افتتاح بطولة إفريقيا للكرة الطائرة «سيدات» بالأهلي    تامر حسني يبدأ تصوير فيلم «ري ستارت» في مايو    رحلة فاطمة محمد علي من خشبة المسرح لنجومية السوشيال ميديا ب ثلاثي البهجة    التربية للطفولة المبكرة أسيوط تنظم مؤتمرها الدولي الخامس عن "الموهبة والإبداع والذكاء الأصطناعي"    أسعار الذهب فى مصر اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    بالصور.. إحلال وتجديد 3 كبارى بالبحيرة بتكلفة 11 مليون جنيه    وزير التنمية المحلية يعلن بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة    خبراء الضرائب: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    وزيرة البيئة تعقد لقاءا ثنائيا مع وزيرة الدولة الألمانية للمناخ    النواب يرسل تهنئة رئيس الجمهورية بذكرى تحرير سيناء    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    وزير الخارجية الروسي يبحث هاتفيا مع نظيره البحريني الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتصعيد بالبحر الأحمر    ذاكرة الزمان المصرى 25أبريل….. الذكرى 42 لتحرير سيناء.    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    تحطم سيارتين انهارت عليهما شرفة عقار في الإبراهيمية بالإسكندرية    والدة الشاب المعاق ذهنيا تتظلم بعد إخلاء سبيل المتهم    الآلاف من أطباء الأسنان يُدلون بأصواتهم لاختيار النقيب العام وأعضاء المجلس    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    «الصحة»: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    «التعليم» تستعرض خطة مواجهة الكثافات الطلابية على مدار 10 سنوات    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    حصاد الزراعة.. البدء الفوري في تنفيذ أنشطة مشروع التحول المستدام لإنتاج المحاصيل    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    مدينة أوروبية تستعد لحظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل (تعرف على السبب)    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    إيرادات الخميس.. شباك التذاكر يحقق 3 ملايين و349 ألف جنيه    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    مياه الشرقية تنفذ أنشطة ثقافية وتوعوية لطلبة مدارس أبو كبير    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    تأجيل الانتخابات البلدية في لبنان حتى 2025    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    مساعدو ترامب يناقشون معاقبة الدول التي تتخلى عن الدولار    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة »بن لادن« من القفة إلي القصر
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 05 - 2011

عندما تستيقظ من كابوس، تعيش في لحظات من عدم التصديق واختلاط الوعي والحذر وتضارب العواطف.. هل تفرح لأنك أفقت من كابوس مخيف؟ أم تملكك الخوف من هول ما رأيت؟
هل كان هذا هو شعور العالم صباح الثاني من مايو الحالي؟
عندما أفاق العالم علي نبأ اغتيال بن لادن، وقد أدرك البعض أن فصلا مهما من فصول الإرهاب قد أوشك علي الانتهاء.. بينما رأي آخرون أن تاريخ الإرهاب قديم قدم التاريخ الإنساني، وأن الخوف هو أحد العواطف الفطرية الأساسية التي يولد بها الإنسان.. منذ أن كان يعيش في العالم أربعة أفراد، آدم وحواء، وابناهما، قتل ربع العالم ربعه الآخر، وبقي نصف العالم شاهدا علي المأساة التي لازالت مشاهدها تتوالي عصرا بعد عصر.
لم تحيرنا فقط الشهور الأخيرة في حياة بن لادن، لكن يحيرنا أيضا تأمل المشهد الذي انتهت به حياته، كيف كانت تفاصيله؟ هل دار حديث بين الطرفين؟ هل قاوم بن لادن، أم استسلم للمصير المحتوم؟ ماذا دار بخلده في اللحظات الأخيرة؟ وهل يمكن لأوهام العظمة أن تدرك انهيارها في ثوان؟ هل يدرك الحلم عجزه عن البقاء، أم يموت الحلم أولا؟ هل يفسح الوقت للندم مجالا، وهل للندم مهجع في صدور الإرهابيين؟
إنها جولة نحاول أن نصطحبكم فيها من خلال هذا الملف الذي يضم 3 فصول:
أولا .. السيرة الذاتية لبطل هذ الفصل الإرهابي .
ثانيا .. موجز لتاريخ البشرية مع الإرهاب .
ثالثا .. أضواء علي الأبعاد النفسية للظاهرة (الإرهاب) والشخص (بن لادن) .
ما كاد العالم يستيقظ في صباح الثاني من مايو 2011 حتي انتابته حالة فيها مزيج من الدهشة والانفراج والخوف من المستقبل، ونزوع تلقائي للإنكار وعدم التصديق؛ إذ حملت إليه نشرات الأخبار وصفحات شبكة المعلومات العنكبوتية نبأ اغتيال أسامة بن لادن في المنزل الذي ظل مقيما فيه طوال السنوات الخمس الماضية.. وبتقادم الوقت أخذت حدة الشكوك تتلاشي، ومزيد من اليقين بصحة الخبر يستقر في إدراك الناس، ولكن بقيت أسئلة كثيرة تقفز إلي سطح الوعي من وقت لآخر تنبه اليقظ، وتؤرق من غلبه النعاس.
كيف عاش بن لادن سنوات عديدة في مكان واحد لا يستطيع أن يبرحه؟ هل كان الخوف يداهمه من وقت لآخر؟ أم أن شخصيته بنيت وقد ترسبت في خلاياها مناعة ضد الخوف؟.
تُري هل شعر يومًا بالندم علي عمل عدواني خطط له ونفذه جنود القاعدة؟ تري ماذا كان يري بن لادن فيما ينتظره من أيام وسنين؟. هل حقًا رنا إلي يوم يسود فيه العالم ويحكم فيه البشرية بشرع الله؟ أم أن بن لادن أدرك أن الخناق قد ضاق من حوله ونهايته علي يد الأمريكان أو عملائهم قادمة لا محالة؟!.
تري كيف كان بن لادن يتأمل سابق أيامه.. طفولته، وصباه، وشبابه المبكر.. كيف كانت رحلته الأولي إلي أفغانستان؟ وكيف انتهي به المطاف طريدًا شريدًا ينتقل من كهف لآخر، ويسلك دروبًا متعرجة في "تورا بورا"، وقندهار، ومن بيشاور حتي إسلام أباد.. هل اعتبر نفسه في يوم من الأيام طريدًا للعدالة؟، أم أنه رأي نفسه باستمرار مجاهدًا في سبيل الحق، وفي سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا؟، وبالتالي رأي في مطارديه زبانية لحزب الشيطان الذي هو دائمًا وأبدًا الخصم الخصيم لحزب الله ولرجال الله علي الأرض؟.
ولا تنتهي تيارات الأسئلة عند هذا الحد، هناك طائفة أخري ما زالت في جعبتي، وسوف أطرحها بعد أن ينتهي استعراضي لفصول حياة هذا الرجل الذي لا شك أنه سجل اسمه في التاريخ -بصرف النظر عن حكمنا الأخلاقي علي أفعاله- وأصبح عنوانًا لفصل كامل من الفصول الدامية في تاريخ البشرية منذ ما قبل الميلاد وحتي يومنا هذا، فإذا حاولنا أن نتداول التساؤلات السابقة فلا أجد أمامي بُدًّا من أن تكون البداية هي السيرة الذاتية لهذه الشخصية الملغزة.. ولنبدأ المشوار.
أسامة بن لادن.. الإنسان والمجاهد
ولد أسامة بن لادن في 1377 للهجرة التي توافق 1957م لأم سورية من دمشق، وكان ترتيبه بين إخوته الثالث والأربعين، وترتيبه بين الذكور الحادي والعشرين من أبناء رجل المقاولات المشهور محمد عوض بن لادن.
وصل محمد عوض بن لادن إلي جدة من حضرموت حوالي سنة 1930م، وبدأ حياته حمالا في مرفأ جدة، ولكنه في حياته كان مثالا للمثابرة والعصامية والاعتماد علي النفس؛ حتي إنه صار في غضون سنوات قليلة أكبر مقاولي الإنشاءات بالمملكة العربية السعودية. ولم تكن العصامية والمثابرة التكئتين الوحيدتين اللتين صنع منهما نجاحه، ولكنه كان أيضًا يتسم بقدر يسير من الجرأة، والاستعداد للمجازفة، فتمكن من إقناع الملك سعود بن عبد العزيز بأنه رجل المهام والإنجازات الصعبة، وتوطدت علاقتة بالأسرة الحاكمة حتي إنه لعب دورًا مهمًّا في إقناع الملك سعود بالتنحي عن الملك لصالح أخيه فيصل عندما شبت بينهما الخلافات في بدايات الستينيات.
وفي ظل الأزمة المالية التي ألمت بالسعودية في فترة انتقال الحكم كان قادرًا علي تأمين رواتب كل موظفي الدولة لمدة 6 أشهر تقريبًا حين كانت الخزينة العامة شبه فارغة. وفي لمسة رد للجميل كلفه الملك فيصل -رحمه الله- بكل عمليات الإنشاءات في الدولة، وَأَسْنَدَ إليه وزارة الإنشاءات.
تكفل بن لادن بإعادة بناء المسجد الاقصي بعد الحريق الشهير الذي تعرض له في سنة 1969 بعد مساهماته العديدة في توسعة الحرمين.. بن لادن الأب كان كريمًا متواضعًا رغم ما كان يتمتع به من سعة، وكان يحتفظ باستمرار بالكيس (القفة) التي كان يستخدمها عندما كان حمالا في بواكير حياته، ويعلقها في بهو منزله ليُذكِّر نفسه وأبناءه بماضيه البسيط قبل أن ينال ما ناله من مال ونفوذ.
جمع بن لادن بين زوجاته جميعهن في بيت واحد، كانت أم أسامة السورية الوحيدة، باقيهن كن سعوديات ومصريات، حرص علي تربية أولاده تربية دينية ملتزمة شرعيًّا وأخلاقيًّا، وعندما توفي كان "سالم" الابن الأكبر هو الشخصية الأقوي بين أبنائه؛ إلا أنه توفي في حادث طائرة، ولم يتمكن الأخ الذي يليه في الترتيب "بكر" من ملء الفراغ الذي تركه.
تأثر أسامة في صباه تأثرا كبيرا بالشخصيات التي كان والده يستضيفها في مواسم الحج؛ مثل: محمد قطب، والشيخ عبد الله عزام، وعندما بلغ السابعة عشرة تزوج أسامة بن لادن زوجته الأولي من بنات أخواله في الشام، وأنهي دراسته الجامعية في جدة، وتخصص في علم الإدارة العامة، ولكنه كان مطلعا علي أنشطة القيادات الإسلامية المعروفة في ذلك الوقت، ولم يسافر حتي سنيّ شبابه لأي بلد إلا إلي دول الجزيرة العربية، وباكستان، وأفغانستان، وسوريا، والسودان.
أسامة ومشروع الجهاد
بدأت علاقة أسامة بأفغانستان منذ الأسابيع الأولي للغزو الروسي، وساءه أن يحكم الشيوعيون بلدًا مسلمًا، ورتب مع الجماعة الإسلامية في باكستان رحلة إلي كراتشي انتقل بعدها إلي بيشاور؛ حيث قابل قيادات المجاهدين، مثل: سياف، ورباني، وحرص علي أن يخفي أسرار هذه الرحلة الأولي لأنه لم يكن يعلم ماذا عساه يكون توجه الدولة؟ عاد أسامة إلي السعودية ونفذ حملة علاقات عامة لصالح المجاهدين، وحمل هذه التبرعات في رحلته الثانية لباكستان، وكرر هذه الرحلات عدة مرات، ولكنه لم يدخل الحدود الأفغانية قط قبل عام 1982م، ففي هذه السنة قرر أن يجتاز الحدود، وأن يُشارك في الجهاد مع الأفغان، وبعد أن رأي الطبيعة الجبلية الصعبة جلب عددا هائلا من المعدات والجرارات والحفارات لمساعدة المجاهدين في تمهيد الطرق، وإنشاء المعسكرات، وفي 1984م ظهر أول نموذج للعمل المؤسسي ممثلا في "بيت الأنصار" في بيشاور الذي اعتبره المجاهدون المحطة الأولي لاستقبال القادمين للجهاد، ولم يكن لأسامة حتي هذا الوقت تنظيمه الجهادي الخاص به؛ بل كان يرسل القادمين ل"بيت الأنصار" إلي أي من الجماعات المقاتلة سواء حكمتيار، أو سياف، أو رباني. وفي نفس الوقت تقريبا أسس الشيخ عبد الله عزام مكتبا للخدمات تكفل بالمهمات الإعلامية مثل الدعاية للقضية، وجمع التبرعات، وحتي سنة 1986 كان أسامة قد تمكن من إنشاء 6 معسكرات، ساعدته خبرته الإنشائية والإدارية في تحريكها ونقلها من مكان لآخر حسب ما تقضي به الظروف، وكان للدور الذي لعبه أسامة في تيسير مهمة الجهاد من دعم مادي وإعاشة أثر كبير في إقبال الشباب العرب علي المشاركة بحماس في هذه المهمة.
شارك المجاهدون العرب في عدد من العمليات كانت أشهرها معركة "جاجي" التي هزموا فيه وحدات عسكرية من الجيش الروسي، وتوالت المعارك والاشتباكات الكبري التي وصل عددها إلي خمسة اشتباكات حتي عام 1989 وطوال تلك الفترة لم يغادر أسامة أفغانستان إلا فترات قليلة حتي جاء الوقت المناسب لتأسيس القاعدة.. فما هي القاعدة؟.
قاعدة بن لادن
تعددت العمليات، وتكاثر عدد المجاهدين، منهم من استشهد، ومنهم من أصيب، ولم تكن هناك سجلات وافية لحصر كل هذه البيانات الخاصة بالموارد البشرية حسب المفهوم الإداري، ورأي أسامة أن هذا الوضع مخجل، ولهذا قرر أن يُنشئ مبني به كل السجلات النوعية لحفظ كل البيانات مع التوسع فيها لإضافة التفاصيل ذات الصلة، واتفق مع معاونيه علي أن يطلق علي هذه الإدارة المستقلة اسم (سجل القاعدة) والتي تضمنت كل الملفات الخاصة ببيت الأنصار، والجبهات، ومعسكرات التدريب، وكانت هذه هي بداية (القاعدة)، تلك الكلمة البسيطة التي أصبح لها صدي مدوي، ووقعٌ مروّع علي الأسماع.
بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان 1989 عاد أسامة في زيارة للمملكة السعودية؛ إلا أنه فوجئ بأنه ممنوع من مغادرة البلاد مما أثار في نفسه قدرا كبيرا من الاستياء، ولكنه استغل فترة وجوده في تأسيس حركة جهادية ضد اليمن الجنوبي تنطلق من السعودية، وقد سبب هذا الأمر ضيقا للحكام في السعودية نتيجة الحرج الدبلوماسي الذي تعرضوا له، هذا بالإضافة إلي أنه بدا في عيون الحكام رجلا استسهل فكرة الجهاد العسكري، وقد أدركت الحكومة السعودية أن مسار هذه الشخصية من المحتم أنه سوف يتقاطع مع المصالح العليا للمملكة العربية السعودية، لذا لم تكتف الداخلية السعودية بمنعه من السفر، ولكنها وجهت له تحذيرات متعددة كي لا يمارس أي نشاط سياسي علني، وأصبح مهددا بتحديد الإقامة أو الاعتقال.
جاء هذا التطور عقب المحاضرة التي ألقاها أسامة بن لادن سنة 1990 تنبأ فيها بأن النظام العراقي سوف يغزو الكويت في وقت كانت فيه العلاقات بين العراق والسعودية كأفضل ما تكون. وما أن سمع أسامة بغزو العراق للكويت في 2 أغسطس 1990 حتي بادر بطرح عدة اقتراحات تضمنت تعبئة شباب الأمة للمشاركة في عملية إجلاء العراقيين من الكويت، وهي الفكرة التي بدت في نظر الحكام العرب أقرب ما تكون إلي الرومانسية منها إلي كونها اقتراحا واقعيا قابلا للتطبيق؛ إلا أن سلوك صدام حسين أثناء الغزو، وفي الفترة التي أعقبته؛ أثبت أنه كان يحتاج فعلا لحرب نظامية أمام جيش نظامي لأن كل الشواهد أكدت أن صدام لم يكن في نزهة بالكويت، ولكنه عقد العزم علي أن يضمها فعليا إلي حدود العراق، مما كان يتطلب أعمالا عسكرية ضخمة لرده إلي حدود دولته.
كانت الرؤية عند بن لادن مختلفة؛ لأنه اعتبر أن استدعاء الولايات المتحدة صدمة كبري، ففي تقديره كان هذا الحدث هو الأول منذ البعثة النبوية الذي يهيمن فيه الكفار علي الجزيرة العربية بقوتهم العسكرية، فانتابه شعور كريه بالإحباط، وزاد قلقه علي مستقبل الجزيرة من هذا التطور الخطير، وعندما تيقن من أنه لا جدوي من مخاطبة المسئولين والتفاوض معهم؛ تحرك أسامة باتجاه استصدار فتوي بوجوب استعداد كل المسلمين للقتال، وخاصة من كان منهم من أهل الجزيرة العربية، وقد أفتي فعلا الشيخ ابن عثيمين بهذا الرأي. وهكذا شحذ بن لادن همة الشباب للتجمع في معسكرات للتدريب في أفغانستان مرة أخري.
لك أن تتصور قدر المعاناة التي لقيها في ظروف تحديد تحركاته، ومنعه من مغادرة السعودية، وملاحقة الأجهزة الأمنية له؛ إذ هاجمت الشرطة مزرعته بجدة أكثر من مرة، وقامت بتفتيشها بشكل مفاجئ عدة مرات، وكلما كان الحصار يضيق حوله ألحت عليه فكرة الخروج من البلاد، ولكن كيف يتأتي له ذلك في ظل الظروف السابقة؟!. فقرر أسامة الهروب لأنه لم يتحمل كل الاستفزازات التيصاحبت حرب تحرير الكويت "عاصفة الصحراء".
كان أحد إخوته مقربًا من الأمير أحمد بن عبد العزيز (نائب وزير الداخلية السعودي) واستطاع أن يقنعه بضرورة سفر أسامة إلي أفغانستان لإنهاء متعلقاته، وهكذا أعاد له جواز السفر، وسمح له بمغادرة البلاد، وفي الوقت نفسه كلف الجهات الأمنية بمتابعته.
بهذه الكيفية غادر أسامة السعودية بشكل طبيعي، ولكن ما إن وطئت قدماه أرض باكستان حتي أرسل لأخيه رسالة رقيقة يخبره فيها بأنه لن يعود إلي السعودية، معتذرا له عما يمكن أن يسببه له هذا السلوك من حرج كبير أمام سلطات وزارة الداخلية.
وبسبب التعاون الأمني بين أجهزة الاستخبارات السعودية والباكستانية؛ لم يستطع أسامة البقاء في باكستان فترة طويلة؛ مما دفعه إلي عبور الحدود إلي أفغانستان، في الوقت الذي بدأت فيه الفصائل الأفغانية في التناحر، وهذا ما حدا به إلي نصح الشباب العرب بألا ينضموا لأيٍّ من هذه الفصائل، وفي هذه الأثناء تعرض أسامة لمحاولات عدة لاختطافه وإعادته للسعودية؛ إلا أنها باءت بالفشل بسبب تعاون بعض أفراد الداخلية في باكستان معه. ولما بلغ به الضيق مبلغه كان التوجه إلي السودان هو أحد الخيارات المطروحة أمامه، وكانت السودان آنذاك تمور بحركات إسلامية يقودها حسن الترابي تدعو لتطبيق الشريعة، وإعلان دولة إسلامية.
توجه بن لادن إلي السودان بطائرته الخاصة في نهاية 1991، وأحسنت الحكومة السودانية وفادته، وتمكن من نقل جزء من أرصدته المالية ومعداته إلي هناك مساهما بجدية في عدة مشروعات لإنشاء الطرق، وحتي ذلك الحين لم تكن أي عملية عدوانية قد انطلقت من داخل حدود السودان، وفشلت كل المحاولات التي بذلتها السعودية لإعادة بن لادن، وفي نهاية 1992 جمدت السلطات السعودية حساباته البنكية بعد أن أصبح نشاطه قضية ساخنة في ملفات المخابرات المركزية الأمريكية.
في عام 1994 أصدر الملك فهد بن عبد العزيز قرارا بسحب جنسيته، وتزامنت هذه الإجراءات مع حراك سياسي داخل المملكة تمثل في لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، وكان هذا هو التوقيت الذي اتخذ فيه أسامة بن لادن أول خطوة معلنة ضد حكومة المملكة حين دعا إلي تكوين هيئة أسماها "هيئة النصيحة والدفاع عن الحقوق الشرعية" وقد افتتحت هذه الهيئة مكتبا في لندن باسم "هيئة النصيحة والإصلاح" وتولي إدارته خالد الفواز.
وأثناء إقامة بن لادن في السودان حدثت تطورات ذات دوي مزعج تمثلت في تفجيرات كبري داخل الأراضي الصومالية، والمملكة السعودية نفسها، كما فجرت فرق القاعدة فندقا كبيرا بعدن في اليمن، وكانت انفجارات السعودية أشد وأنكي؛ إذ دمر مبني للحرس الوطني بالرياض، وتسببت هذه التفجيرات في إصابة الحكومة السودانية بحرج شديد من إقامة بن لادن علي أراضيها، ولم يكن عند السودانيين استعداد للصبر الطويل أمام الضغوط الأمريكية ونداءات المجتمع الدولي، فبدأوا يضغطون علي الأفغان العرب كي يغادروا السودان، وبعد أن أمّن أسامة موقعا مناسبا في جلال أباد أعد العدة للرحيل من السودان في عملية أحاطها بالسرية الكاملة، فاستقل طائرة خاصة حملته مع عدد من أنصاره إلي أفغانستان؛ حيث كان في استقباله الشيخان يونس خالص، وحقاني.
بعد ذلك استولي فصيل طالبان علي جلال أباد، ثم علي كابول، وبعد ذلك تتابعت الأحداث بشكل دراماتيكي بدءا من انفجار الخُبَر، مرورا بمحاولة خطف أسامة، وانتهاء بالبيان الذي صدر في نوفمبر 1996 وأعلن فيه الجهاد ضد أمريكا، وكان عنوان هذا الإعلان (الجهاد لإخراج الكفار من جزيرة العرب) وقد أصدره بشكل شخصي.
وقد حاول السفير السعودي في إسلام اباد الضغط علي يونس خالص لتسليم أسامة، لكن رده كان حاسما: "لو لجأت إلينا عنزة أو حيوان لحميناه, فكيف برجل باع نفسه وماله للجهاد في سبيل الله؟". وأصبحت طالبان هي القوة الكبري في أفغانستان بعد أن سيطرت علي كابول. فبعث الملا عمر (زعيم طالبان) إلي أسامة برسالة تطمينية، ووعده بأنه سيبقي في حمايته كما كان في حماية من آووه قبله. وانتقل أسامة من جلال أباد إلي كابول بالسيارة، ومنها استقل الطائرة إلي قندهار حيث التقي الملا عمر للمرة الأولي، وكان اللقاء وديا، وتحدث فيه زعيم طالبان عن التحديات الكبري التي تواجهه من قبل قوات "دوستم" وطلب من أسامة تخفيف الحملة الإعلامية حتي لا يثير مزيدا من الزوابع من قبل الغرب، وقوبل هذا الطلب بالإيجاب من قبل أسامة.
من جهة أخري اعترفت المملكة السعودية بحكومة طالبان كنوع من التودد لكي تطلب تسليمها أسامة، ولكن كان موقف طالبان واضحا من التزامها بالدفاع عن أسامة بن لادن. نظير هذا الموقف الشجاع من طالبان قرر أسامة أن يساند طالبان في صراعها ضد "دوستم" وعندما أصر "شاه مسعود" علي أن يكون طرفا في الحرب استصدر أسامة فتوي من المرافقين له من الفقهاء بأن قتال مسعود يُعتبر جهادا شرعيا.
كان دوستم ومسعود يخوضان الحرب بدوافع قبلية وليست دينية، وساعد علي تماسكهم اعتماد دوستم علي الأوزبك، واعتماد مسعود علي الطاجيك، وحظي مسعود ودوستم بدعم الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، وبالرغم من كل هذه الظروف المعاكسة كان لقتال القاعدة إلي جانب طالبان الأثر الأكبر في أن رجحت كفة الحرب لصالحهم.
واصل الأمريكان وحلفاؤهم محاولات اختطاف بن لادن، وأشهرها عملية الكوماندوز التي انطلقت من الأراضي الباكستانية، ولكن تسربت أخبارها إلي الصحافة فانكشفت الخطة التي أنكرها الأمريكان فيما بعد.
في نهاية عام 1997 قرر أسامة أن يستعيد نشاطه في محاربة الأمريكان، ونجح في أن يستصدر فتوي من 40 عالما من أفغانستان وباكستان لإخراج القوات الكافرة من الجزيرة العربية، ووزعت الفتوي علي نطاق واسع، وكان لهذا التحرك هدفان: الأول: مشروع إسلامي شامل لحشد علماء المسلمين ضد الوجود الأمريكي في الجزيرة العربية. والثاني: الحصول علي غطاء شرعي لتواجده علي الأراضي الأفغانية.
وكان من نتائج هذا التطور في سلوك بن لادن -أو ربما تواكب معه- أن تجمع معه عدد كبير من قيادات الجماعات الإسلامية، وخاصة جماعة الجهاد المصرية في أفغانستان، وتقاطر عدد كبير من الوفود من كشمير، وتمكنوا مجتمعين من إقناع أسامة بتوسيع مفهوم الحرب مع أمريكا ليشمل قتالها في كل مكان، وتوسعت القناعة لتشمل قتل كل أمريكي في سِنِّ القتال في كل زمان ومكان ومعهم اليهود أيضا، وكان لأصحاب هذه الفكرة مبرران؛ الأول شرعي بناء علي أن الأمريكان النصاري يحتلون أرض الحرمين الشريفين، وبما أنهم مع اليهود يقتلون المسلمين ويستبيحون دماءهم يصبح قتالهم مشروعا في أي زمان ومكان، أما الثاني فسياسي يعتبر أمريكا العدو الأول للإسلام، ومن الضروري أن يشعر المسلمون بأنهم أعداء أمريكا، وتتحول هذه القضية سواء في العراق أو فلسطين إلي قضية إسلامية تهم كافة المسلمين في العالم.
وقّع البيان السالف الذكر عن جماعة الجهاد المصرية د. أيمن الظوهري، ورفاعي طه (أحد مسئولي الجماعة الإسلامية المصرية)، ووقعتها أيضا مبادرات من فصائل كشمير وباكستان، وكان هذا البيان نقطة تحول مفصلية في تاريخ بن لادن العسكري؛ إذ كانت هذه هي بداية تكوين ما يعرف ب"الجبهة الإسلامية العالمية".
لم يكن الملا عمر راضيا عن هذه النشاطات لأنها تخالف ما اتفق عليه مع أسامة قبل سنوات من وجوب تهيئة الأجواء، لكن أسامة رد قائلا: إن الظروف التي كانت تستوجب التهدئة تغيرت، ولم يعد هناك مبرر للصمت، مستندا للفتوي الشرعية التي استصدرها، وكان هذا ما أثار غضب الملا عمر الذي كظم غيظه علي عكس موقف أسامة الذي استمر في التصعيد، وعقد مؤتمرا صحفيا في مايو 1998 دعا إليه عددا محدودا من الإعلاميين، مواصلا التحريض علي قتال الأمريكيين في كل مكان وزمان. وبالطبع زاد هذا من حنق الملا عمر، فأعلن عن الخلاف مع أسامة؛ إلا أنه آثر التمسك بالصمت، والاعتماد علي الإقناع إلي أجل غير مسمي.
السفارات الأمريكية تتفجر
.. والأمريكان يردون
كان الأمريكان يأخذون تهديدات بن لادن مأخذ الجد، ولكن أتتهم الضربة من حيث لا يحتسبون حين فُجرت سفارتاهما في نيروبي وتنزانيا في 7 أغسطس 1998 بواسطة شحنتين متفجرتين، وكانت الأحداث وردود الأفعال السياسية والاستراتيجية أهم بكثير من الخسائر المادية الفعلية التي لحقت بالسفارتين، ونلاحظ في ردود الفعل العالمية هذه الملاحظات. أولا: جاءت قائمة الاتهامات التي نشرتها وسائل الإعلام الغربية لتعلن عن مسئولية الأصولية الإسلامية في المقام الأول، وفي الوقت نفسه استبعدت من قائمة الاتهام الجهات التقليدية مثل إيران والعراق وليبيا، وجاء التركيز في المقابل علي بن لادن، وجماعة الجهاد المصرية. ثانيا: أعادت هذه التفجيرات ملف تفجير الخُبر الذي لم يكن قد أُعلن عن المسئول عنه حتي ذلك الوقت، وأصبح بن لادن هو المسئول الأول عنه، وملكت السلطات الأمريكية الدليل الذي تستند إليه حتي شككت في ادعاءات الحكومة السعودية التي سبق لها أن اتهمت الشيعة وإيران. ثالثا: ربط المعلقون بين هذه الأحداث الإرهابية وبين الوجود الأمريكي في العراق، والسياسة الإسرائيلية مع الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه عاشت الأنظمة العربية المتعاونة مع أمريكا أوقاتا صعبة؛ لأنها أدركت مدي خطورة وقوة هذه التنظيمات التي تعيش علي أرضها، وينضم شبابها إليها، ووسط هذا الصخب الإعلامي لم يعلن مسئوليته عن الأحداث سوي (الجيش الإسلامي لتحرير المقدسات) وهو اسم منظمة غير معروفة من قبل، وإن كان من السهل استكشاف قوامها من خلال البيان السابق للجبهة الإسلامية العالمية، لكن الأهم من كل هذا هو أن الجهات الإسلامية التي نسب إليها تدبير الانفجارين قد أثبتت قدراتها الفنية واللوجستية والبشرية رفيعة المستوي من خلال عنصري المفاجأة والتزامن المتقنين.
كانت القناعة راسخة عند الأمريكيين بأن أسامة بن لادن هو من وراء هذه العملية، وكان رد فعلها عصبيا وفجائيا وغير مدروس؛ إذ ضربوا أفغانستان والسودان بعنف شديد، وقيل إنهم قصدوا أهدافا محددة، ولكن هذا العدوان العشوائي حقق نجاحا كبيرا للجماعات الجهادية التي استطاعت أن تستدرج الأمريكان إلي هذا السلوك، ومن هنا كان من اليسير حشد الرأي العام الإسلامي ضد الأمريكان، فقد كانت الضربة الأمريكية من حيث التوقيت، والطريقة، ونوعية الهدف، والشدة؛ دليلا علي ارتباك وسوء تقدير من قبل الأمريكين، وإذا لم تكن فضيحة كلينتون مع مونيكا وراء هذا التصرف فلا يوجد تفسير آخر سوي غلبة العنجهية والغرور علي التخطيط والدراسة والحكمة.
كان الهدف الذي ضربته أمريكا في السودان هو مصنع للأدوية زعمت أن بن لادن يستخدمه لإنتاج السلاح الكيميائي، ولما استطاعت السودان أن تفند هذا الادعاء كان قدرُ الخجل والفشل الذي انتاب العسكرية الأمريكية كبيرًا جدًّا، أما في أفغانستان فقد كان الخطأ أفدح؛ إذ زعم الأمريكيون أنهم يضربون البنية التحتية لبن لادن، وكان هذا شيئا مضحكا؛ لأن بن لادن لا يقود جيشا نظاميا، ولكنه يقود مجموعة من الفرق التي تتخذ من الكهوف ملجأ، ومن الدروب الضيقة بين الجبال ملاذا. ولما كان معظم الضحايا في أفغانستان من كشمير؛ فقد اندفع زعيمهم وأعلن علي الملأ في مؤتمر صحفي أنه يعلن الحرب علي كل من أمريكا والهند، وقد حققت هاتان الضربتان الفاشلتان لجماعة الجهاد ولتنظيم القاعدة كل ما كانوا يأملونه؛ إذ بدا واضحا للعالم أجمع أن بن لادن ندٌّ وخصمٌ حقيقي لأمريكا، وأصبح في سياق الخطاب السياسي الأمريكي هو البعبع الأول، وشاهد الملايين في العالم الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع ورئيس الأركان وهم يصرون علي ذكر أسامة بن لادن في خطابهم وأجوبتهم علي الصحفيين، وهذا ما أعطي للمحسوبين علي التيار الجهادي -وخاصة أتباع بن لادن- إحساسا كبيرا بالرضا والارتياح. أما في العالم العربي والإسلامي علي مستوي عامة الشعب، حيث يعيش الناس متعطشين لزمن البطولة، تواقين لبذل التضحيات في سبيل الدين؛ فقد كان الناس شغوفين بظهور بطل يشبع رغبتهم في الانتقام، ويعبر عما يجيش في صدورهم من غضب، وما يبشرهم بدنو الزمن الذي يستطيعون فيه تحجيم أمريكا التي غدت الوريث المباشر والقبيح للاستعمار التقليدي قبل الحرب العظمي.
اعتبرت القوي الشعبية أن ما يفعله بن لادن ليس إلا ردا علي ما يفعله الأمريكان في فلسطين، والعراق، وإفريقيا؛ أما في باكستان والمشرق الإسلامي فقد تجاوز الإعجاب ببن لادن إلي اعتباره قائدا ومخلصا للمسلمين من قبضة الأمريكان، وخرجت المظاهرت ترفع صوره.
كانوا يستطيعون أن يسلكوا مسلكا آخر في إطار ردود أفعالهم علي التفجيرات، ربما من الأفضل لهم أن يستغلوا الآلة الإعلامية لتضخيم ما تعرضوا له من عدوان، أو يمكنهم تصوير المعتدين من جماعة بن لادن تصويرا بربريا وحشيا، وكانوا يستطيعون نشر صور السفارتين المحطمتين وما نالهما من خسائر بشرية وتقبيح صور المجاهدين باعتبارهم إرهابيين ومتعطشين للدماء. ربما، لو فعلوا هذا، كانوا سيكسبون تعاطفا إنسانيا من قبل المحايدين، ولكنه الحمق والغطرسة التي تصور لصاحبهما أن استعراض القوة الغاشمة أجدي من التدبر والحكمة. كإن في غياب هذا الفكر عن القيادة الأمريكية أكبر انتصار للقاعدة.
واصلت أمريكا حملاتها الانتقامية فشرعت في اعتقالات ضد العرب والمسلمين بحجة علاقتهم ببن لادن، ولكن هذه الحملة شابتها العشوائية، وكانت موضع سخرية، فما أن تعلن عن اعتقال أو قتل "أمير الجماعة" حتي يظهر لهذه الجماعة أمير آخر، ويتبين للعامة أن الأمراء في هذه الجماعات أكثر من الأفراد، أما بن لادن نفسه فقد بقي في هذه الفترة تحت حماية طالبان خوفا من عملية اغتيال أو اختطاف مفاجئة. ومن جانبها لم تتوقف السعودية عن مطالبة طالبان بتسليم بن لادن، ولهذا أرسلت الأمير تركي الفيصل -أكثر الأمراء خبرة بأفغانستان- وبصحبته عبد الله التركي (وزير الشئون الإسلامية) وسليمان العامري (القائم بالأعمال في كابول). وفي قندهار قابل الوفد الملا عمر؛ حيث انتقد الملا شرعية طلب تسليم أسامة، وتواني المترجم عن نقل بعض العبارات التي وجهها الملا عمر للوفد السعودي، فأصر علي أن تصلهم الرسالة حرفية، والأكثر من هذا أنه لم يرسل اعتذارا رسميا بالطرق الدبلوماسية للوفد السعودي بعد أن غادر بلاده.
وفي نهاية سبتمبر من العام نفسه طردت السعودية ممثل طالبان كأبسط رد الفعل إزاء رفض طالبان تسليم أسامة أو أي من الأفغان العرب، وفي هذه الأثناء جاء التصريح السعودي للمرة الأولي منذ أحداث الخُبر يعلن للجميع أن السعودية لديها من الأدلة ما يثبت تورط أسامة بن لادن وغيره من أفراد القاعدة في هذه التفجيرات. وكان طرد ممثل طالبان في السعودية قبل يوم واحد فقط من زيارة الأمير عبد الله ولي العهد للولايات المتحدة، وهو بمثابة تبرئة لساحة المملكة السعودية أمام المجتمع الدولي من علاقتها بطالبان وتنظيم القاعدة.
وكان علي أسامة أن يرد جميل طالبان فقام ومعه رجال القاعدة بحماية أحد جبهات كابول من هجوم لجماعة أحمد شاه مسعود، بينما كانت طالبان مشغولة بجبهة "باميان" حيث الشيعة، وبجبهة الشمال حيث دوستم. وقد أبلي العرب في هذه المعركة بلاء حسنا، وعلي أثر انتصارهم انضم لتنظيم القاعدة محاربون من جنسيات غير عربية من باكستان وبنجلادش وطاجيكستان وأوزباكستان.
وبالرغم من اللغط الإعلامي الذي اكتنف هذه المرحلة حيث بدأت الصحف السعودية في شن هجمات علي طالبان، وقد كانت قبلا تعتبرهم طلاب علم.. وفي صحيفة الشرق الأوسط ومن باب الحرب النفسية نشرت أخبار مدسوسة تفيد بأن الملا عمر قد حنث بعهده لبن لادن وتعهد بتسليمه للسعودية، ولكن سرعان ما لحقت هذه الصحيفة خيبة أمل كبري عندما اعتقلت طالبان مجموعة من الجواسيس الذين كلفتهم السعودية بالعمل داخل أفغانستان للتخطيط لاختطاف بن لادن أو إيذائه.
وكانت والدة بن لادن هي الورقة الأخيرة التي لجأت إليها السعودية في السعي وراء عودته، فقد كانت ممنوعة من السفر، وحرمت من زيارته عندما كان في السودان وعلمت الحكومة السعودية أنه كان في أشد الشوق لرؤيتها فعمدت لترتيب زيارة خاصة بطائرة تنقلها مباشرة إلي قندهار، صحب والدة أسامة زوجها الذي كان ينتمي لعائلة العطاس، وهي عائلة حضرمية معروفة وكانت تحمل من بين ما تحمل من عواطف رغبتها في أن يترك أفغانستان وأن يعود إلي السعودية وبالرغم من أن اللقاء كان وديا إلا أن أسامة أخبرها أن قضية العودة ليست مطروحة للنقاش.
عاود أسامة الظهور في وسائل الإعلام في 1999 وهو ما يتناقض مع اتفاقاته السابقة مع طالبان، وكانت تعليقاته وأجوبته تدل علي أنه ما زال علي موقفه من محاربة النصاري واليهود أني كانوا في العالم، ولهذا السبب قررت طالبان عزله لسببين، أولهما حمايته، وثانيها أن يقوا أنفسهم شر الحرج الدولي علي كل المستويات، وفي نهاية المطاف طلبت أمريكا رسميا من مجلس الأمن أن يسمح لها بحصار طالبان وهو ما وافق عليه المجلس كما هو متوقع، ولكن الأمر كله لم يخرج عن كون أمريكا أساءت الفهم والتخطيط للمرة الثانية، فقد تخيلت أنها ممكن أن تخضع طالبان بحرب ضروس دون أن تعي الفرق بين الحروب مع الجيوش المنظمة والحرب في أوكار ودروب صحراوية بين الجبال ومن خلال الكهوف، وهو الأمر الذي كان كفيلا بأن يحيق بها الفشل للمرة الثانية.
بقي بن لادن في حماية طالبان في أماكن غير معلن عنها، وكان ينجح من حين لآخر في تسريب بعض التسجيلات الصوتية والمرئية لتبثها قناة الجزيرة القطرية، ولم يكف فيها عن نفس أسلوب التهديد والوعيد. عاش بن لادن في حماية مجموعة من شباب القاعدة وفي معية أكبر معاونيه "أيمن الظواهري" من مصر و" سلمان الغيث" من الكويت، إلي أن وقعت الواقعة في 11 سبتمبر 2001 وهي الحادثة التي بلغت بالمأساة إلي ذروتها عندما أصبح هذا التاريخ علامة فارقة في تاريخ العالم.. نستطيع أن نقول إن العالم الذي قسمته الحرب العالمية الثانية أعيد تقسيمه بعد حادث الاعتداء علي برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك.. قسمه بن لادن إلي فسطاط الله، وفسطاط الشيطان، وبنفس المنهجية الفكرية قسمه جورج بوش الابن إلي عالم مع الحرية وعالم ضد الحرية. وكان أن دعت أمريكا كل الأحرار في العالم للانضمام لمعسكرها لإعلان الحرب علي أفغانستان انتقاما من طالبان وبحثا عن بن لادن. وبرغم أنها اتبعت نفس المنهج المحكوم عليه بالفشل المسبق إلا أنها لم تتوان رغم خسائرها المادية والبشرية الكبري، بقي بن لادن حبيسا بين إخوانه.
سقطت طالبان وأقيمت في أفغانستان حكومة كرازاي وبقت المسئولية الأدبية لتوقيف بن لادن أو تسليمه للولايات المتحدة ملقاة علي عاتق الحكومتين الباكستانية والأفغانية، وتعددت الأعمال الانتقامية من تنظيم القاعدة تطارد الأمريكان في كل مكان في العالم، بل وتطارد وتهدد الأوروبيين أيضا من مدريد إلي لندن، تغيرت أساليب حماية الطيران المدني وضاعفت ميزانية الأمن المدني في البلاد المختلفة، واكتشف أكثر من مرة خطط لتفجير طائرات تعبر المحيط، وخطط أخري لتفجير برج إيفل بباريس.
عاش العالم الرعب المنتظر الذي لا يعرف الشكل الذي سوف يتخذه كما أنه لا يعرف لا مكانه ولا زمانه (نلحق في نهاية الدراسة سجل بالأعمال الارهابية التي قامت بها القاعدة منذ أحداث سبتمبر 2001 وحتي الآن).. ولا تدري إذا كانت قصة بن لادن قد انتهت باغتياله في 2 مايو 2011 بما فيها من ملابسات لا داعي للإسهاب فيها ؟أم أن هناك فصولا أخري لقصة صراع بن لادن من أجل أن يحكم العالم طبقا لشريعة الله مقاتلا أعداء الله أيا كانوا وأينما كانوا؟
الخطوة التالية في دراستنا سوف يكون موضوعها دراسة الفصول السابقة في تاريخ الارهاب في العالم قبل بن لادن.. حكاية الإرهاب قديمه وحديثه.. تلك الحكاية التي تعتبر سيرة القاعدة هي آخر فصولها حتي الآن.
الإنسانية وتاريخ الفصول
السابقة للإرهاب
العنف ليس حادثا طارئا علي تاريخ التطور البشري، لأن التطور الذي يخيم علي علاقة الإنسان بالطبيعة وعلي علاقته بالآخر وعلي علاقات الجماعات بعضها بالبعض هو في حقيقة الأمر توتر مزمن ويتصاعد بمرور السنوات والعصور، ويفترض أن يكون المخرج من هذه العلاقات التي تتسم بالتوتر عن طريق وسيلة من وسيلتين، إما بتحقيق درجة أفضل من الانسجام بين الإنسان وكل من البيئة الطبيعية والبشرية، أو بالجهد الذي يبذل لإقامة علاقات عادلة بين الجماعات وهذا ما وعدتنا به العلوم الإنسانية المختلفة، فإذا تعذر أحد الحلين أو كلاهما انفتح الباب علي مصراعيه أمام عمليات ثورية شاملة تقاوم الظلم وتقيم ميزان العدل بين الناس.. وهذا هو الطريق الذي يفرغ فيه الإنسان ما لديه من مخزون العنف. والغريب أن السياسة ليست هي النقيض المباشر للعنف.. السياسة هي النشاط الذي تدعمه القوة المؤسسة علي الشرعية بغرض توفير الأمن الخارجي والوفاق الداخلي بين أفراد الجماعة، وتعتمد السياسة علي القوة الشرعية في عدة مستويات وقد تلجأ أحيانا إلي أنواع من العنف المقنن أو تعتمد علي عنف ينطوي علي الرغبة في اخضاع الآخر. هنا نسأل أنفسنا تري ما هو العنف؟ ونجيب بقولنا: إن العنف هو كل ضغط يمارس ضد الحرية وضد مختلف أشكال التعبير عنها، وهو كل سلوك يحرم الآخرين حرية التفكير والرأي واتخاذ القرار، وينتهي العنف تحديدا بتحول الآخر إلي وسيلة أو أداة من مشروع يمتصه ويبتلعه المعتدي. العنف قديم قدم الإنسان، أما كلمة إرهاب فهي مصطلح حديث نسبيا يرجع تاريخه إلي القرن الثأمن عشر الميلادي، حيث عرفت الكلمة إبان الثورة الفرنسية وابتداء من 1794 علي وجة التحديد. تشتق الكلمة الفرنسية Terreur بمعني رهبة أو رعب من أصل لاتيني، وتأخذ الرهبة مسارها في الاتجاه الذي تحدده قواعد المبدأ الطبيعي الذي يصوغ العلاقة بين القوي والضعف.
من المؤسف والمحزن أن تاريخ العنف يتقاطع عدة مرات مع مسيرة الأديان قديمها وحديثها حتي أننا في أحيان كثيرة نلوك مصطلح "الحرب المقدسة" بمناسبة وبغير مناسبة، وكأن العلاقة بين المقدس والدموي أصبحت عرفا بديهيا. كانت الحروب جزءا من تاريخ الأديان القديمة، لعب الدين في الحروب اليونانية دورا مهما إذ كانت البشائر والنذور والخوارق والظواهر الطبيعية مثل البرق والرعد تستغل لشحذ الهمم بوصفها علامات من الأرباب. وفي التاريخ الروماني ما يؤكد علي أن الدين كان هو الوسيلة التي يقنع به الحاكم شعبه بضرورة القتال خاصة عندما كان الشعب لا يوافق مجلس الشيوخ الذي كان يناط به مسئولية إعلان الحرب.
إن توظيف الحماسة الدينية لإلهاب المشاعر القتالية هو من أهم الحيل التي سببت ثمة ارتباط بين العنف والسياسة من جهة، وبين الدين والمتدينين من جهة أخري، وما الجماعات التي تطل علينا بوجهها العنيف القبيح سوي مجموعات لها مآربها الخاصة التي لا علاقة لها بجوهر الدين بحال من الأحوال. ويعود تاريخ العنف المستتر بالدين إلي ما قبل الميلاد وقد لبس عباءة كل من اليهودية والمسيحية والإسلام.
السيكارين والعودة
إلي الجيتو
جماعة السيكارين هي أول جماعة إرهابية في العالم وكانت جماعة يهودية أطلقت علي نفسها هذا الاسم نسبة إلي الخنجر اليهودي.. فما هي حكايتهم؟ بعد عودة بني إسرائيل من سبي بابل إلي أرض فلسطين في 539 ق.م انقسم اليهود إلي فريقين أحدهم متمسك بالشريعة الألهية والآخر تبني موقفا تجديديا مسايرا للعصر، تمثل التجديد في اندفاع العديد من شباب اليهود إلي محاكاة العادات الإغريقية، سعوا إلي تعليم اللغة اليونانية، وأقاموا مسابقات العدو ورمي الرمح. كانت فلسطين في ذلك الوقت ولاية سورية يحكمها اليوناني أنطونيوخوس، في 175 ق.م تحمس هذا الحاكم لفكرة إضفاء الطابع اليوناني علي المدينة وقرر أن يطرد المقاومين من اليهود مثل "ياسون" كبير الكهنة، وعندما سرت شائعة أن أنطونيوخوس مات استغل كبير الكهنة المطرود الفرصة وحاول العودة واقتحام المدينة بالقوة، ولكن الحامية الملكية تصدت له ومنعته، وشرع الإغريق في تأديب هذا الفريق المتمرد فقتلوا من قتلوا وعمدوا إلي إضعاف مراكز العبادة المحلية فغيروا معالم الهيكل وجعلوه مركزا لعبادة الإله جوبيتر. قامت الثورة ضد الحكم اليوناني بقيادة العجوز "متاتيا" وانضمت إليه قوات يهوذا المكابي ودخل الثوار مدينة أورشليم وطهروا الهيكل من التماثيل الإغريقية وكان "الحشمونائيون" هم أول من دعوا جموع اليهود إلي التمرد باسم إله إسرائيل الواحد وأسسوا أول حكم أوتوقراطي يستند إلي الشريعة الإلهية، وفتحوا الباب أمام كل أنواع العنف الديني.
في القرن الثاني قبل الميلاد حلت الإمبراطورية الرومانية محل الإغريق ووضع الرومانيون حدا لأحلام التوسع اليهودية وجاء رد الفعل اليهودي في صورة انسحاب صوفي لجماعة الأسينين الذين لجأوا للتعبد في الصحراء، أما في المدينة فقد استمر الكفاح لإخراج الرومان في صورة حركات سرية تعهدت أن تقاوم المحتل بكل السبل مستخدمين الخنجر المعروف باسم السيكاري، ومن هنا جاءت تسميتهم، وكان هدفهم تطهير الأرض مما بها من دنس (لاحظ هنا اقتران الديني بالسياسي، ولاحظ درجة التشابه مع الأهداف المعلنة لتنظيم القاعدة في تطهير أرض الجزيرة العربية من الأجانب الكفار!) لم يكتف السكارين بتوجيه ضربتهم لجنود العدو، ولكنهم أرهبوا أيضا اليهود غير المتمسكين بالشريعة أو المتعاونين مع الرومان، كما قتلوا كل من تزوج بأجنبية وكل من ارتدي الزي الروماني وتمكنوا في النهاية من اقتحام المدينة وقطعوا علاقتهم بروما.. وسار اليهود طوال تاريخهم علي هذا النهج، كلما واجهوا إخفاقا عسكريا أو سياسيا تنامي عندهم الشعور بالذنب والخطيئة محاولين التحرر من هذه المشاعر المؤلمة والهروب من الواقع بالاندماج في الأصولية الدينية وخوض المغامرات الروحية وهكذا ظهر المسيخ الدجال في أزمير وكان شخصا يدعي شبتاي تسفي 1626 _ 1676 م، وظهر بعل شيم طوف في بولندا 1700 _ 1760 م، (لاحظ التفسير الذي طرحناه في المنطقة العربية للمد الديني الأصولي بعد هزيمة 1967).
تاريخ الفكر السياسي عند اليهود حافل بجولات من الصراع بين الاتجاهات الدينية المحافظة التي وضعت نفسها في جيتو فكري منعزل عن تيار المجتمع وبين الاتجاهات السياسية الصهيونية التي تبنت فكرة تأسيس وطن قومي لليهود علي أرض فلسطين، ومما ساعد علي تنامي العنف اليهودي في النصف الثاني من القرن العشرين بعد تأسيس إسرائيل أن معظم اليهود في جنوب وغرب أوروبا خاصة في فرنسا كانوا من السيفاردين القادمين من شمال إفريقيا بعد أن شملتها حركات التحرر. واجه السيفاردين صدمة حضارية وثقافية دفعتهم للانكفاء علي الذات والتقوقع داخل مرجعيتهم الدينية مستبعدين فكرة الحوار مع الأخر (هل يناظر هذا تاريخ نشأة الأصوليات الإسلامية في الشرق والمسيحية في الغرب؟!). رفضوا كل ما لا يتواءم مع المظهر الديني التقليدي (اللحية الطويلة وغطاء الوجهة الأسود) وهكذا تحول المتدينون إلي أصوليين وتحول التقليديون المسالمون إلي مناضلين عالمانيين.
وننتقل بعد ذلك إلي حلقة أخري من حلقات العنف الديني متمثلة في الحروب الصليبية، والتطرف الأصولي.
المسيحيون وصليب العنف
تأخذ نقاط التقاطع بين العنف وتاريخ المسيحية شكلا مختلفا.. يتبادر إلي الذهن بالوهلة الأولي أحداث الحروب الصليبية، أما أشكال العنف الأخري فتتمثل كأجلي ما تكون في موقف رجال الدين في العصور الوسطي من كل من الرأي والإبداع وسوف نعرض هنا بإيجاز لكل من الحالتين .. العنف العسكري والعنف الفكري.
الحروب الصليبية (1096 _ 1171 م)
عقب استيلاء فرق من الأتراك السلجوقيين علي آسيا الصغري عام 1081 م تكونت مملكة الروم، استاء جدا قيصر الرومان الذي التجأ إلي بابا روما يحثه علي بذل ما في وسعه لإيقاف المد التركي، ورأي البابا في ذلك فرصة لبسط نفوذه علي ملوك أوروبا حال تحالفهم في حركة مبررها الدفاع عن النصرانية وتخليص بيت المقدس مهد المسيحية من سيطرة الحكم الإسلامي ومما شجع الأوروبيين علي الاستجابة لهذا النداء، ما كانوا يسمعونه من حجاجهم عند عودتهم من زيارة الأماكن المقدسة عما كانوا يلقون من إهانة، إضافة إلي الضرائب الباهظة التي يؤدونها، وعن مدي الهوان الذي يعيشه مسيحيوا الشرق.. أول من هيج النفوس ولعب دور الإعلام المحرض- بلغة العصر- كان راهبا فرنسيا اسمه بطرس الناسك. طاف بأوروبا حاملا رسائل من البابا للحكام يستنفرهم لأستنقاذ القدس من يد الأتراك.. بدأت الحروب الصليبية عندما خرجت الجيوش الجرارة في فترة عاني فيها الأتراك من الوهن، والنتيجة كانت هزيمة السلطان التركي واستيلاء الصليبيين علي جزء من آسيا الصغري والشام، وكونوا إمارات سميت الإمارات الصليبية أو اللاتينية ومن أهمها كانت إمارة الرها وإنطاكيا وبيت المقدس وطرابلس، وكانت كل منها تحرص علي مصالحها دون النظر إلي مصلحة الإمارات الأخري، وهكذا ضعفت شكيمتهم وتمزقت أواصرهم، وفي واحدة من المعارك التي انتزعت فيها بيت المقدس من السلاجقة لصالح الجيوش المصرية انقض الصليبيون وفتحوها مرة أخري وغنموا منها غنائم كثيرة، وأتوا من المنكرات ما سجله عليهم التاريخ.
انتهت هذه السلسلة من المعارك بهزيمة الصليبيين علي يد صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين. ولم يكتف صلاح الدين بهذا، ولكنه توغل حتي فتح عسقلان، وبعد سلسلة من المعارك رحل فيليب ملك فرنسا، وأصيب ريتشارد ملك إنجلترا، بحالة مرضية شديدة وعقد معهم صلاح الدين صلح الرملة الذي يتيح أن يبقي الساحل بين صور وصيدا تحت السيطرة الصليبية ويسمح للمسيحيين بالحج دون دفع رسوم. في هذه المواقع الحربية التي جرت منذ سنوات بعيدة، أريقت دماء كثيرة، وأزهقت أرواح تحت رايات حملت الرموز الدينية وباسم الدفاع عن المقدسات رغم ما تشي به الأحداث من أن الصراع كان صراعا سياسيا لتحقيق مآرب وأطماع توسعية.
هل بعث سافونارولا؟!
"إن الدافع الذي يدفعني يا أبي إلي الاعتصام بالدين هو الشقاء العظيم في الدنيا وظلم الناس للناس، والشهوانية وجرائم الزنا واللصوصية والكبرياء والوثنية والتجديف الفظيع، وكل ما يلوث الناس ويجعل من المحال أن تجد فيهم رجلا قادرا علي فعل الخير.. أهدني يا الله إلي الطريق الذي ينبغي عليٌ أن اسلكها حتي أستطيع أن أسمو بروحي واقترب منك".. كانت هذه سطور من الخطاب الذي تركه "سافونارولا" لأبيه قبل أن يغادر بيته ويترك أسرته في رحلة لم يكن فيها إياب.. من هو سافونارولا؟.. وما أوجه التشابهه وأوجه الاختلاف بينه وبين بن لادن رغم أن ستة قرون من الزمان تفصل بينهم؟
ولد جيروم سافونارولا (1452 _ 1498 م) في فيرارا بإيطاليا في زمن انتشر فيها الفساد والانحلال الخلقي، نشأ في أسرة متوسطة الحال، التحق بالجامعة في سن 18 وظهر تمرده علي أساتذته لكثرة جدالهم العقيم ولأنهم كانوا يطلبون من الطالب الانسياق الأعمي لأرائهم، انقطع عن الدراسة وعاد إلي بيته ولاحت أمامه فرصة مخالطة الأقران من الشباب الماجن، ولكنه لم يجد متعة في لهوهم، تعثر نفسيا لأنه لم يكن وسيما أو من طبقة النبلاء.. إخفاق في الدراسة، والصداقة، والحب.. ثلاثة هموم كانت كفيلة بتوجيه دفة مسيرة حياته إلي حياة صاخبة مأساوية.. اعتصم سافونارولا في دير "سان دومنيك" في بولونيا وانتهج سيرة تتسم بالتقشف والزهد, عكف علي دراسة الكتاب المقدس واستنكر من الأقران الاقبال علي علوم الدنيا دون علوم الدين، وبعد انتقاله لدير "سان مارك" في فلورنسا, انشغل بتفسير سفر الرؤيا وهاله ما به من ويلات تنتظر الحائدين عن تنفيذ وصايا الله، وكان في تناوله لهذه الموضوعات ما أتاح له أن يكون واعظا مفوها تلتف من حوله الجماهير حيث كانت قصص الفساد البابوي موضوعا يستثير حماس العامة، في هجومه علي الفساد وكان يقول: "إن الكنيسة الأولي لم تعرف التيجان البابوية ولا الطيالس التي يرتديها الكرادلة.. أكثر تلاميذ المسيح كانوا من الصيادين والبسطاء وكل مظاهر الأبهة والأعمال الفنية التي تتزين بها الكنائس ليست إلا آثار الوثنية الأولي.. وإلي أن تعود الكنيسة لبساطتها الأولي ويتوب الناس عن ارتكاب المعاصي فغضب الله قادم لا محالة"
اكتشف سافونارولا الحماس العاطفي المميز لمرحلة الشباب المبكر (قبل أربعة قرون من تكوين تنظيم الفاشيست الإيطاليين الباليللا، وقبل ستة قرون من تجمع العرب الأفغان في تنظيم القاعدة).. تجمع حوله الشباب وصغار الحرفيين وهم نفس الفئة التي كانت عماد فرق شباب هتلر في ألمانيا أيام النازي وكل االجماعات شبه العسكرية مثل الكشافة والجوالة والقمصان الخضر، وجماعات محطمي الحانات ونوادي الاعداء العقائديين. حث سافونارولا الشباب أن يعتصموا بالدين واعتبر أن ألوان الفنون والآداب ليست إلاٌ نكوص للوثنية اليونانية والرومانية. وشكل من الشباب الملتف حوله جماعات أطلق عليها غلمان الفرير، وهي ترجمة أقرب ما تكون إلي عبارة شباب الاخوان. قسم سافونارولا شباب الاخوان إلي خمس فرق: المصلحون, المصالحون, المفتشون, جامعو الصدقات، والنظاميون، وبهذه الكيفية كون قوة ضاربة من حشد جماهيري وأصبح هو الحاكم الفعلي في فلورنسا. بدأ سافونارولا عن طريق فرق شباب الإخوان يطبق رؤيته الخاصة للمسيحية فكان يعلق الزاني في الميادين العامة، ويعدمه إذا تكرر جرمه (لاحظ أيضا وجه التشابه مع الأفراد والجماعات التي تقيم الحدود بنفسها)، أغلق الحانات، حرم الرق، أمر النساء أن يبقين في بيوتهن لخدمة أزواجهن، هاجم البنوك الربوية وحرم اكتناز الذهب.. فماذا كانت نتيجة كل هذا؟
ركدت التجارة وتدهورت أحوال صغار الحرفيين وفشلت دعوته للجماهير أن يتقشفوا ويزهدوا الدنيا، وتصاعدت التيارات المضادة من قبل حاشية البابا والسلطة السياسية ممثلة في أسرة "دي ميديتش" ورجال الأعمال، حتي المواطنين العاديين انضموا إلي الحركة المضادة لأنهم لم يكونوا راضيين عن كبت الحريات والقمع الذي مورس ضدهم باسم الدين، ولكن مما أطال في عمر سافونارولا أن عناصر هذه التيارات المناوئة لم تكن متفقة فيما بينها، وفي مواجهة هذا التألب الجماهيري أيقن سافونارولا أن شباب الاخوان غير قادرين علي حمايته فطلب السند من شارل الثامن ملك فرنسا الذي زحف بجيوشه تجاه فلورنسا ولم يكن من بين الشعب من هلل لها سوي غلمان الفرير أو شباب الاخوان (لاحظ هنا عندما تطغي العاطفة الدينية علي الانتماء الوطني فتكون النتيجة هي الترحيب بغزو تحت ستار الدين والتضحية باستقلال الأرض، ولاحظ أيضا ما نسب لأحد كبار الأصوليين من قوله أنه يفضل حكم أي مسلم ولو كان من أندونيسيا أو ماليزيا). أصدر البابا قرارا بحرمانه هو وأتباعه الذين رفضوا جميعا قبول هذا القرار وطلبوا من السوربون فتوي تعينهم علي عقد مجمع مسكوني للنظر في جدارة البابا بشغل منصبه (دائما ما تكون الفتاوي جاهزة لتبريرالأفعال الحمقاء، كم مرة لجأ بن لادن للفتاوي يستند إليها قبل بياناته الصاخبة؟!)، وفي هذا السياق أرسل سافونارولا رسلا لكل من ماكسيميليان، إمبراطور النمسا، وإيزابيلا وفريناندو، ملكي إسبانيا، يحثهم علي التدخل والقيام بواجباتهم المقدسة لحماية المسيحية ومساندته ضد البابا والسلطة الحاكمة (نلاحظ تدخل السياسي والديني).
كلما ضاق الخناق حول سافونارولا كانت رغبته في الدفاع عن نفسه (وهي رغبة فطرية) لها الأولوية علي تمسكة بمبادئ التسامح في المسيحية وتعاليمها.. انتبه المجتمع لما حل عليه من فقر وبؤس وتشرذم فاحيطت حركة سافونارولا بالكراهية مما دفع البقية الباقية من مؤيديه إلي استئجار ميليشيات من المرتزقة في محاولة يائسة للدفاع عنه أمام الجماهير الغاضبة، وفي 8 إبريل 1498 نجح العسكر في اقتحام دير سان مارك والقبض علي سافونارولا وبلغت شدة غضب الجماهير عليه أن سلحوه في الشوارع وقدم لمحاكمة استمرات 40 يوما خصصت الأيام الثلاثة الأخيرة فيها للمحاكمة الدينية، وأسفرت المحاكمة عن انهيار سافونارولا واعترافه بأنه كان نبيا دجالا، وصدر الحكم عليه وعلي اثنين من اتباعه بالإعدام.. كانت هذه هي نهاية الراهب الذي قتلته الفضيلة لأنه اتخذ من الدين هراوة يخيف بها الجماهير أو أعداء الله حسبما كان يتصورهم.. ونسأل في حال من الدهشة: هل بعث سافونارولا؟.. وهل يوجد لكل عصر سافونارولا؟.
العنف في التاريخ الإسلامي
ليس من السهل أن نحصي كل ضحايا جرائم الرأي.. وكما كان للرأي ضحاياه في تاريخ المسيحية كان للرأي ضحاياه في التاريخ الإسلامي.. يكفي أن نذكر أن الشاعر عبيد بن الأبرص الأسدي الذي سجنه النعمان بن المنذر وقرر أن يعدمه ثم سأله أن يمدحه ليعفو عنه.. رفض الشاعر قائلا: أما وأنا أسير لديك، فلا!.. قال له النعمان: نردك إلي أهلك ونلتزم رفدك. أجابه: أما علي شرط المديح فلا!.. فرواه الملك من الخمر وقطع عرقه الأكحل فأخذ دمه يسيل حتي مات.. وتتكرر قصص علي هذه الشاكلة مع طرفة بن العبد, وعبد يغوث الحارثي، والمنخل اليشكري، وصالح بن عبد القدوس، الذي صلبه المهدي، والمتنبي الذي ترفع علي حكام عصره، وأوغرت صدورهم تجاهه وأستاجر أحدهم علي قتله، وعبد الله بن المقفع الذي غضب عليه المنصور وأوعز لسفيان بن معاوية أن يقتله، وصلب الحلاج وكفر بن عربي، ونفي بن رشد، وذبح الجعد بن درهم لأنه قال بخلق القرآن، وسجن أحمد بن حنبل لأنه أنكر خلق القرآن!!.
ومن صور العنف المباشر تبرز في التاريخ الإسلامي ثلاث فرق شهيرة، هي الخوارج والقرامطة والحشاشون.
الخوارج
نشأوا نشأة سياسية ومن مبادئهم إقامة الصالح بصرف النظر عن نسبه ولونه، وتجريد السيف ضد أئمة الجور، والتبرؤ من أصحاب الجمل ومن معاوية وبني أمية ومن والاهم، ومعارضة فكر الشيعة في الوصية والنص.. بانت نتيجة التحكيم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ومعاوية في رمضان سنة 37 _ . وفي شهر شوال بايع الخوارج أول أمرائهم عبد الله بن وهب الراسبي الذي قادهم في موقعة النهرين، وفي صفر 38_ تمردوا بقيادة أشرس بن عوف الشيباني.. ثم تجدد تمردهم بقيادة هلال بن علفة، وقاتلوا مرة أخري في ماسباذان وفي جرجرايا علي نهر دجلة، وحاربوا علي أبواب الكوفة وهزموا من علي بن ابي طالب رضي الله عنه، ولكن بعد مقتل علي وتنازل الحسن لمعاوية بدأ الخوارج يصوبون سهامهم تجاه أهل الشام . وفي سنة 52_ . ثاروا بقيادة حيان بن ظبيان السلمي وقاتلوا حتي قتلوا في باتنيا قرب الكوفة، وفي 61 _ قتل منهم أبو بلال مرداس، وفي آخر شوال 64 _ كانت ثورة الأزارقة بقيادة مانع بن الأزرق، وهي الثورة التي بدأت بكسر أبواب سجن البصرة، وفي 65 _ ثاروا باليمامة بقيادة أبو طالوت، وفي 66 _ حاربوا جيش المهلب بن أبي صفرة واستمرت المعارك بين هزائم وانتصارات حتي سنة 77_ . حين تمكنوا بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم من إيقاع عدة هزائم بجيوش الحجاج بن يوسف الثقفي، وانتهي الحال بضعف الدولة الأموية واتسع نطاق الثورة الشعبية حتي أنه في 127 _ حارب جيش الخوارج بقيادة الضحاك بن قيس الشيباني وكان يضم 120 ألفا من المقاتلين.. وانتصروا أخيرا علي الامويين بالكوفة في رجب 127 _ .
القرامطة
ينتسبون إلي حمدان بن الأشعث الذي لقب بقرمط لقصر قامته. وهم من فرقة الإسماعيلية المباركية الذين آمنوا بإمامة محمد المكتوم خاتم الأئمة. نشر قرمط تعاليمه المخالفة للإسلام ومنها فرض خمسين صلاة في اليوم, إمامة أهل البيت.. اعتنق أهل قرية كور مذهبه وانشغلوا بالصلاة عن أعمالهم فتنبه لذلك الهيضم أمير المنطقة وسجنه ليقتله، ولكن أتباع قرمط ساعدوه علي الهرب مما جعل العامة تفتتن به وتلتف حوله فكون منهم جماعة وفرض عليهم إتاوات مادية مثل الفطرة وتبلغ درهما، والهجرة وتبلغ دينارا، وسبك دنانير سماها البلغة، وفرض نظام الألفة حتي تكون الأموال مشتركة بين الجميع وبالغ في شططه حتي أشاع النساء وأسقط عن أتباعه الصوم والصلاة وأباح لهم دماء اعدائهم، وفي سنة 277_ . أقام القرامطة دار الهجرة في مهتماباز وأحاطوا المدينة بسور وخندق وأعملوا السيف في كل من خالفهم للتمكن منهم وإرهابهم.
اتبع القرامطة عدة وسائل لاستدراج الأتباع منها التفرس والتأنيس والتشكيك والتعليق والربط والتدليس والتلبيس والخلع والسلخ. ويحكي تاريخهم سلسلة من المواقع الدموية، عندما أغار قرامطة الشام علي قرامطة الكوفة في 800 هجرية بعد صلاة العيد، صاحوا ثأرا للحسين بن زكروية واعتراضوا الحجاج ونهبوا القوافل وسبوا النساء واستعبدوا الرجال ويقال أنهم قتلوا في قافلة واحدة 20000 رجل . وفي عهد الخليفة المقتدر 317 _ . زحف أبو طاهر زعيم قرامطة البحرين علي مكة واعتدي علي الحجاج وقتلهم وردم بجثثهم بئر زمزم وقتل من أهل خراسان بشعاب مكة ما يقدر بثلاثين ألف حاج وسبي النساء والأطفال وحطم باب الكعبة واقتلع الحجر الأسود.. وانتهت هذه السيرة الدموية للقرامطة علي يد السلاجقة في عهد المستنصر حين طردهم من جزيرة أوال 458 _، ولاحقهم حتي انتصر عليهم في موقعة الخندق الفاصلة وقضي عليهم قضاء مبرما في 470 _.
الحشاشون
جناح من الإسماعيلية النزارية زعيمهم الحسن الصباح الذي أتي إلي مصر في 1078 _، وبعد أن قضي بها 3 سنوات عاد إلي أصفهان واعتصم بأقصي شمال فارس في إقليم الديلم، استولي علي قاعدة لاماسار في 1096 _، وفرض نفوذه حتي منطقة روديان، وفي تاريخ الحشاشين من الأحداث ما يبرأ منها الدين كل البرء إذ امتزج عندهم العنف مع الهوي واختلاف المقاصد، أول ضحاياهم كان مؤذن سافا الذي لم يستجب لهم فخشوا أن يشي بهم للسلطات فقتلوه ولما بلغ النبأ الوزير نظام الملك أمر بقتل زعيمهم في المنطقة وكان هذا هو أول من أعدم منهم، ولكن الإسماعيليين توغلوا في بلاط الملك بركيارق بعد هزيمة أخيه محمد تاباز، وعندما قوي نفوذهم اغتالوا كل من خاصمهم، ولكن برقيارق انقلب عليهم ودمر حصونهم وهزمهم بمساعدة السلاجقة، نصب بزر جميد زعيما بعد وفاة الحسن الصباح وانتقموا ممن ألحق بهم الهزائم السابقة، فاغتالوا الوزير المهيب في القاهرة 1121 م، والوزير المعين في 1127 م، واغتالوا الخليفة العباسي المسترشد عندما كان أسيرا للسلطان سعود حاكم أكران، واغتالوا والي اصفهان ووالي تبريز ومفتي قزوين، واغتالوا 14 سنيا منهم السلطان السلجوقي داود، توفي بزرجميد في 1132 م وتولي بعده عدد من ابنائه حتي مات محمد الثاني مسموما في 1210 م علي يد ابنه جلال الدين الذي اعترض علي سياسة والده وأعلن إسلامه وأحرق كتب الإسماعيليين وأعاد تطبيق الشريعة الإسلامية وأعلن ولاءه للخليفة العباسي ويقال أنه مات هو الأخر مسموما في 1221 م.
كان حسن الصباح مؤسس فرق الحشاشين يوحي لأتباعه أنه قادر علي إدخالهم الجنة أو النار، وكان يشير إلي بعض القلاع والحصون كنماذج للجنة الموعودة فيجد فيها الشخص ما يتمناه من نساء وصبيان وخمر وحشيش وأشجار وأنهار.
وهكذا وباستعراض موجز لثلاث من أبرز فرق العنف في التاريخ الإسلامي، ومن قبلها أوجزنا لشذرات من تاريخ العنف في المسيحية واليهودية، يبدو واضحا البون الشاسع بين الطبيعة الحقيقية للصراعات الدموية الشرسة وبين الغطاء الديني الذي اتخذ منه العدوانيون مبررا ولو كان واهيا يتسترون وراءه لتحقيق مطامع بشرية وسياسية محضة لا علاقة بينها وبين الدين بأي صورة من الصور. كم من الجرائم ترتكب بإسم الدين؟!
الروافد الحديثة للإرهاب
طفنا ببعض ضحايا التاريخ القديم ورأينا أشكالا من العنف الدموي تتلبس عباءات دينية منذ ما قبل الأديان السماوية مرورا بأتباع الديانات السماوية الثلاث من يهود ومسيحين ومسلمين. ولم يكن تاريخ الإرهاب مع الإنسانية قد انقطع حتي وصلنا إلي القرن العشرين، ولكن كانت له روافد في التاريخ الحديث، وهنا سوف نستعرض ثلاث محطات رئيسية هي: الثورة الفرنسية، والحركات العدمية والفوضوية، والثورة الروسية.
الإرهاب والثورة الفرنسية
اعتمد الإرهاب كوسيلة مهمة من وسائل حكم الثوار بناة الجمهورية في فرنسا وهم الذين وظفوا الإرهاب لخدمة أهدافهم. تصدت الثورة لنظام الملكية والارستقراطية ودعت علي لسان روبيسبير إلي الربط بين الكرامة والإنسانية والحرية، وبعد أن سيطر اليعاقبة علي مقاليد الحكم أصبحت فكرة قيام الجمهورية مسألة حياة أو موت وغدت هذه الفكرة في عيونهم بمثابة الحقيقة المطلقة، وحتي ينقلونها إلي حيز التطبيق لجأوا لإرهاب معارضيهم، وتعد الفترة ما بين أغسطس 1792 وحتي يوليو 1794 هي فترة حكم الإرهاب التي انتهت بسقوط روبسبير. ومن أهم أحداث هذه الفترة:
1- المرسوم الذي أصدره دانتون في أغسطس 1792 والذي أباح مداهمة المنازل لنزع سلاح ما يشتبه فيهم وبمقتضي هذا المرسوم قبض علي 3 ألاف من أعداء الثورة.
2- مجازر سبتمبر التي حدثت بين الثوار وأعدائهم، فعندما وصلت فلول الثورة المضادة إلي أبواب فردان أخذ الثوار بقيادة مارا يصفون حساباتهم مع الأعداء الذين كانوا في السجون، وفي هذه الأحداث قتل عدد كبير من المعتقلين.
اتخذ الإرهاب في هذه الفترة طابعا تأديبيا وهذا ما ظهر في خطب المفوهين من رجال الثورة، ففي المؤتمر الوطني بباريس قال واحد من رؤساء وفود المقاطعات: "لقد حان وقت ترهيب المتآمرين, أيها المشرعون ضعوا الإرهاب علي جداول الأعمال حتي يرتفع سيف القانون علي رقاب جميع المجرمين".. في مارس أنشئت المحاكم الثورية الاستثنائية، وفي يونيو 1794 ألغي روبسبير هيئة المحلفين وهيئة الدفاع من هذه المحاكمات وأصبحت الأحكام نهائية غير قابلة للاستئناف. قال سان جو ست في أحد تقاريره: "بين الشعب وأعدائه لا يوجد قاسم مشترك إلاُ السيف.. يجب أن نحكم بالحديد أولئك الذين لا يمكن حكمهم بالعدل.. من الواجب أن نقمع الطغاة.. أن الجوكوبية التي تنادي بالجمهورية تصبح قعيدة إذا لم تستخدم الوسائل الكفيلة بتحقيقها ".. مورس الإرهاب في الثورة الفرنسية ولكن درجة العنف وكمية الدماء التي سفكت جعلت الوضع غير محتمل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مما شحذ همم أعداء روبسبير حتي اتهموه بإفشاء الرعب بين الناس وحكموا عليه بالإعدام، وهكذا أصبح خصومه هم أسياد الساحة، بيد أن التروميدوريين الذين نجحوا في تجريم الإرهاب لجأوا أنفسهم إلي ممارسات ليست أقل إرهابا ولخص جوزيف دي ميستر هذه الحالة بقوله: "بعض المجرمين، قتلوا بعض المجرمين"._!.
الفوضوية والعدميةAnarchism and Nihilism
الفوضوية من الروافد المهمة للإرهاب الحديث وتندرج مبادئ الفوضوية تحت تيارين رئيسيين هما تيار ماكس ستيرنر Max Sterner 1806-1865) ) وهو تيار الفوضوية الفردية وتيار جوزف برودون
Pierre _ Joseph Proudhon 1809-1865) )
والمناضل الروسي ميشيل باكونين
Michael Backounine 1814-1876))
وهو تيار الفوضوية الجماعية .
المرتكز الأساسي في كل النظريات الفوضوية هو رفض السلطة بمختلف تعبيراتها وأشكالها. يقول ستيرنر: "نحن الإثنان.. الدولة وأنا أعداء.. كل دولة هي طغيان، أكانت طغيان فرد أم طغيان جماعة، وليس للدولة إلا هدف واحد هو تكبيل الفرد".
ويمتد رفض الفوضوية لينال من النظم البورجوازية الديمقراطية الليبرالية حيث أنهم يعتبرون أن الليبرالية هي استمرار لاحتكار الفرد. وتدعي الفوضوية أن الشعب في النظام الديمقراطي يملك ولا يحكم باعتبار أن النظام النيابي يتجه دائما ضد مصالح البسطاء من الشعب لأنه في نظرهم يكفل وجودا مستمرا لأرستقراطية حاكمة للشعب بمعني أن الانتخابات العامة هي مجرد خدعة أو صمام أمان أو قناع تختبئ وراءه السلطة الإستبدادية التي تدعمها الأموال وأجهزة الشرطة، وبنفس الدرجة من الحدة يمضي برودون منتقدا الاشتراكية السلطوية لأنها تنطلق من مبدأ تبعية الفرد للمجموع، وفي مواجهة حدثت بين باكونين وماركس في المؤتمر السنوي الذي عقد في جينيف 1866 م صرح باكوتين أنه يكره الشيوعية لأنها تنفي الحرية ولأنه لا يستطيع أن يتصور أي إنسان يعيش دون حرية، ومن هنا تصبح الدولة مستبعدة للناس تحت ستار تمدينهم.
أما الحركة العدمية فترجع في أصولها إلي الفوضوية وإلي التيارات الاشتراكية الثورية. وعرف الفوضويون الروس بهذه الصفة نسبة للتسمية التي أطلقها الأديب الروسي ايفان تورجنيف علي أحد أبطال روايته "أباء وأبناء". وجوهر العدمية هو تحرير الذات من الأعراف التقليدية والموروثة. كان العدميون في بداية حياتهم مخلصين وأوفياء في علاقاتهم الاجتماعية وكانوا متشددين في مطالبتهم ألا يكون ثمة امتياز لطبقة علي أخري أو لجنس علي أخر، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية كانوا مستعدين لفعل أي شئ.
قال الفوضوي الفرنسي "جان غراف" في مذكراته، بعد سلسلة من الاغتيالات التي ارتكبها الفوضويون الروس ضد القيصر اسكندر الثاني وضد الجنرال تريبوف قائد مدينة سان بترسبرج: "لقد أبهرتنا تلك الأعمال وكنا نحلم بالقنابل وبالاغتيالات وبالأعمال الباهرة القادرة علي سحق المجتمع البورجوازي" وفي هذه الخلفية نشأت المنظمة الإرهابية العدمية التي سميت "نارودنايا فوليا" أو إرادة الشعب Narodnaia Valia.
وقد لجأت هذه المنظمة للإرهاب باعتباره وسيلة للنضال ضد السلطة، ومن ثم تنضج الروح الثورية للشعب ويتقوي إيمانه بنصرة قضيته. وفي خضم هذه العملية تكونت الكوادر الإرهابية الدموية لمواصلة النضال، وفي 1893 قرر المجتمعون في مؤتمر ساراتوف أن الإرهاب السياسي هو المنهج الوحيد الذي يلقي خطا وافرا من النجاح.
ومما هو جدير بالتأمل ويدعو لمزيد من السخرية، أن الفوضوية والعدمية جعلت من الإرهاب وسيلة يلجأ إليها الشعب بصورة غير قانونية ليصوبها ضد الحكام الذين يمارسون الارهاب بصورة قانونية.
الإرهاب والثورة الروسية
اتخذ لينين موقفا رافضا للفوضوية لأنه رأي أنها لم تقدم شيئا علي مدي 40 سنة سادت فيها الفوضي والهمجية ورأي أنها عجزت عن إدراك الأسباب التي أدت إلي امتهان كرامة الشعب كما أنها عجزت عن إدراك إمكانية تطور المجتمع الثوري إلي مجتمع اشتراكي وبلغت رؤيته السلبية لهاتين الحركتين مداها عندما اعتبرهما من المذاهب الفردية البورجوازية التي نتجت عن حالة اليأس التي خيمت علي المجتمع الأوروبي، إضافة إلي أن أي منهما يفتقر إلي برنامج تعليمي شامل.
برز الإرهاب الشيوعي في ساحة الأحداث في روسيا القيصرية من 1905 _ 1917 م وكان نذيرا بنهاية مرحلة القتال الفردي الرومانتيكي ضد النظام الأوتوقراطي الرأسمالي الحاكم، وتوجت الأعمال الإرهابية بسقوط الحكم القيصري ليصبح لينين ورفاقه في موقع السلطة، وكان عليه من هذا الموقع أن يخمد الحركات المضادة للثورة بما يمكن أن يندرج تحت مفهوم إرهاب الدولة الذي تميز بالشمول وبارتباطه بالظروف العسكرية. كلما اشتدت المعارك التي تشن ضد الجيش الأحمر كان نطاق الحملات الإرهابية الداخلية يتسع، وكلما حقق الحكم البولشوفي انتصارات حاسمة في معاركه كانت وطأة الإرهاب الداخلي تخفت.
في الوقت نفسه اتخذ ارهاب الدولة طابعا طبقيا.. يذكر عن تروتسكي قوله: "تهدف المعارك التي نخوضها إلي معالجة السؤال عن معرفة.. من تخص المنازل والقصور والمدن ، وحتي الشمس والسماء؟. هل هي للعمال والفلاحين أم للبورجوازيين ومالكي الأرض؟"
ترسم لنا ملامح الإرهاب في الثورة الروسية صورة متكاملة تعتبر وضعا وسطا بين إرهاب الأقوياء (الدولة) الذي تجسد في أحداث الثورة الفرنسية وإرهاب الضعفاء (الشعب) كما مثلته الحركتان الفوضوية والعدمية.
مررنا في الصفحات السابقات مرور الكرام بفصول من تاريخ الإرهاب عبر التاريخ الإنساني، ما كان منه متسترا بوشاح الدين وما كان منه معلنا ظاهرا في صوره الحديثة في نهايات القرن ال19 وبدايات القرن ال20، وما نحن بصدده هو إرجاع ظاهرة القاعدة وأسامة بن لادن لأصولها في التاريخ الإنساني لأنه لم يكن الأول (كما اتضح من التاريخ السابق)، ولكن يكون الأخير (كما نتوقعه من دورانية التاريخ).
وفي الجزء الثالث والأخير من دراستنا في هذا الملف سنتناول موضوعين مهمين أولهما هو أشكال الإرهاب المعاصر وثانيهما محاولة لاستخلاص المعالم الهامة في الشخصية الإرهابية بصفة عامة، وفي شخصية بن لادن بصفة خاصة.
الأبعاد النفسية للظاهرة ( الإرهاب )
و الملامح النفسية للشخصية (بن لادن )
في أبسط التعريفات وأكثرها مباشرة نعرف الإرهاب بكونه أي فعل أو سلوك يتسم بالعنف البدني أو المعنوي بهدف تحقيق مطالب سياسية أو اجتماعية أو فئوية إثنية ، من قبل فرد أو مجموعة أفراد أو منظمة سرية أو علنية ، وذلك عن طريق بث الرعب والخوف في نفوس العامة أو المناوئين. والفعل الإرهابي لا يكون فيه الهدف مقصودا بحد ذاته لأنه يؤتي ثماره عن طريق عدة استراتيجيات، منها الدعاية للقضية عن طريق الترويج الإعلامي للحدث، وإشاعة جو عام من الفوضي يمكن من تنفيذ المخططات السرية أو المعلنة، وإنهاك القوات النظامية أو الدولية في حدث هنا وتفجير هناك، واستغلال الرموز الوطنية أو الدينية كأهداف للعدوان حتي يتسع أثر الحدث ليشمل فئات عديدة .
لا نستطيع أن نصل إلي أعماق الشخصية الإرهابية إن لم نسترجع الخلفية التي يتم فيها الفعل الارهابي، وإن لم نركز علي توصيف ذلك الفعل ودون أن نشير إلي الدور الذي ارتكبه هذا الشخص أو ذاك من بين المجموعة التي اشترك فيها. والإدعاء بوجود ملامح مانعة قاطعة للشخصية الإرهابية هو إدعاء ضعيف من الناحية العلمية لأنه توجد اختلافات شخصية ضرورية بين من مول الفعل ، وبين من خطط له ، وبين من يسر وسائل الإتصال ونقل المعلومات ، ومن تبني التشويش علي الأمن ، ومن نفذ التفجير أو العدوان في صورته النهائية . كل هؤلاء إرهابيون ولكن من المستحيل أن نضعهم كلهم في سلة واحدة ليشملهم توصيف واحد.
هناك الإرهاب السياسي Political terrorism الذي يكون هدفه الحصول علي مكاسب سياسية سواء داخل الحدود أو خارجها. وهو ما يختلف عن التمرد والعصيان المدني . يميز هذا التعريف بين الارهاب السياسي وبين الحروب التقليدية وحروب العصابات . في التعريف السابق أيضا تفريق بين العنف المسيس والعنف الإجرامي الصرف مثل عمليات السطو المسلح والاغتيال للأخذ بالثأر أو للسرقة . وحتي يكتمل تعريفنا للإرهاب السياسي نضيف شرطين أخرين .. أولهما أن يكون الهدف ذا طبيعة رمزية وثانيهما أن يكون الفعل فادحا خارجا عن حدود العنف اليومي المألوف .. الخارجية الامريكية تعرف الإرهاب بكونه "العنف السياسي المدبر والموجة ضد اهداف لا تملك وسيلة الدفاع عن نفسها ويتم العنف إما بواسطة مجموعات شعبية أو بواسطة منظمات سرية " . وتحصر بعض المنظمات تعريف الارهاب علي ما يمارس ضد المدنيين وتحت هذا المفهوم يأتي مصطلح ارهاب الدولة _ State terrorism،( وهو إرهاب فوقي ) ومثاله إرهاب اليعاقبة في الثورة الفرنسية وإرهاب هتلر ضد أعداء النازي قبل الحرب العظمي، وإرهاب حكومة فرانكو للأسبان، وحكم ستالين في الاتحاد السوفيتي، وإرهاب حكومة التمييز العنصري ضد الاغلبية السوداء قبل نهاية حكم البيض ورئاسة نيلسون مانديلا لأول حكومة ديمقراطية غير عنصرية في جنوب أفريقيا ،ويدخل أيضا في هذا الوصف كل ممارسات الحكومات العربية التي سقطت وتسقط تباعا بفعل ثورات الشعوب المقهورة .
أما إذا قام بالفعل الإرهابي جماعة من الشعب ووجهته ضد السلطة نطلق علي هذه الحالة مصطلح العنف السياسي Political Violence (وهو ارهاب تحتي ) ومثال علي ذلك جيش تحرير أيرلندا . نمط أخر من الحركات الشعبية نطلق عليها إرهاب العصابات المدني Urban gurrella ومن هذه الجماعات بادرماينهوف في المانيا، وتوباماراس في أوروجواي، والجيش الأحمر الياباني المتحد وجبهة تحرير كويبيك في كندا، وجماعة الفعل المباشر في فرنسا، ورجال الجو في الولايات المتحدة الامريكية . وترجع شعبية حرب العصابات إلي الدور المهم الذي لعبتة في استقلال أمريكا الجنوبية وإلي ارتباطها باسم المناضل شي جيفارا Che Guevara الذي أكد في كتابه حرب العصابات Guerrella Warefare علي ضرورة التمييز بين التخريب دون هدف ثوري واضح وبين حرب العصابات التي يخوضها الثوار لتحرير بلادهم من المستعمر .
الإرهاب الدولي International Terrorismهو الإرهاب الذي تدعمة الدولة كوسيلة بديلة عن الحرب النظامية فتستخدم بعض العصابات الإجرامية لإثارة الذعر داخل حدود دولة أخري لتحقيق مكاسب إقليمية ودولية أو عندما تدعم الدولة مجموعة إرهابية مناوئة لنظام الحكم في دولة أخري سواء ماديا أو معنويا أو بتوفير التدريب علي أراضيها وينطبق هذا علي ما يوصف بالحركة الإسلامية المسلحة Armed Islamic Movement وهي التي كانت تمولها إيران وتتدرب علي أرض السودان .و الإرهاب الدولي تشترك فية أكثر من دولة أو تتشابك فية مصالح واهتمامات أكثر من طرف . كأن يقوم المسلحون الذين ينتمون لدولة بتحطيم سفارة أو مكتب تجاري لدولة أخري ويتم الهجوم داخل دولة ثالثة . مثال ذلك ايضا الهجوم الذي تعرض له الرئيس السابق مبارك في أديس أبابا في يونيو 1996 علي يد مجموعة منتسبة للسودان .
نستثني من كل الافعال السابقة ما يندرج تحت مفهوم حروب التحرير Liberation wars التي تقوم بها حركات المقاومة في الشعوب المقهورة لتحرير أرضها وطرد المستعمرين ولهذا نستثني من قوائم الحركات الارهابية التي تنشرها بعض المواقع علي الشبكة العنكوبتية للمعلومات كل المنظمات الفلسطينية التي تكافح ضد الاحتلال الاسرائيلي بشرط أن يتم الفعل الارهابي داخل الأرض المحتلة ويكون موجها ضد عسكريين .. ومما هو لافت للنظر أنه في كل حروب التحرير لا يتوقف الصدام العسكري علي النضال بين المستعمر وصاحب الأرض، ولكن في أغلب الاحوال يكون هناك صراع مواز بين المنظمات المختلفة للمقاومة وأبراز الأمثلة علي ذلك النزاع السيئ الذي دار بين فتح وحماس وانتهي منذ أيام بحيث عادت الأمور إلي نصابها الصحيح .
استعرضنا في الفقرات السابقة المصطلحات الكبري التي تستخدم لوصف الأحداث الارهابية وسعيا وراء درجة أكبر من تركيز البؤرة وتوضيح الصورة نستعرض بعض الملامح الواضحة للإرهاب المعاصر .. من هذه الملامح الإرهاب الإجرامي Criminal Terrorism الذي يتخذ أشكال قطع الطرق، وابتزاز المال بالتهديد، وتجارة المخدرات وتجارة السلاح . هناك ايضا الارهاب السيكوباثي Psychopathic Terrorism ويندرج تحت هذا المسمي كل الأفعال الإجرامية التي يقوم بها أشخاص منحرفون أخلاقيا أو يعانون من اضطرابات نفسية أو عقلية في الشخصية . وعادة ما يكون التمييز بين الارهاب والقتل السيكوباثي صعبا لأن المؤامرة السياسية يمكن أن تختفي وراء فعل يبدو للوهلة الأولي غريبا أو عشوائيا وربما تستغل أجهزة المخابرات بعض الشخصيات التي تعاني من أمراض عقلية حتي تنتفي عنها كل المسئولية الجنائية والجرم الاخلاقي .
الارهاب الاقتصادي economic terrorism هو الارهاب بالتجويع أو إرهاب الفقر وهو ما تلجأ له النظم الحاكمة لإسكات المتمردين عن طريق فصلهم من أعمالهم أو تعطيل ترقياتهم في الوظائف ومن ضمن الارهاب الاقتصادي كانت الضربات التي وجهت للسياحة في مصر سواء في شرم الشيخ وطابا أو في الأقصر وقد يأخذ الارهاب الاقتصادي طابعا دوليا ويتم في ظل هيمنة الدول الكبري علي المنظمات الدولية ويأخذ صورة الحصار أو منع القروض والمساعدات الأئتمانية.
صورة ناعمة من صور الارهاب هي إرهاب المفكرين وهو نمط قديم جديد يتم في صورة التهديد باستعمال العنف لوأد الفكر وتخويف المبدعين بعد أن تلصق بهم تهمة خروجهم عن الأطر التقليدية للمجتمع أو الانحراف عن صحيح الدين . علي هذا النحو يصبح إرهاب المفكرين أو الفنانين بإتخاذ الدين تكئة هو الدواء الشافي من لوم النفس إذا كان للوم النفسي مهجعا في نفوس الارهابيين . يري المفكرون أن الثقافة المعاصرة معرضة لتهديد مزدوج ، أحد مصادره هو محاكم التفتيش المعاصرة ، ومصدره الثاني هو التعامل مع المنتج الثقافي كسلعة تجارية، التهديد الأول يوئد الإبداع والتهديد الثاني يمسخه.
في بديات الثمانينات أصدر حسن الترابي فتوي بتطبيق حد الردة علي الفيلسوف والمتصوف محمد محمود طه . وفي مصر اتهم المحامون الأصوليون عبد الوهاب بتهمة الكفر بسبب أغنية "من غير ليه" . وحوكم نصر حامد أبو زيد بنفس التهمة وحكم القاضي بالتفريق بينه وبين زوجته. وتعددت الدعاوي القضائية لسحب رواية ألف ليلة وليلة من الأسواق، قتل فرج فودة بسبب آرائة وغرست السكين في رقبة نجيب محفوظ بيد شاب لم يقرأ له ايا من اعماله.. وفي اغسطس 1999 أصدرت محكمة الاستئناف في السودان حكما بجلد فنان 260 جلدة وسجن أستاذ جامعي في الكويت هو د.احمد بغدادي بسبب أبحاثة ومقالاته ولولا عفو أميري كريم لقضي عقوبتة كاملة .. حتي بيروت طالتها نفس الموجة الارهابية فرفعت دار الافتاء دعوي ضد مرسيل خليفة تطالب بسجنه بسبب احدي أغنياته.. ينطبق هذا الشئ علي وليمة لأعشاب بحرية للكاتب حيدر حيدر .. والقائمة أطول من أن تحصرها هذه المساحة .
وفي الثلاثينيات كانت الفاشية الاوربية تطارد الثقافة والمثقفين عندما كان المثقف أنذاك هو رمز المقاومة ضد الفاشية المسكونة بغريزة الموت، واليوم تواجه الثقافة العربية خطرا يتمثل في الفاشية الدينية المتجسدة في حركات تعادي الحداثة في جوهرها .
عناصر الفعل الارهابي
الفعل الارهابي مثله مثل أي فعل في الحياة يتكون من ثلاثة عناصر .. هي عنصر الفكر وعنصر العاطفة وعنصر السلوك .. تري علي أي شاكلة يكون فكر الارهاب وبأي لون تكون عاطفته وكيف يتشكل سلوكه؟
الفكر
جوهر عنصر التفكير في الشخصية الارهابية هو التعصب والتعصب بمنتهي البساطة هو الحكم قبل المداولة وليس بعدها، ومن هنا نفسر الكلمة الانجليزية prejudice . التعصب هو أحد أشكال الاتجاهات في علاقات الجماعات مع بعضها البعض وهو مايؤدي إلي ظهور تفضيلات معينة لأبناء القوميات المختلفة إزاء الاقليات أو الجماعات العرقية الأخري التي تعيش ضمن مجتمع الاغلبية أو علي هامشه وينعكس أثره بالتالي علي السلوك الفردي لكل من افراد الجماعة بما يؤدي إلي تصنيف الآخر في حكم مسبق بمعني أن نقول علي سبيل المثال أن الشخص إذا ما كان من الشرقية سيكون كريما وإذا كان من المنوفية سيكون لئيما وإذا كان من دمنهور سيكون حريصا . وقد وجد أن عنصر التعصب إذا احتل فكر الانسان انصرف علي كافة القضايا التي يتعامل معها .. عند الهنود مثلا وجد أن التعصب الديني ضد المسلمين مرتبط بالتعصب الطائفي ضد الهاريجان والتعصب للجنس ضد المرأة .
مما يتلازم مع التعصب في التكوين الفكري في الشخصية الارهابية ثلاثة عناصر أخري هي التسلطية والقطعية وعدم تحمل الغموض .
التسلطية Authoritarianism هي من الناحية الفلسفية مفهوم أخلاقي يشير إلي نفوذ كلي يتم التسليم به لفرد أو لتنظيم معين . ويستمد الفرد أو النظام هذه التسلطية من تابوت( محرم مقدس) موروث، والتسلط إما أن يكون سياسيا أو اخلاقيا أو علميا أو دينيا، وتؤدي المبالغة في استغلال السلطة والنفوذ إما إلي العبادة والتأليه، أو إلي نوبات مفاجئة من فقدان الثقة في النفس .السمة الثانية المرتبطة بالتعصب هي القطعية او الدوجماتية Dogmatism وهي أسلوب للتفكير يعتمد مفاهيم لا تقبل التغيير أو المناقشة بغض النظر عن الظروف الزمانية والمكانية وتغيراتها . تقاوم القطعية المرونة وتتمثل خطورتها في ما قد ينشأ بينها وبين التحريفية عندما تضفي علي بعض النصوص والمأثورات المقتطعة من سياقها صبغة من القداسة وتصبح عائقا كئودا أمام أي تطور أو تكيف ايجابي .أما عدم تحمل الغموضIntolerance to ambiguity فسوف نتناوله في موقع لاحق في مجال التصنيف القطبي الذي لا يحتمل التدرج.
العاطفة
المكون العاطفي في الفعل الارهابي هو إما أن يكون عاطفة الكراهية أو أن يكون حالة الغضب . من الغريب أنه قد تكون الكراهية الشديدة لشيء ما دافعا للعدوان ضده بقصد اقصائه، وفي نفس الوقت قد يكون الحب الشديد لشيء آخر هو الدافع للعدوان المباشر ضد نقيضه أو نده من باب الغيرة أو الحماية . أنا اعتدي علي الآخر إما لأنني أكرهه كرها شديدا، أو لأنني أحب ذاتي حبا نرجسيا .. من هنا جاء اتفاق المحللين النفسيين علي أن الكراهية والحب لهما نفس الجوهر وأن ما يقف علي النقيض من كليهما هو عدم المبالاة .. إننا نكره كل شيئ يخيفنا أو يحبطنا أو يهدد استقرارنا، إننا نكره أيضا كل ما نجهله . ونعبر عن كراهيتنا بصورة واعية في مرات قليلة أما بالقول أو بلغة الجسد، وفي أكثر الاحيان نعبر عن الكراهية بطرق غير مباشرة مثل سلوك العدوان السلبي وأبسط أمثلته عدم الوفاء بالوعد . ومن الخبرات التربوية التي تزرع الكراهية في النفوس .. سوء المعاملة أو الاهمال في مرحلة الطفولة ، الحرمان المادي أو العاطفي، الأساليب التربوية التي لا تكتفي بتمسكها بالحض علي الاعتصام بالدين وأداء فروضه، ولكنها تتجاوز ذلك إلي الحض علي ازدراء الدين الآخر والتحقير من شأنه، وقد تساهم بعض العادات والتقاليد في غرس بذور الكراهية في النفوس مثل الاعتقاد في الحسد وأعمال السحر والشعوذة ففي إطار طقوس درء عين الحسود أو فك العمل ترتبط النظرة للآخر بهاجس الريبة والحذر وتلوك الألسن بعض الأمثلة الشعبية مثل "عين الحسود فيها عود" .
العنصر الوجداني الآخر في السلوك الارهابي هو حالة الغضب وهي الحالة التي تلازم رؤية أو ادراك سلوك خاطئ أو غير مقبول مع الرغبة في إيقافه أو منعه أو تصحيحه، ويرتبط الغضب بالضرورة بالتوتر النفسي والعضلي وبكل من الغيرة والحسد والخوف والاحباط والازدراء والاحتقار والمضايقة والاستفزاز . ارتبطت نشأة الغضب بالصراع بين الجماعات والافراد لأنه لا يمكن أن ينشأ في فراغ، وأعتبر أرسطو أن الغضب واقعة مرتبطة بالألم وتدعو للأنتقام بفعل محدد ولسبب محدد، بينما اعتبر الفيلسوف الروماني سينكا أن الغضب هو المرادف العقلي للمرض الجسدي ويتضح موقفه السلبي الصريح من الغضب عندما يقرر ان أي شئ نفعله ونحن في حالة غضب يمكن أن يتم بصورة أفضل إذا أديناه بدون غضب .. أهم شيئ في الغضب هو أنه يكون في أشد حالاتة عنفا وتكرارا في المجتمع من قبل الفئات العاجزة عن التأقلم الاجتماعي الكفء والايجابي (هل يمكن تطبيق هذا علي حالة التيار السلفي في مصر حاليا؟!) .
السلوك
العدوان هو المكون السلوكي في الفعل الارهابي ويدلنا الاستعراض السريع لتاريخ العدوان عند البشر علي عدة مجالات تفوق فيها العدوان البشري علي السلوك الحيواني .. العدوان البشري يمكن أن يتم عن بعد بينما العدوان الحيواني تلزم له الملامسة الحميمة .. والعدوان البشري يمكن أن يكون جماعيا بمعني أن قنبلة واحدة تبيد جماعة بكاملها بينما لا تجد هذا في عدوان الحيونات .. الانسان يمكن أن يتمادي في عدوانه دون كابح ودون سقف ولكن الحيونات تعارفت فطريا علي أوضاع معينة يعلن بها الطرف الأضعف خضوعه فيكف الطرف الأقوي عن الاستمرار في عدوانيتة . فهل آن الأوان لنتوقف عن وصف جرائمنا البشعة بأنها جرائم وحشية حيوانية؟!
يبدأ السلوك العدواني عند الطفل منذ نعومة أظفاره كنوع من الدفاع ضد أي تهديد لقانون المتعة وكأنه في كل سلوك عدواني يدرأ عن نفسة خطر الموت الوشيك وهذا ما عبر عنه مؤخرا بمبدأ .. الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع .وللعدوان وظائفه الاجتماعية . كان العدوان علي مدار التاريخ سببا لأنتشار البشر علي سطح الأرض وعلي المستوي البدائي كان العدوان مؤهلا لاختيار الشريك الجنسي وله دوره في الحفاظ علي كيان الأسرة والممتلكات واكتشاف الثروات وحفظ النظام والحفاظ علي التراتب الطبقي في المجتمع .. ومن المثير للتأمل أنه لا توجد ديمقراطية في العالم لا تستند إلي القوة سوي في سويسرا التي لا يدعمها جيش نظامي .
العدوان غريزة هذبتها الحياة الإنسانية عبر الأجيال ومن إيجابياته أنه في بعض الأحيان يعتبر شرط من شروط النجاح ، ولكن المشكلة الكبري التي يواجهها الإنسان هي أنه لا يستطيع في كل الاحوال أن يفعل الضوابط والكوابح الداخلية التي تمكنه من التوظيف الأمثل للعدوان . يتقاتل الناس مع بعضهم البعض للإرتقاء في السلم الاجتماعي ومن أجل الأرض والمياه والطعام والمرأة ومن أجل الدفاع عن النفس ولدرء الأخطار المحتملة والمؤكدة مثل خطر الموت وخطر العزلة وخطر الإحساس بعدم الجدوي،و في سبيل البحث عن دور في المجتمع .
وفي الحياة اليومية العادية نجد أن الانسان البسيط مهدد من قبل السلطة الوالدية الغاشمة ومن المدرس القاسي والجار الوقح وعضو الشلة المنحرف ومن البلطجي والسياسي الأحمق ومن التاجر الجشع ،و الحاكم الديكتاتور وتتسع الحلقات حتي تشمل العدو الاجنبي أو الأخر الذي يخالفه في اللون أو الدين أو الثقافة . الشئ الخطير في هذا كله هو أن غريزة العدوان توظف بخبث من قبل الجماعات الارهابية حينما توجه طاقات العدوان عند أفرادها إلي الأهداف المدنية ويتم تجنيد أعضاء جدد لتنفيذ العنف المدبر بطرق كثيرة تحت غطاء فكري أو ديني أنيق يقوم علي توفيره الخطباء المفوهون والدعاة المتنطعون، ليسهل اجتذاب سكان المناطق العشوائية الفقيرة وأبناء الأسر الممزقة غير المستقرة والمحبطين ذوي الطموحات المجهضة. وتتجلي مهارة كوادر الجماعات الإرهابية في حسن اختيار الوقت المناسب الذي يكون فيه الشاب أحوج ما يكون ليتمكن من إزاحة طاقات العنف والعدوان من الأهداف الأولية (الوالد القاسي , الجار الشرس , بلطجي الحي , الزميل المستأسد) إلي أهداف ثانوية وبديلة (دور السينما , محال المجوهرات , السفارات) إن ما جري ويجري في العالم من حولنا لعبة قذرة ورخيصة مكشوفة من قبل كل الأطراف يشارك فيها زعماء القوي العظمي في العالم وزعماء المنظمات الارهابية والنتيجة هي أن الشعوب هي الخاسر الوحيد وسوف يلعن أولئك وهؤلاء من قبل التاريخ والاجيال اللاحقة.
أضواء علي الأبعاد النفسية
لشخصية بن لادن
نشأ بن لادن نشأة صالحة ملتزما بفروض الإسلام والأخلاق والآداب العامة، وتعود منذ طفولته وصباه تحمل المسئولية والثقة بالنفس والكرم والتواضع وعرف عنه الحياء وقلة الكلام والبشاشة مع الجدية وتجنب رفع الصوت وعندما انخرط في سلك الجهاد تميز بالبذل والتضحية والصبر والتحمل، والمقربون منه دائما مايعترفون بأنه لا يتباهي بتلك الكاريزما الطاغية التي يسعي إليها الزعماء لأنه يتجنب التميز عن أتباعة ويتبسط أكثر من اللازم فتزول أثار الهيبة . رغم أنه تزوج أكثر من امرأة إلا أنه تعود أن يقضي مع اتباعه وقتا أطول مما يقضيه مع أسرته . وقد لخص المقربون منه السمات الأساسية في شخصيتة في ثلاثة اتجاهات:
1- القدرات الذهنية والقيادية .. يحوز أسامة درجة عالية من الذكاء والثقة بالنفس ودقة الملاحظة وسرعة البديهة ولكنة في نفس الوقت يتردد قبل اتخاذ القرارات الهامة وقبل الحكم علي الأمور بمعني أنه يميل إلي التريث واستشارة العلماء والمشايخ وليس بسبب عدم الثقة بالنفس.
2-الشجاعة والحذر .. يقول المقربون من بن لادن أنه من الممكن أن تنفجر قنبلة ضخمة علي مسافة قريبة منه دون أن تتحرك منه شعرة وقيل أنه تعرض أثناء حياته في أفغانستان لأكثر من أربعين مرة لحوادث قصف ثقيل وفي ثلاث حالات منها تطايرات أشلاء الضحايا حوله دون أن تظهر عليه أي بادرة للخوف أو الارتباك سوي الحزن علي فقد بعض احبائه .ولكنه كان في نفس الوقت بارعا في اتخاذ الاحتياطات الأمنية فلم يكن يسمح بوجود أي آلة الكترونية حتي لو كانت ساعة كهربائية في مكان اقامته، وكان يحيط نفسه بفريق للحراسة علي مستوي عال من التدريب ولم يكن يضم إلي هذه المجموعة إلا من يعرفهم شخصيا ولا يقبل تزكيات الأخرين وكان أيضا يحيط تحركاته بسرية تامة ويستخدم حيلا كثيرة للخداع.
3-العاطفة مقابل الشدة .. تجمعت في بن لادن خلطة عجيبة من العواطف فهو من جهة عاطفي رقيق ومن جهة أخري يميل للشدة والعناد وبرغم تأثره العاطفي ببعض القصص التي كانت تحكي له مما يثير الوجدان إلا أنه لم يكن يغير مواقفه مراعاة لذلك التأثر . كان شديد البر بوالدته دون أن يؤثر هذا علي اعادة صياغة برامجه وخططه.
استعرضنا في الفقرات السابقة ملامح شخصية أسامة بن لادن كما يصفها المقربون منه ولكننا لم نخطُ بعد نحو أعماق هذه الشخصية لنلمس جوهر هذا التناقض الحاد بين شخصية مسلمة كأفضل ما يكون المسلم، وبين ما بدر منه من مخططات وأعمال شديدة العدوانية والفتك ، لم نقترب بعد من التناقض بين نشأته التقليدية المحافظة والمسار غير التقليدي الذي اتخذه لنفسه في مشوار حياته، وكذلك لم نقترب من التناقض بين سيرتة الذاتية وسيرة أقرانه وكثيرون من إخوتة الذين عرف عن بعضهم الولع بالثراء وعيشة الترف وحب المغامرات .
التعامل مع شخصية أسامة بن لادن تعامل مع شخصية غير نمطية شأنه في ذلك شأن كل من سجل التاريخ أسماءهم في سجله بصرف النظر عن الحكم الاخلاقي والانساني عن جدوي هذه الشخصية وتقييمها بمقياس النفع العام أو الضرر العام . إن قائمة الأفعال الإرهابية الملحقة بهذا الملف تشير بلا مراء إلي شخصية عدوانية من طراز فريد وظفت هذه العدوان حسب منظومة فكرية زينت لها وجاهة ما تفعله وجدوي ما تقوم به .
تبني بن لادن فكرا مغايرا للسائد وشاذا عن المعهود بين أفراد أسرته ومجتمعه وكون حوله حسبما أوضحنا فريقا من التابعين المؤمنين بقضيته، وعندما تتبني جماعة فكرا مناهضا لتيار المجتمع العام غير متفق مع سياقه لابد أنها تأخذ من هذا المجتمع مكانا يقع علي خط التماس مع حدود المجتمع وليس في مركز دائرته . عندما تتسم أعمال الجماعة بالسرية وتكون الحيطة معلما من معالم سلوكها لابد أن تحتل مكانا علي الهامش وليس في دائرة الضوء . في هذا الموقع تتنامي أحاسيس العزلة والبغضاء نحو المؤسسات المجتمعية التي تتعامل بريبة ولا تألوا جهدا في أن تدفع هذه الجماعة بعيدا عن مركز الحياة اليومية . وهذا هو الموقع المثالي الذي تنمو فيه الأفكار والمعتقدات أحادية الجانب، وأيضا هذا هو الموقع المثالي الذي يكون فيه الاحباط وقودا لمزيد من المشاعر العدائية وبالتالي لمزيد من التجنب والدفع بعيدا عن المركز . في هذا الموقع البعيد عن دفء الحوار تتكون لدي الجماعة مفردات فكرية خاصة أو جمل حياتية شديدة الخصوصية لا يفهمها ولا يقبلها غير أصحابها وتكون النتيجة المؤكدة هي خلق كيان صغير سري تحتي عدواني في المجتمع الكبير . ولا تتواني الجماعة الصغيرة السرية أن تعلن كراهيتها للمجتمع الكبير بكل الوسائل ولا تستنكف أيضا من محاولات تدميره بكافة السبل . أنا لا أعتقد أن أسامة بن لادن وحده دون الثلاثمائة مليون من العرب ودون ما يربو علي المليار من المسلمين في العالم كان هو الأشد كراهية للأجانب والأكثر حبا لبلاده وللإسلام.
التفكير المنطقي يدلنا بأكثر من دليل علي الوعي الأكيد لدي العرب ولدي المسلمين بما كانوا يعانونه من ظلم وبما وقع عليهم من اضطهاد وهناك ايضا أكثر من دليل علي مدي الشغف العام بالدين ومدي الحب الوطني الجارف للبلاد ولكن النظرة الفاحصة تدلنا علي أن موقف العرب والمسلمين من العالم موقف ملتبس ومركب . المسلمون من جهة ضحايا للارهاب العالمي فقد تعرضوا للإرهاب الاقتصادي ممثلا في المقاطعة الاقتصادية لكل من ليبيا والعراق والسودان . وتعرضوا للإرهاب العسكري الأسرئيلي ضد المواطنين الفلسطينين في الضفة وغزة بطريقة وحشية وسافرة، وتعرضت السعودية للأرهاب ممثلا في تفجير الخبر ومبني الحرس الوطني في الرياض . وهناك عمليات إرهابية تتم داخل حدود كل دولة من الدول العربية ومثالها اضطهاد الاكراد والشيعة في العراق والعمليات الارهابية المتفرقة في مصر ضد ممتلكات الاقباط وكنائسهم وعاني اللبنانيون من الحرب الأهلية 14 عاما وراح في الجزائر ضحية الارهاب 100 ألف قتيل ناهيك عما تعرض له المسلمون في البوسنة والهرسك من قبل الحرب وناهيك عن عدوان امريكا علي السودان وأفغانستان وما تبع تحرير العراق من تدخل امريكي في كافة شئونها .. هذا هو أحد وجهي العملة .. فماذا عن الوجه الأخر ؟ .
تعرض الغرب لضربات موجعة من قبل العرب المسلمين ابتدأ من اختطاف الطائرات التي قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية في السبعينيات مرورا بالاعتداء علي الفريق الرياضي الأوليمبي الاسرائيلي في ميونخ 1970, فجرت القاعدة السفارتين الامريكيتين في كل من نيروبي ودار السلام وقام جنود القاعدة ومعظمهم من العرب بعمليات في عدن والصومال وأسبانيا وانجلترا وحاولوا نسف برج ايفل كل هذه قبل تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 م .
إذن الموضوعية تقتضي التفكير المتأني الذي ينأي عن العاطفة والاندفاع .. انتبه العالم أشد الانتباه للعدوان الصارخ الصربي علي مسلمي البوسنة والهرسك وفي نفس الوقت تقريبا كانت المذابح في رواندا وبوروندي بين قبيلتي التوتسي والهوتو والتي راح ضحيتها في أيام أضعاف من قتلوا في البوسنة في شهور وهناك سببان نطرحهما للإهتمام بهذه وتجاهل تلك، أولهما الأهمية الاستراتيجية لمنطقة البلقان بالنسبة للغرب، وثانيهما أن طرفي الصراع في البوسنة كانا مختلفي الديانة بينما في رواندا وبوروندي كانت القبيلتان مسيحيتين ..
ونعود لنقرر أنه بين العرب والمسلمين ملايين ممن يحرصون علي عزة دينهم وحرية أراضيهم وكرامة أهلهم فلماذا لم تتبع الملايين الهادرة نفس المنحي الذي سلكة ابن لادن . !قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد أن نقرر أنه لا يمكن أن يكون العامة قوادا، ولا بد ايضا ان نقرر أهمية الإعتراف بإختلاف الأدوار المنوطة بكل من أفراد المجتمع، لكننا سوف نتجاوز هذه البديهية لندلف إلي ما يقرره علم النفس من آليات لحل الصراع ، أي صراع!!. إن أي صراع مهما كان طرفاه لا يمكن اختصار حله في آلية واحدة ألا وهي أن يقضي أحد الطرفين علي الطرف الآ،خر أو أن يمحوه من الوجود . عبر التاريخ وفي كل منعطفاته الحرجة برزت شخصيات مسئولة عظيمة تصدت للنزاعات الكبري بروح المسئولية وتحلت بالموضوعية ورجاحة الفكر وأيقنت هذه الشخصيات أن التاريخ لا يذكر لنا نصرا عسكريا واحدا مطلقا حسم صراعا أو أنهي خلافا . حتي كل الحروب التي كانت تنتهي بنصرة جيش علي آخر لم تكن تكتفي بالحسم المسلح ولكن بأن تعقد معاهدة صلح بين الطرفين المنتصر والمهزوم لتنظيم طبيعة العلاقة بينهما في مستقبل السنين ولنأخذ لذلك مثال صلح الرملة الذي عقده صلاح الدين الأيوبي مع ريتشارد بعد أن قهر صلاح الدين الصليبيين وطردهم من بيت المقدس وكان علي المنتصر في كل هذه المعاهدات أن يعطي للمهزوم بعض المميزات حتي يضمن أن يتحول مسار العلاقة بينهما إلي الوئام والتعاون بما يعود بالنفع علي طرفي الصراع .
هكذا يتصرف المسئولون وهكذا يفكر القواد العظام . أما النظر للخلاف والصراع من المنطق البدائي الطفولي الذي تمترس فيه كل من بن لادن وبوش عقب تفجير برجي مركز التجارة العالمي فإنه لا يدعو إلا إلي مزيد من السخرية المؤلمة،عندما يقسم بن لادن العالم إلي فسطاط المؤمنين وفسطاط الكفرة، وبنفس المنطق يقسم بوش العالم إلي من هم مع الحرية وأعداء لها.. يقع كلاهما في أسر نكوص فكري هو نمط من الإدراك نعتبره طبيعيا في مراحل الطفولة المبكرة ولكنه معيب أشد العيب إذا استمر بعد تجاوز سني الطفولة .. يري الطفل الأشياء إما بيضاء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.