«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. سليمان عبدالمنعم : يكتب ما وراء الحكايات: المغزى والفرص والمخاطر فى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد


(1)
منذ التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد فى العام 2004 أصبحت قضية الفساد، إحدى القضايا المثيرة للاهتمام فى العالم كله، وقد ازداد هذا الاهتمام مع انعقاد المؤتمر الثالث للدول الأطراف فى الدوحة منذ أسبوعين، ثم صدور تقرير الشفافية الدولى للعام 2009، ولم تكن الأزمة المالية العالمية فى جزء منها سوى الفاتورة التى تعين على الدول الصناعية دفعها بسبب الفساد.
 ولعلّنا نحتاج اليوم فى مصر إلى توظيف خيالنا السياسى لكى تصبح مكافحة الفساد جزءاً لا يتجزأ من مشروع سياسى إصلاحى. بل أكثر من هذا.. المطلوب اليوم هو ان تصبح النزاهة أساساً لشرعية أخلاقية لأنظمة الحكم.. أجل.. شرعية تدعم وتظلل الشرعية الدستورية والشرعية السياسية وربما تضاف إليهما.
 وبما أننا نتحدث هذه الأيام عن حاجتنا إلى خيال سياسى، فإن هذه الشرعية الأخلاقية المستمدة من إعلاء قيم النزاهة هى نموذج، فيما نعتقد، لمثل هذا الخيال السياسى المطلوب، كيف ولماذا؟.. نحن نعرف أن الشرعية الدستورية تعنى، فى وصف مبسط، أن تكون سلطات الدولة وما تباشره من تصرفات وأعمال، والفصل فيما بينها، والعلاقة بينها وبين الأفراد موافقة لحكم الدستور.
والشرعية السياسية تعنى الاحتكام إلى صناديق الانتخاب كآلية للتعبير عن إرادة الشعب. هاتان صورتان للشرعية تمثلان أساس الحكم ومصدر السلطات والحقوق. لكن فى مجتمع بلغت فيه نسب الفقر والبطالة مستويات مقلقة وكاد الشباب يفقد الأمل فى تكافؤ الفرص، فإن النزاهة كأساس «للشرعية الأخلاقية» للحكم تصبح هى الأمل. إنها، وليس غيرها، ما يهم الفقراء والبسطاء والكادحين. «النزاهة» نقيض الفساد هى ما ينعكس أكثر على حياة الناس اليومية وأوضاعهم المعيشية، ويضمن لهم الاستفادة مما فى بلدهم من فرص وحقوق وثروات.
بمقدور أى نظام حكم أن يؤسس «شرعيته الأخلاقية» حين يجعل من النزاهة، بكل ما يتفرع عنها من قيم ومبادئ أخرى مثل الدستور وصندوق الانتخابات سواء بسواء، أساساً لحكمه وسمة لسياساته ومعياراً لقراراته. إن البرازيل التى عانت طويلاً من الفساد يوجد فى حكومتها الحالية «وزير للنزاهة»! لا أحد يعتقد، بطبيعة الحال، أن وزير النزاهة البرازيلى سيجعل منها المدينة الفاضلة.
 ولن يكفل هذا الشكل الوزارى فى حد ذاته القضاء على مظاهر الفساد فى البرازيل. لكن مجرد تعيين وزير للنزاهة هو «خيال سياسى» إيجابى ومطلوب، يحمل للناس رسالة من الدولة تعلن فيها لا سيما إذا اقترنت النوايا بالأفعال اعتبار مكافحة الفساد والالتزام بالنزاهة جزءاً من مشروعها الإصلاحى، وهو ما يفعله بالضبط الرئيس البرازيلى دو لولا. بوسعنا أن نسميها رسالة، أو عقداً اجتماعياً فالمهم هو المضامين وليست الأشكال.. والأكثر أهمية أن تصبح النزاهة ومكافحة الفساد أساس الشرعية الأخلاقية للحكم.
نعم، نعرف أن الفساد ظاهرة إنسانية لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات. وحكايات الفساد لا تنتهى حتى فى أكثر الدول تقدماً وديمقراطية. بل إن تقرير الشفافية الدولية للعام الماضى لم يتردد فى توجيه اللوم للبلدان الغنية المصدرة بسبب ما تتبعه شركات هذه الدول الكبرى فى الخارج من ممارسات غير نزيهة فى إطار سعيها للفوز بالصفقات وإدارة الأعمال التجارية فى البلدان النامية.
 وهو ما يؤدى حسب تقرير الشفافية الدولية نفسه للعام 2008 إلى تقويض مصداقية دعوات الدول الأغنى لحث الدول النامية على القيام بمزيد من الجهود من أجل محاربة الفساد. وقد انتبهت لهذه الأوضاع منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، فأصدرت اتفاقية لتجريم الرشاوى الخارجية، لكن تطبيق هذه الاتفاقية مازال دون المستوى المطلوب لمنظمة الشفافية الدولية.
 ولنتذكر أن اليابان، نموذج الانضباط والولاء والانتماء، قد عاشت فى الثمانينيات حقبة سوداء استشرى فيها الفساد حتى طال الكثير من رموز النخبة السياسية، لدرجة أن شاعت فى هذا الوقت مزحة شعبية تقول لماذا انخفض معدل جرائم السرقة فجأة فى طوكيو؟ وكانت الإجابة: لأن معظم المسؤولين الآن وراء القضبان!! ففى هذه الفترة كان القضاء قد أدان بعض كبار المسؤولين عن جرائم الرشوة فى صفقات دولية. المزحة تؤكد إذن ان الفساد آفة لا تفرق بين الشعوب.
(2)
لكن يبقى الفارق بين فساد وفساد أمران: أولهما حجم الفساد فى مجتمع ما. فما يعد من قبيل الظاهرة فى مجتمع قد يمثل مجرد استثناء فى مجتمع آخر. والفارق الثانى هو درجة تفعيل آليات الرقابة وأدوات المساءلة فى مجال مكافحة الفساد. ففى الدول الأكثر نزاهة وشفافية توجد مؤسسات للرقابة والمساءلة يقظة ونشطة لا تكبلها قيود ولا تعرقلها محاذير ولا تربكها حسابات. إنه توازن مؤسسى وقانونى دقيق وشجاع تقيمه الدولة بين مؤسساتها، فإذا وقع فساد هنا، وهو ما يحدث فى العالم بأسره، فثمة مؤسسات هناك لا تتردد فى القيام بواجبها.
وقد عرف المجتمع المصرى فى نهاية التسعينيات حقبة شهدت فيها هيئة الرقابة الإدارية نشاطاً دؤوباً فى ملاحقة جرائم الفساد، وأحيل بعض كبار المسؤولين إلى المحاكمة عن تهم تتعلق بالرشوة واختلاس المال العام والتربح واستغلال النفوذ، وأدين البعض من هؤلاء بالفعل. كان هذا المشهد، وبصرف النظر عن جانبه الإنسانى المأساوى، كاشفاً عن إرادة عدم التهاون فى مكافحة الفساد. وهو الأمر الذى عزز ثقة الشعب فى مؤسسات الدولة. واليوم تطلق وزارة الدولة للتنمية الإدارية فى إطار اللجنة التى شكلتها للنزاهة ومكافحة الفساد، مبادرة جديدة وجديرة بالانتباه.
وقد أصدرت هذه اللجنة تقريرين مهمين، وأشرفت على استطلاع جرىء للرأى كشف عن العديد من مواطن الخلل وأتاح ، ربما للمرة الأولى من جانب الدولة، التعرف بحرية على آراء الناس فى ظاهرة الفساد. ويقال إن اللجنة كانت بصدد إصدار تقرير جديد أكثر جرأة لكن تأجل الإعلان عنه. على أى حال لعلّ هذه الخطوات، على رمزيتها وربما تواضعها، تعنى أن الحكومة تأخذ بمنهجية عمل جديدة فى شأن قضية الفساد، ولعلّها باتت أكثر اقتناعاً بأهمية تبنى قيم النزاهة والشفافية ولو بقدر ما تسمح به التوازنات والحسابات.
ومن قبل ذلك أتيح لمجلس الشعب المصرى منذ ثلاث سنوات أن يصدّق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهو ما يعنى، بموجب المادة 151 من الدستور المصرى، أن أحكام هذه الاتفاقية قد أضحت جزءاً لا يتجزأ من النظام القانونى المصرى، فهذا النص الدستورى يقرر أن «... تكون للمعاهدات قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقاً للأوضاع المقررة». يترتب على ذلك أن هذه الاتفاقية تكتسب قوة قانونية ملزمة توجب على الدولة تطبيق ما تضمنته من أحكام لا سيما على الصعيد الإجرائى وعلى صعيد سياسات الوقاية وإعمال قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة.
صحيح أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تثير عدداً من المخاوف التى لا ينبغى الاستهانة بها فى مجال المساس بالسيادة الوطنية للدولة. بل وتتضمن بعض الأحكام المفخخة التى تتعارض مع مصالحنا الوطنية، وهى أحكام يعرفها من تابع المفاوضات السابقة على إقرار هذه الاتفاقية والأعمال التحضيرية لها والتعديلات التى أجريت بحذق ودهاء على بعض أحكامها. وسنعود لعرض كل ذلك لاحقاً. الأمر المؤكد الآن أن الحكومة أصبحت ملزمة دولياً وقانونياً وسياسياً وأخلاقياً بإعمال ما تضمنته الاتفاقية من أحكام.
السؤال الآن هو: هل لدينا خيال سياسى يسمح بإدراك منطق وتبعات مرحلة التحول التى يمر بها المجتمع المصرى، وهى جزء من تيارات التحول التى يمر بها العالم كله؟ تحول يقول إن الدولة، أى دولة، لم يعد بمقدورها أن تتجاهل قوى المجتمع المدنى التى أصبحت حاضرة بقوة فى مشهد مكافحة الفساد.
وهو الأمر الذى كشف عنه المنتدى العالمى للفساد الذى عقد مؤخراً فى الدوحة. هل لدينا خيال سياسى يسمح بتفهم مشاعر المواطنين حيال ظاهرة الفساد والتجاوب معها؟ ربما كان ذلك كله يبدأ من الاقتناع بالمخاطر التى ينذر بها الفساد الذى وصفه أحد كبار المسؤولين بأنه بلغ «الركب»! وهى العبارة التى قيلت منذ خمس سنوات، ومازالت أصداؤها تتردد حتى اليوم. وحدها التقارير الدولية المحايدة التى لا نظن أنها تتحامل علينا ونحن من قوى الاعتدال فى المنطقة يمكن أن تقدم إجابة!
(3)
حين نتأمل ما تضمنته تقارير الشفافية الدولية فى الأعوام الأخيرة تبدو ملاحظات ثلاث جديرة بالرصد والاهتمام. الملاحظة الأولى أن مصر فى تقرير العام 2009 الذى أعلن منذ يومين قد جاءت فى الترتيب 111 وهو ترتيب جد متأخر يضعها بعد 11 دولة عربية تسبقها فى مؤشرات مكافحة الفساد وبعد 18 دولة أفريقية من بينها بوركينا فاسو ومالاوى ورواندا والنيجر!!
 الملاحظة الثانية أن ترتيب مصر فى السنوات الأخيرة يتراجع بشكل ملحوظ، فبعد أن كان تصنيفها فى المرتبة ال70 فى عام 2006 تراجعت إلى المرتبة 105 فى العام 2007 حتى وصلت إلى المرتبة ال115 فى تقرير العام 2008 ثم المرتبة 111 فى تقرير العام 2009.
 الملاحظة الثالثة أنه بخلاف الدول التى تأتى تقليدياً على رأس تقرير الشفافية مثل الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد بوصفها الدول الأكثر نجاحاً فى مكافحة الفساد، فإن اللافت للنظر وجود دول أخرى أصبحت تحتل ترتيباً متقدماً فى هذا المجال مثل سنغافورة وقطر وتشيلى والإمارات والأورجواى.
هذه دول ذات تجارب مهمة حققت نجاحاً طيباً فى مكافحة الفساد ومنها دول غنية مثل قطر، وبدرجة ما سنغافورة حيث نصيب الفرد سنوياً من الناتج المحلى فيهما يبلغ 80 ألف دولار فى قطر و50 ألف دولار فى سنغافورة. لكن تشيلى والأورجواى ليستا كذلك، فنصيب الفرد من الناتج المحلى السنوى يبلغ فى تشيلى 13 ألف دولار وفى الأورجواى 11 ألف دولار.
ولعلّ قراءة التقرير السنوى لمنظمة الشفافية الدولية يطرح سؤالاً مهماً هو: هل يعتبر ارتفاع مستوى الدخل والنظام الديمقراطى عاملين مؤثرين فى انخفاض مستويات الفساد فى المجتمع؟ السؤال محيّر والإجابة عنه تتفاوت من حالة لأخرى بما يصعب معه استخلاص أحكام عامة. لكن ثمة مؤشرات تصلح بداية للبحث عن إجابة.
 من الصعب إنكار الصلة بين الفقر والفساد. فالدول الثلاثون الأكثر نزاهة والأقل فساداً فى العالم وفقاً لتقرير الشفافية تصنف جميعها بأنها دول غنية لعلّ أقلها دخلاً سلوفينيا وأستونيا (21 و27 ألف دولار نصيب الفرد فيهما من الناتج المحلى سنوياً) إضافة إلى تشيلى والأورجواى السابق الإشارة إليهما. ليست هناك إذن دولة فقيرة واحدة ضمن الدول الأكثر نزاهة والأقل فساداً.
أما عن الصلة بين النزاهة والديمقراطية، فمن الصعب أيضاً إنكار واقع أن الدول الثلاثين الأقل فساداً هى دول ذات نظم ديمقراطية بصرف النظر عن مدى دقة إسباغ هذا الوصف على دولة أو اثنتين من هذه الدول. لكن هذا لا يمنع من اكتشاف وجود دول غنية وديمقراطية مثل إيطاليا التى جاءت فى المرتبة ال63، وهو تصنيف متأخر لا يتناسب مع نظامها الديمقراطى من ناحية ولا مع كونها دولة غنية يتجاوز نصيب الفرد فيها من الناتج المحلى 30 ألف دولار سنوياً.
كما أن دولة متقدمة مثل روسيا تحتل ترتيباً متدهوراً إذ جاءت فى تقرير الشفافية للعام 2009 فى الترتيب ال146 بما يجعلها من الأقل نزاهة والأكثر فشلاً فى مكافحة الفساد. وهو ترتيب مثير للتأمل والجدل. والملاحظ أن دول الاتحاد السوفيتى التى انفرط عقدها منذ نحو عشرين عاماً مازالت تحتل ترتيباً متأخراً للغاية، شأنها فى ذلك شأن روسيا، مثل روسيا البيضاء وأوكرانيا وكازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان، حيث تأتى كل هذه الدول فى ذيل القائمة.
 وربما لم يستثن من هذا الوضع المتدهور سوى جورجيا التى جاءت فى موقع وسط فى المرتبة ال 66. فهل يعنى ذلك أن مراحل التحول الاقتصادى والسياسى التى تخوضها الدول مثل الجمهوريات السوفيتية السابقة يمكن أن تُحدث مثل هذا الأثر السلبى على صعيد النزاهة ومكافحة الفساد؟ لكن ألا يعنى ذلك بفرض صحته أن مراحل التحول قد طالت فى هذه الدول بأكثر مما ينبغى؟ أما الغريب فى قائمة الشفافية الدولية فهو الترتيب المتدنى الذى حصلت عليه دولة مثل إيران التى جاءت فى المرتبة ال168 على الرغم مما توحى به من انضباط إدارى وصرامة سياسية.
والآن.. ما الذى يمكن أن نخلص إليه من وراء هذه المؤشرات من دلالات؟ وهل يكفى تطبيق ما تضمنته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من أحكام والتى سنعود إليها لاحقاً لكى تسود النزاهة والشفافية؟ لكن هل يعنى ذلك بفرض صحته أن الترسانة القانونية وحدها يمكن أن تشكل استراتيجية كفيلة بالقضاء على الفساد؟ المؤكد أن القانون سلاح لا يمكن الاستغناء عنه فى أى استراتيجية لمكافحة الفساد لكن المؤكد أيضاً أنه لابد من رؤية اجتماعية لفهم الفساد وتشخيص مظاهره. رؤية أولية وضرورية تمهد الأرض لتطبيق حكم القانون.
(4)
ربما لم يتوافر لمصطلح فى الآونة الأخيرة من شيوع وتسييس قدر ما توافر لمصطلح الفساد. فالفساد أولاً مصطلح شائع بقدر شيوع أفعال الفساد ابتداءً من الإدارات العامة والقطاع الخاص وأروقة السياسة حتى البحث العلمى وملاعب كرة القدم! والفساد ثانياً مصطلح تم تسييسه حيث اقترن فى أذهان الناس بالسياسة فحملت الأخيرة وحدها وزره مع أن للفساد جذوره ومسبباته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وربما النفسية أيضاً!! الفساد إذن جريمة وظاهرة وخيمة العواقب جوهرها واحد، لكن مظاهرها تتنوع وتكاد تتكاثر على نحو لا ينتهى!!
فمن حيث الجوهر يبدو الفساد اعتداء غير مشروع، بوسائل شتى، على المال العام أو المخصص للمنفعة العامة، واتجارا بالوظيفة العامة، واستغلالا لما تتيحه من نفوذ، وبصفة عامة، تطويعا ما للأفراد من سلطات قانونية أو فعلية على المال العام (أو المخصص للمنفعة العامة)، أو سلطاتهم فى وظيفة أو منصب أو خدمة عامة لأجل تحقيق منافع غير مشروعة بالمخالفة لأحكام القانون تفصيلاً أو لمبادئ المساواة والنزاهة والشفافية جملة.
ولئن كان هذا هو جوهر ظاهرة الفساد على نحو مجرد، فإن مظاهر الفساد تتنوع بقدر ما تتنوع مجالات النشاط الإنسانى التى ينظمها القانون من خلال ما يمنحه لبعض الأفراد من سلطات فى مباشرتهم وظيفة عامة أو أدائهم خدمات عامة. لكن الملاحظ بشأن مظاهر الفساد أنها تتسم بالتنوع، والمراوغة، وطابعها عبر الوطنى. فمن ناحية أولى يتسم الفساد بالتنوع، إذ لا يقتصر فحسب على الفساد فى القطاع الحكومى والعام بل يشمل أيضاً الفساد فى القطاع الخاص،
ومن هنا يمكن تصور خطورة هذا النوع من الفساد بالنظر للدور المتزايد الذى يضطلع به حالياً القطاع الخاص فى خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة. ويزداد الأمر خطورة بالنسبة للمجتمعات التى تمر بمراحل التحول الاقتصادى، إذ يمكن للفساد أن يجهض ويعرقل كل الآمال المعقودة على خطط ومشروعات التنمية فى المجتمع.
 وكما يوجد الفساد فى مؤسسات الدولة الرسمية، يمكن أيضاً تصور وجوده فى مؤسسات المجتمع الأهلى، بل إنه كما يكون الفساد على الصعيد الوطنى فى المؤسسات والقطاعات الحكومية أو الخاصة أو الأهلية، فإنه أى الفساد قد يطال على الصعيد الدولى المؤسسات والمنظمات الدولية.
ولعلّ حالة الرئيس السابق للبنك الدولى لا تخلو من دلالة فى هذا الخصوص وهو الذى تورط فى فساد متعدد الأشكال و«الأهواء» انتهى بخروج مهين من منصبه. من هنا، كان اهتمام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بالدعوة لتجريم أفعال الفساد الذى يقع من جانب الموظفين الدوليين وكذلك الموظفون العموم الأجانب.
كما يتسم الفساد من ناحية ثانية بالمراوغة والتخفى لاسيما فى تجلياته الحديثة. ويستمد الفساد قدرته على المراوغة والتخفى من خلال ما يتيحه التطور الحاصل فى تقنيات تبييض الأموال، وأساليب وآليات الاقتصاد الحر، وواقع سقوط الحدود والحواجز بين الدول بتأثير حركة العولمة وما يصحبها بالضرورة من ظواهر اقتصادية واجتماعية.
 ومن ناحية ثالثة يتسم الفساد لاسيما فى الوقت الحاضر بطابعه عبر الوطنى وقدرته على تجاوز الحدود بين الدول، إذ غدا ظاهرة دولية وهماً عالمياً بالإضافة إلى طابعه المحلى التقليدى. ويظهر ذلك واضحاً من خلال تهريب عوائد ومتحصلات الفساد من دولة الأصل أو المنشأ أى تلك التى ارتكبت فى إقليمها جرائم الفساد إلى دول أخرى يتم فيها استثمار وتدوير هذه العوائد والمتحصلات. كما يمكن للفساد أن يستغل الكيانات الاقتصادية عبر الوطنية، وسهولة انتقال الأفراد والسلع والأموال والخدمات عبر حدود الدول. كل ذلك يشكل مناخاً مواتياً لتفاقم ظاهرة الفساد وانتشار مظاهره.
(5)
يبدو من الصعب اختزال ظاهرة الفساد فى عامل بعينه أو حتى مجموعة عوامل بعينها ، ربما يبدو العامل السياسى أكثر بروزاً وإثارة للانتباه ، لكنه ليس العامل الوحيد بالتأكيد. فالفساد ظاهرة تتعدد جوانب تشخيصها الاقتصادى والاجتماعى والسياسى والثقافى والقانونى.
فعلى الصعيد الاقتصادى تبدو ظاهرة الفساد بلغة الأرقام مخيفة ومقلقة إلى حد بعيد. فالفساد معوق للدول الفقيرة ومهدد للدول الغنية والمتقدمة على حد سواء، والأكثر خطورة أنه ينذر بإجهاض خطط التنمية. ووفقاً للتقارير الدولية فإن البلدان التى تحارب الفساد وتحسن سيادة القانون فيها يمكن أن يزيد دخلها القومى بنسبة 400% .
 كما أن الاستثمار فى البلدان التى يقل فيها الفساد تقل تكلفته بنحو 20% فيما لو قورن ببلدان أخرى. أما التكلفة الإجمالية لظاهرة الفساد فى البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء فيقدرها البنك الدولى فى أحدث إحصائياته بنحو تريليون دولار أمريكى (أى الف مليار دولار) وربما يزيد الحجم المالى لعوائد الفساد عن هذا الرقم إذا أُخذ فى الاعتبار إعادة تدوير عوائد الفساد فى مشروعات اقتصادية من خلال آليات وتقنيات غسل الأموال.
أما على الصعيد الاجتماعى فتتجلى عواقب ظاهرة الفساد فيما يمكن أن تسفر عنه من حراك اجتماعى مصطنع تقوده طبقة طفيلية ضئيلة على حساب طبقة وسطى واسعة يتراجع دورها وينكمش. ويزداد الوضع سوءاً بفعل ظاهرة غسل أموال الفساد، التى هى فى الغالب نتيجة طبيعية وربما حتمية لظاهرة الفساد ذاتها، حيث يشكل ذلك تهديداً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بقدر ما يختزن فى نفس الوقت خطر تهديد أمن المجتمع واستقراره السياسى وسلامه الاجتماعى. فخطورة الفساد من المنظور الاجتماعى أنه لا يصنع فقط تفاوتاً باطلاً وغير مشروع بين الاغنياء والفقراء بل يغذى مشاعر الحقد والكراهية ويجعلها قابلة للاشتعال.
وعلى الصعيد السياسى تبدو الظاهرة على مستوى آخر من الخطورة. فالفساد لا يمكن فصله عن تدنى أو غياب قيم الديمقراطية والشفافية والنزاهة والمساءلة. وكلها قيم مركزية لأى مجتمع مدنى حديث ضامن لحقوق وحريات الإنسان. وتتجلى خطورة الفساد على الصعيد السياسى أكثر فأكثر بحكم عاملين: أولهما ما يؤدى إليه الفساد من إمكان نشوء تحالف مع القوى السياسية، وهو تحالف غامض وخيم العواقب يفتقر إلى المشروعية والأخلاقية ويكرس نفسه لخدمة أفراد ومصالح ضيقة بمعزل تماماً عن هموم ومصالح المجتمع.
 أما العامل الثانى، وهو يترتب على ما سبقه، فمؤداه أن استشراء الفساد وتحالفاته السياسية يمهد فى الغالب ويواكب أنشطة أخرى تقوم «بالتخديم» على هذا الفساد، وهو أمر ينذر بعواقب من نوع آخر. وفى ظل مناخ كهذا يصعب تصور كيفية ضمان الاستقرار السياسى وشرعية مؤسسات الدولة.
وعلى الصعيد الثقافى يمكن البحث عن مستوى آخر مهم لتشخيص ظاهرة الفساد ، ليس فقط على صعيد نشأة الظاهرة أو مداها ، بل أيضا على صعيد تواضع سياسة مكافحتها. فالفساد يفضح بيروقراطية التنظيم الإدارى الذى ترعرع فيه وما تتسم به هذه البيروقراطية من رذائل التسلط والتحكم والاستعلاء ، والبيروقراطية تنشأ فى الذهنية أحيانا قبل أن تظهر فى القوانين واللوائح والأنظمة!!
كما أن الفساد يغطى رقعة القصور الثقافى الذى لم يفلت منه الموظف العمومى ولا المواطن صاحب الخدمة على حد سواء . وهو قصور ثقافى لم يستوعب بالقدر الكافى حتى اليوم فكرة أن الدولة «ملتزمة» بأن تؤدى للفرد من خلال مرافقها العامة خدماته على النحو الواجب ، وفى وقت معقول ، ودونما مقابل غير ما يدفعه الفرد من ضرائب أو رسوم.
وعلى الصعيد القانونى أخيراً تستمد ظاهرة الفساد خطورتها من عاملين مهمين: أولهما أنها كجريمة قد تفتقر غالباً إلى وجود «المجنى عليه» كشخص طبيعى مثلما يوجد فى الكثير من الجرائم الأخرى مثل القتل أو السرقة أو الاغتصاب... بل تقع جرائم الفساد فى الغالب على شخص اعتبارى مما يضعف أحياناً من الحافز الفردى على الملاحقة لغياب الأذى الشخصى المباشر الناشئ عن الجريمة ويلقى بالعبء كله على جهات الرقابة والتقصى.
أما العامل الثانى فهو أن معظم جرائم الفساد هى مما يطلق عليه جرائم «الكتمان» حيث يصعب الكشف عن الجريمة بقدر ما تزداد فرص التستر على ارتكابها فترة طويلة لاسيما مع كون الجانى موظفاً عاماً يختار وقت ووسيلة ارتكاب الجريمة، ويستفيد من مجموعة سلطات فعلية وامتيازات قانونية تمثل فى نهاية المطاف غطاء ارتكاب جريمته. ولعل هذا الوضع يفسر تصاعد ما يعرف بالرقم الأسود أو المطموس فى جرائم الفساد، وهذا الرقم الأسود يمثل الفارق بين عدد جرائم الفساد التى وقعت بالفعل وعدد جرائم الفساد التى تم الكشف عنها أو الحكم بإدانة فاعلها.
 فالفارق بين الرقمين (الرقم الأسود أو المطموس) يزداد يوماً بعد يوم. وهى زيادة لا يمكن تفسيرها إلا بتواضع استراتيجية مكافحة الفساد بشتى حلقاتها الوقائية والرقابية والعقابية.
 السؤال الآن هو: كيف يمكن توظيف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بما توجبه من ضرورة مواءمة التشريعات المصرية معها لاسيما على صعيد تكريس قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة؟ ثم وهو سؤال لا يقل أهمية كيف يمكن استغلال ما تتيحه لنا هذه الاتفاقية من فرص وما تختزنه من مخاطر؟ هذا سؤال الأسبوع المقبل إن شاء الله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.