية وماسبيرو .. ونحن في انتظار البقية. نقطة أخرى أرى أن غالبيتنا قد نسيها ولا أعلم كيف؟! فهناك كارثة الإثنا عشر ألفاً من شباب ونشطاء الثورة الملقون في السجون منذ بداية الثورة والعدد كل يوم في ازدياد. فمن يتم إلقاء القبض عليهم وتعريضهم للتعذيب والإهانة وتشويه السمعة وللمحاكمات العسكرية هم الثوار، ومن يتم تجاهلهم وغض الطرف عنهم هم البلطجية من “أبناء مبارك” وفلول الوطني وسماسرة الوطن. 5- ربما اختلفت وجوه الثوار في الميادين، لكن هذا لا يعنى أنهم اختفوا، لقد قامت الثورة على يد الشباب في بادئ الأمر، لكنها سرعان ما اكتسبت بقية الأطياف الشعبية. ربما يستعيدون صفوفهم ويرتبون أوراقهم، لكنهم أبداً لن يتخلوا عن مواقعهم وعن مكاسبهم. إن موقف كثير من الفنانين (ولا أقل محمد صبحي فقط، فالقائمة تطول) والذي عرّته الثورة، يحيلنا أمام حقيقة مؤلمة وخطيرة، مفادها أن ما طفقوا يحشرون به عقولنا وقلوبنا على مدار سنوات وسنوات في أعمالهم الفنية، ليس حقيقاً، بل لا يعدو كونه مجرد “أكل عيش” أو تنفيذاً لمطالب فوقية من النظام كوسيلة تنفيس عن الشعب المقهور حتى لا ينفجر! فمسلسل “يوميات ونيس” بأجزائه التي لا أعلم عددها من كثرتها، والتي دأب صانعها على تلقيننا آداب السلوك القويم من خلال مشاهد خطابية مباشرة وفجة، هو نفسه من قدم عشرات الأفلام الهابطة في حقبة الثمانينات، متناسيا أن الأخلاق لا تتجزأ. وفنان مثل عادل إمام الذي لم ترحمه محاولاته الدءوبة لتصحيح مساره مدافعاً عن الثورة بعد أن ذبحها في أول الأمر عن التواجد في القائمة السوداء (أنا هنا ربما أحترم صبحي أكثر منه، والذي ظل على مبدأه كارهاً للثورة)، ولم لا وقد كانت علاقته بكل رجالات النظام القديم أكثر من رائعة، وخاصة أسامة الباز ووزير المالية السابق الهارب. لقد كان لعادل إمام نصيب الأسد في عدد الأفلام التي تنتقد الحكومة وتفضح ممارساتها وقمعها للشعب، وهو في واقع الأمر لم يشغله يوماً ما يعانيه المهمشون في هذا الوطن. لقد نسي الفنانان العظيمان أنهما يوماً ما كانا ممن نطلق عليهم “المنسيون” ممن لا يجدوا قوت يومهم، وهذا ليس عيباً أبداً أو انتقاصا من قدرهما، فغالبية الشعب المصري هكذا، لكن الأمر المحير هو نسيانهما لتلك الأيام وصراعهما مقابل لقمة العيش وحلمهما بالعدالة الاجتماعية والحرية، كما حلم بها ثوار 25 يناير، الذين غادروا منازلهم نحو المجهول، فاتحين صدورهم أمام جحافل الدولة البوليسية التي لا ترحم. إن تحليلي الوحيد والمنطقي لعداء كثير من النجوم للثورة هو ما أصبحوا عليه الآن، فهم ليسوا فنانين فحسب، بل رجال أعمال، متخمون بالثروات، وبالتالي يصبح تطبيق مبدأ “العدالة الاجتماعية” ضد مصالحهم، فكيف نتوقع منهم أن يقفوا مدافعون عنها وعن مطالبها؟ فالرأسمالية المتوحشة والعدالة الاجتماعية على طرفي نقيض. لم يظلم شرفاء هذا الوطن الفنانين حينما وضعوا كثير منهم في القائمة السوداء، فعلى قدر الحب تكون الصدمة، وعلى قدر الخديعة يكون العقاب، ونحن شعوب تقدس فنانيها، تصدقهم، تعتبرهم المُثُل العليا، لذا كان المُتوقع منهم الكثير تصديقاً لما اتخمونا به سنيناً طويلة.