في محاولة للدفاع المستميت لا تخلو من مراوغة زلقة اشتهر بها، حاول مرشح مصر الأخير لأمانة جامعة الدول العربية الترويج لنفسه بالقول بأنه وإن كان من أنصار نظام الحكم التسلطي الذي أسقطته ثورة شعب مصر، إلا أنه لم يكن فاسدا. وجلي أنه يقصد الفساد المالي، في مفهوم منقوص للفساد يستغل أحيانا لتبرير الفساد السياسي. ولا ريب عندي في أن الاستيلاء على منصب سياسي مهم بالتزوير في ظل نظام حكم فاسد ومستبد لهو جريمة فساد اشد فداحة من نهب بعض المال. فهذا الصنف من الفساد يقوض أسس الحكم الديمقراطي الصالح ومن ثم تمتد مغبته إلى إفساد الحياة بأكملها. وبناء عليه، فقد أحسن ائتلاف شباب الثورة بطلب سحب ترشيح الشخص المعني للمنصب السامي والذي يجب أن ترشح له مصر واحدا من خيرة أبنائها إن أرادت أن يسهم هذا الترشيح في استعادة مكانة مصر في قلب الأمة العربية التي أهدرها نظام الحكم البائد ورجالاته. وليس الغرض من هذا المقال هو التشهير بحالة بائسة من الفساد وخيانة المثقفين لدورهم كضمير للأمة وكطليعة للنضال من أجل الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية للجميع، وإنما طرح مفهوم للفساد يتسق والمهمة التاريخية لبناء مصر الحرية والعدل، تتويجا لانتصار ثورة شعب مصر العظيم. ونقترح هنا تعريف الفساد بأنه “الاكتساب غير المشروع- أو من دون وجه حق- لأي من عنصري القوة في المجتمع، السلطة السياسية والثروة. وعلى هذا فإن مرض الفساد يمكن أن يصيب من حيث المبدأ جميع قطاعات المجتمع، لدرجة أو أخرى، كما تشهد على ذلك أحوال البلدان العربية حاليا. على صعيد الدولة، قد ينخر الفساد في الجهاز التنفيذي (بما في ذلك أجهزة الأمن والخدمات، وحتى مؤسسات الرقابة والمحاسبة والمحليات)، ويمكن أن يطال المؤسسة التشريعية، والطامة الكبرى أن يصل الفساد إلى مؤسسة القضاء. ويمثل القطاع الخاص (الهادف للربح) المحضن الأساس للفساد خاصة في ظل ضعف أدوات الضبط المجتمعي لحافز الربح واستشراء ذهنية الربح السريع، وانتفاء معايير الحكم الصالح في القطاع الخاص المنفلت، كما هو الحال في كثرة من البلدان العربية، ويشمل التهرب من الضرائب. وفي هذا تفسير لتركيز منظمة “الشفافية الدولية”على الفساد في معاملات الأعمال- مع الدولة أو مع مشروعات القطاع الخاص الأخرى. وفي ظل فساد البنية المؤسسية للبلدان التي ترزح تحت أنظمة حكم فاسدة ومستبدة، والسمتان لصيقتان، قد يطال الفساد مؤسسات المجتمع المدني (بالمعنى الواسع المتضمن لمنظمات المجتمعين المدني والسياسي). وهنا يبدو التناقض واضحا بين الدور الطليعي المنشود لمنظمات المجتمع المدني، إن صلحت، في قيادة الإصلاح السياسي ومسيرة التنمية الإنسانية، وواقع المجتمع المدني في البلدان العربية في الوقت الراهن مما يدعو كثرة من المحللين للتساؤل عن إمكان الاعتماد على المجتمع المدني الحالي لقيادة الإصلاح في الوطن العربي. ولا يسلم القطاع العائلي من الفساد شاملا التهرب من الضرائب، وما يسمى أحيانا الفساد الصغير الذي يقوم على توسل العصبية والوساطة والرشوة لقضاء المصالح. ولعل القارئ لا يختلف في أن الفساد، وفق هذا التعريف، قد ضرب في أرجاء المجتمع العربي في ظل أنظمة الحكم التسلطي. الفساد مدان بشدة في الثقافة العربية الإسلامية عند التصدي لمناهضة الفساد في مجموعة من البلدان التي يجمعها سياق ثقافي واحد مثل البلدان العربية يثور التساؤل عن موقع الفساد في الثقافة السائدة، بعبارة أخرى، يثار السؤال: هل تتيح الثقافة العربية الإسلامية مناخا مؤتيا لاستشراء الفساد؟ والإجابة هي أن الثقافة العربية الإسلامية، في ينابيعها الأنقى، تذم الفساد بشدة وتدينه أشد الإدانة. انظر مثلا في أحكام القرآن الكريم التالية. ابتداء، الفساد والمفسدين كليهما مكروه “وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد” (البقرة، 205) “ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين” (المائدة، 64 ) ويحذر الله من مصير المفسدين “فانظر كيف كان عاقبة المفسدين” (النمل، 14 ) إذ يتوعدهم، المفسدين والطغاة، كليهما، بأشد العذاب. “الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصبّ عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد” (الفجر، 12-14). ويلاحظ هنا الربط الوثيق بين الطغيان والفساد. بل إن “الإفساد في الأرض” مبرر لقتل المفسد. “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً...” (المائدة، 32). إلا أن تلك الإدانة القاطعة للفساد في الينابيع الأنقى للثقافة العربية الإسلامية لا تنفي أن بعض البنى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية العربية التي تتغذي على العصبية والولاءات الاجتماعية الأدنى من المواطنة، في غيبة مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وضيق المجال العام بسبب التضييق على الحريات وخلل الحكم، تشكل بيئة خصب لانتشار الفساد. ويبقى الجذر الأصيل لاستشراء الفساد في البلدان العربية، هو تزاوج وجهي القوة (السلطة السياسية والثروة) في نظم الحكم العربية الاستبدادية الراهنة. ومن حسن الحظ أن منظمة الشفافية العالمية تعقد في القاهرة يومي الأحد والإثنين 17-18 إبريل ورشة عمل للتحاور حول بناء نسق للنزاهة الوطنية يكافح جميع صنوف الفساد، ارتأت أن مصر الثورة تمثل الموقع المناسب لاحتضانها.