تيسيرًا على الوافدين.. «الإسكندرية الأزهرية» تستحدث نظام الاستمارة الإلكترونية للطلاب    وزير الشباب: إنشاء حمام سباحة وملعب كرة قدم بمدينة الألعاب الرياضية بجامعة سوهاج    العملة الخضراء الآن.. كم سجل سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم السبت 11–5-2024؟    رئيس بعثة الجامعة العربية بالأمم المتحدة: يحق لفلسطين الآن التقدم بمشروعات القرارات    واشنطن بوست: الولايات المتحدة تعرض على إسرائيل دعما استخباراتيا بديلا لاقتحام رفح الفلسطينية    الهدف الثاني الحاسم.. موديست "رجل طوارئ" الأهلي هذا الموسم    سر الأهلي.. هل ينهي الزمالك خطيئة جوميز مع جروس؟    بيان مهم من الأرصاد بشأن الطقس غدا الأحد 12 مايو 2024    الصور الأولى من حفل زفاف ابنة مصطفى كامل    رمضان عبد المعز: لن يهلك مع الدعاء أحد والله لا يتخلى عن عباده    السفير ماجد عبدالفتاح: حديث نتنياهو عن الإدارة المشتركة لقطاع غزة حلاوة روح    مخالف للدستور والقانون، الصحفيين ترفض قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات    الرقابة الإدارية تستقبل وفد مفتشية الحكومة الفيتنامية    وكيل صحة الشرقية يتفقد مستشفى العزازي للصحة النفسية    وكيل صحة الشرقية يتفقد مستشفى العزازي للصحة النفسية وعلاج الإدمان    خنقها برباط حذائه.. الإعدام لعامل بناء قتل ابنة شقيقه بسوهاج    وزير الرياضة يطمئن على لاعبة المشروع القومي بعد إجرائها عملية جراحية    سلوفينيا: ممتنون لمصر لمساعدة مواطنينا في غزة على العودة    فيلم السرب يواصل سيطرته على شباك تذاكر السينما.. وعالماشي يتذيل القائمة    هدى الأتربى تكشف تفاصيل مسلسلها القادم مع حنان مطاوع    بكلمات مؤثرة.. إيمي سمير غانم تواسي يسرا اللوزي في وفاة والدتها    شراكة بين بنك القاهرة وشركة متلايف لتقديم خدمات التأمين البنكي عبر 150 فرعا    في عيد النصر بوريسينكو: مصر عانت مثلنا من الحروب    كنيسة يسوع الملك الأسقفية بالرأس السوداء تحتفل بتخرج متدربين حرفيين جدد    «جوالة جامعة الزقازيق» تُنظم دورة تدريبية عن الإسعافات الأولية    اليوم العالمى للمتاحف.. متحف إيمحتب يُطلق الملتقي العلمي والثقافي "تجارب ملهمة"    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة محملة بطيخ بقنا    وزير الأوقاف يحظر تصوير الجنائز بالمساجد مراعاة لحرمة الموتى    عمرو الورداني للأزواج: "قول كلام حلو لزوجتك زى اللى بتقوله برة"    محافظ القليوبية يناقش تنفيذ عدد من المشروعات البيئة بأبي زعبل والعكرشة بالخانكة    إحالة أوراق طالب هتك عرض طفلة للمفتي    خالد عبدالغفار: وزارة الصحة وضعت خططا متكاملة لتطوير بيئة العمل في كافة المنشأت الصحية    رئيس"المهندسين" بالإسكندرية يشارك في افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف لعام 2024    «هشمت رأسه وألقته من أعلى السطح».. اعترافات المتهمة بقتل زوجها في قنا    سانت كاترين تستقبل 1300 سائح من مختلف جنسيات العالم    محافظ كفر الشيخ يعلن بدء التشغيل التجريبي لقسم الأطفال بمستشفى الأورام الجديد    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    مواصفات وأسعار سيات إبيزا 2024 بعد انخفاضها 100 ألف جنيه    إلغاء جميع قرارات تعيين مساعدين لرئيس حزب الوفد    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    جيش الاحتلال الإسرائيلى: نحو 300 ألف شخص نزحوا من شرق رفح الفلسطينية    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    بعد ثبوت هلال ذي القعدة.. موعد بداية أطول إجازة للموظفين بمناسبة عيد الأضحى    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    قروض للشباب والموظفين وأصحاب المعاشات بدون فوائد.. اعرف التفاصيل    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    منها المهددة بالانقراض.. تفاصيل اليوم العالمي للطيور المهاجرة للبيئة    المشاركة ضرورية.. النني يحلم بتجنب سيناريو صلاح مع تشيلسي للتتويج بالبريميرليج    مباشر مباراة المنصورة وسبورتنج لحسم الترقي إلى الدوري الممتاز    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 11-5-2024    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.سليمان عبدالمنعم يكتب: المغزى والفرص والمخاطر فى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (2)


 (1)
مغزى السيادة الوطنية
شهدت مدينة الدوحة مؤخراً انعقاد المؤتمر الثالث للدول الأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والذى كشف عن وجهتى نظر أولاهما تتبناها منظمات المجتمع الأهلى وكيانات أممية مثل منظمة الشفافية الدولية، والأخرى تعبر عن السلطات الحكومية المنوط بها مكافحة الفساد. كان الذى دار فى مؤتمر الدوحة إذاً سجالاً بين رؤيتين رسمية وأهلية ربما سوف نشهد مثله قريباً بعد عدة أشهر، حين يتم عرض تقرير مصر عن حقوق الإنسان أمام المجلس الدولى لحقوق الإنسان فى جنيف.
إنه سجال وربما صراع بين رؤية رسمية ورؤية مجتمع أهلى يتصاعد دوره فى ظل حركة تطور عالمى تكاد تجعل منه عنصراً بل شريكاً فى الشأنين المحلى والدولى على حد سواء. وهو موضوع يستحق بذاته معالجة خاصة.
حين نعود إلى مؤتمر الدول الأطراف الذى انعقد فى الدوحة نكتشف وجهة نظر أهلية تدعو إلى مزيد من إشراك المجتمع الأهلى، وتكريس الحق فى الحصول على المعلومات وتداولها، وتعزيز الشفافية فى مجال سياسات وتدابير مكافحة الفساد. وكل هذه وغيرها أمور تنص عليها المادة 13 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
بل وترى وجهة النظر هذه أن تكون التقارير الوطنية بشأن مكافحة الفساد ذات طابع علنى يتم استعراضها أمام المؤتمرات اللاحقة للدول الأطراف، ولا تمانع فى شكل ما من أشكال الرقابة الأممية على الجهود المحلية فى مجال مكافحة الفساد من خلال ما يعرف بآلية متابعة مكافحة الفساد.
وفى المقابل هناك وجهة نظر أخرى رسمية تعبر عنها دول العالم بدرجات متفاوتة تنطلق من ضرورة احترام السيادة الوطنية للدولة، والتى كرست لها الاتفاقية مادة مستقلة هى المادة الرابعة، وكان ذلك بناء على اقتراح الوفد المصرى المشارك فى مفاوضات هذه الاتفاقية.
ولهذه الرؤية الرسمية هواجس مبعثها أن تنطوى آلية المتابعة الأممية على المساس بالسيادة الوطنية للدولة. بداية الجدل إذاً من هنا، من الاختلاف بين ضرورات السيادة الوطنية ومقتضيات القبول بوجود آلية أممية (لكى لا نقول دولية) لمكافحة الفساد.
وفى معرض التعليق على هذا الجدل الدائر فإننا نعتقد أن السؤال الأكثر جدوى يجب أن يدور حول كيفية التوفيق بين حماية السيادة الوطنية من ناحية وعدم التنصل من المشاركة فى ركب الجهود الأممية لمكافحة الفساد من ناحية أخرى. الاعتباران ضروريان معاً.
فالسيادة الوطنية مسألة من الخطورة بمكان التهاون بشأنها ليس فقط لرمزيتها السياسية والمعنوية ولكن أيضاً لاعتبارات واقعية بالغة الأهمية.
ربما يرى البعض أن السيادة الوطنية موضع اهتمام وحرص دول العالم جميعاً، دون أن يمنعها ذلك من القبول بالآلية الدولية لمتابعة مكافحة الفساد وتقديم تقارير علنية فلماذا نحن بالذات الذين نبالغ فى الحرص على السيادة الوطنية؟
والإجابة هى أنه من الطبيعى أن نبدى مثل هذا الاهتمام بمسألة السيادة الوطنية لأن تجربة التاريخ فى العلاقات الدولية والقضايا العالمية تذكرنا أن الدول الكبرى والقوية هى وحدها التى لا تخشى المساس بسيادتها الوطنية لأنها ببساطة دول كبرى وقوية! أما نحن فعلينا التحوط والانتباه لكى لا تكون قضية مكافحة الفساد هى الحق الذى يراد به باطل.
فالفساد مثله مثل الإرهاب أو التسلح النووى يمكن أن يكون يوماً ما «الذريعة النبيلة» التى تخفى وراءها نوايا ومقاصد أخرى.. وفى لعبة الأمم كم تدور من غرائب ومفاجآت. ولنتذكر أن الجماعة الدولية المسيطرة فى هذا العالم لا تدافع عن المبادئ والقيم إلا بقدر ما يتحقق لها من مصالح وأهداف.
الخطورة فى المسألة أنه باستبعاد مبدأ صون السيادة الوطنية يمكن أن نرى ذات يوم جهات تحقيق دولية تمارس على الإقليم المصرى الصلاحيات والوظائف القضائية المنوطة بسلطات الدولة، ويكون لها حق الاطلاع على السجلات المصرفية والأوراق الرسمية الحكومية وكلها أمور يصعب التسليم بها مهما كان نبل مقصدها.
ولا ننسى أن الدول الغربية لا تقبل مهما كانت الدواعى والمبررات أن تمارس آليات دولية أو سلطات دولة أخرى مثل هذه الصلاحيات على إقليمها. وإلا فهل تقبل سويسرا مثلاً وهى التى تحتفظ فى مصارفها عن علم وقصد بجزء هائل من الحسابات السرية والأموال مجهولة ومريبة المصدر أن يمارس على إقليمها تحقيقات دولية فنية أو قضائية بشأن هذه الأموال؟
ليس ما تفعله أو ما لا تفعله سويسرا نموذجاً يصلح للقياس عليه، فالتشبيه بحالة سويسرا هو للتوضيح فقط وليس للقياس. لكن الفكرة الأساسية هى أن السيادة القضائية للدولة مظهر من مظاهر سيادتها الوطنية. ويوم أن تفرط دولة فى هذه السيادة فإنها تفتح باباً قد يصعب إغلاقه لتطبيق العدالة بيد الآخرين على أراضيها، وهو أمر يفوق التصور.
من هنا يبدو مبدأ صون السيادة الوطنية سياجاً مطلوباً للدفاع ليس عن الفساد بل عن أن يتخذ الفساد ذريعة للتدخل فى شؤون وطنية. ولهذا جاءت المادة 4 من الاتفاقية لتنص على أنه «... ليس فى هذه الاتفاقية ما يسمح للدولة الطرف أن تقوم فى إقليم دولة أخرى بممارسة الولاية والوظائف التى يناط أداؤها حصراً بسلطات تلك الدولة الأخرى بمقتضى قانونها الداخلى».
لكن ليس معنى الحرص على عدم المساس بالسيادة الوطنية أن تتنصل الدولة من الجهود الأممية لمكافحة الفساد متى كانت قد انضمت لهذه الاتفاقية وصدقت عليها وفقاً للإجراءات المقررة فى قانونها الداخلى. والواقع أن مشاركة الدولة فى هذه الجهود الأممية تغطى صوراً شتى، منها ما لا يمثل افتئاتاً على سيادتها الوطنية مثل التعاون الدولى المنصوص عليه فى المادة 43 من الاتفاقية، وقبول مبدأ تسليم المتهمين أو المحكوم عليهم بسبب إحدى جرائم الفساد المشمولة بالاتفاقية إلى الدولة صاحبة الولاية القضائية فى محاكمتهم أو تنفيذ حكم الإدانة الصادر ضدهم (المادة 44 من الاتفاقية)،
ونقل الأشخاص المحكوم عليهم إلى الدولة التى ينتمون إليها لتكملة مدة عقوبتهم (المادة 45 من الاتفاقية)، والكثير من صور المساعدة القانونية المتبادلة بين الدول فى التحقيقات والإجراءات المتعلقة بجرائم الفساد (المادة 46 من الاتفافية). فكل هذه «فرص» حقيقية لمصر فى مجال مكافحة الفساد تمكنها من ملاحقة مرتكبى جرائم الفساد الذين يلوذون بالفرار إلى الخارج،
كما تمكنها أيضاً من استعادة الأموال المنهوبة التى تم تهريبها إلى دول أخرى. لكن على العكس من ذلك هناك صور أخرى من الجهود الأممية لمكافحة الفساد يتعين على الدولة الانتباه والتحوط بشأنها مثل القيام بتحريات مشتركة واتباع أساليب التحرى الخاصة كالترصد الإلكترونى وغيره من أشكال الترصد والعمليات السرية واستخدام ما يعرف بأسلوب التسليم المراقب على الصعيد الدولى مثل اعتراض سبل البضائع والأموال وإزالتها (المادتان 49 و50 من الاتفاقية).
فهذه صور للتعاون الدولى قد تمثل فى مواجهة دول صغيرة أو ضعيفة مدخلاً للتحرش بها. فمن السهل فى ظل هذه النصوص الادعاء مثلاً بأن سفينة ما تحمل شحنات من أسلحة أو معدات استراتيجية تمثل نشاطاً من أنشطة الفساد لاسيما أن جرائم الفساد المشمولة بالاتفاقية تغطى صوراً كثيرة ذات فروض شديدة الاتساع.
ملاحقة الفساد الدولى
لعلّ من بين أهم ما تضمنته اتفاقية الأمم المتحدة من فرص لمكافحة الفساد هو ذلك الشق المتعلق بما يمكن تسميته الفساد الناشئ عن آليات العولمة. فقد خلقت حركة العولمة إفساداً من جانب دول ينتج فساداً فى دول أخرى! والممارسة الأشهر لهذا النوع من الإفساد هى الرشاوى تحت مسمى العمولات التى تدفعها شركات دولية للفوز بتعاقدات أو مناقصات فى دول أخرى.
وكان من الغريب أن تشجع العديد من الدول الصناعية مثل هذه الممارسات المفسدة عن طريق خصم ما تدفعه شركاتها من عمولات فى دول أجنبية من الوعاء الضريبى لهذه الشركات. وللحق فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة غربية تبادر إلى إلغاء هذه التشريعات الداخلية التى تشجع على إفساد الدول النامية، ثم تبعتها بعض الدول الأخرى.
وأخيراً جاءت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لتكرس إلغاء هذه الممارسات المفسدة. وفى هذا المعنى تنص المادة 12-4 من الاتفاقية على أنه «على كل دولة ألا تسمح باقتطاع النفقات التى تمثل رشاوى من الوعاء الضريبى لأن الرشاوى هى ركن من أركان الأفعال المجرّمة وفقاً للمادتين 15 و16 من هذه الاتفاقية، وكذلك عند الاقتضاء سائر النفقات المتكبدة فى تعزيز السلوك الفاسد».
كما تتيح اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ملاحقة صور أخرى من الفساد الناشئ عن آليات العولمة من خلال تطبيق أحكامها ليس فقط على جرائم الفساد التى يرتكبها الموظفون العموميون المحليون بل أيضاً على جرائم الفساد التى تقع من موظفين عموميين أجانب أو من موظفين دوليين (المادة 2 ب من الاتفاقية).
وهذه فرصة حقيقية تسهم ولا شك فى مكافحة ما يمكن تسميته بالفساد الدولى، وهو فساد قائم بالفعل كشفت العديد من القضايا عن خطورته وتغلغله على الرغم من قواعد الشفافية التى تلزم بها نفسها المؤسسات الدولية.
(3)
المتأمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد يكتشف أنها تنطوى على الكثير من الفرص المهمة والتى تكاد تمثل مقومات لاستراتيجية مكافحة الفساد. والملاحظ أن التشريع المصرى لايزال حتى اليوم خلواً من هذه الفرص والمقومات، بما يجعله يبدو متأخراً عن التشريعات الحديثة للدول المتقدمة فى هذا الخصوص.
أولى هذه الفرص المقومات فى أى استراتيجية ناجعة لمكافحة الفساد، هى حظر تضارب المصالح. وهو مبدأ ذو وظيفة وقائية مؤداه أنه لا يجوز لموظف عام أن يمارس عملاً يحقق له مصلحة تتناقض مع موجبات وظيفته العامة أو تنطوى على الأقل على شبهة تعارض محتمل معها. ولتضارب المصالح فروض وصور صارخة شتى يئن من تبعاتها المجتمع المصرى.
وتنص المادة 12-1 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على بعض هذه الصور حيث تطالب الدول الأطراف ب«... منع تضارب المصالح بفرض قيود حسب الاقتضاء ولفترة زمنية معقولة على ممارسة الموظفين العموميين السابقين أنشطة مهنية أو على عمل الموظفين العموميين فى القطاع الخاص بعد استقالتهم أو تقاعدهم عندما تكون لتلك الأنشطة أو ذلك العمل صلة مباشرة بالوظائف التى تولاها أولئك الموظفون العموميون أو أشرفوا عليها أثناء مدة خدمتهم...».
ويلاحظ أن التشريع المصرى لا ينظم مسألة تضارب المصالح بوضع ما يلزم من قيود بموجبها يحظر على المسؤولين وكبار الموظفين أن يعملوا لدى شركة خاصة من بين تلك الشركات ذات الصلة بالعمل الوظيفى الذى كانوا يؤدونه، وذلك لفترة زمنية كافية على انقطاع صلة الشخص بوظيفته السابقة.
كما أن المشرع المصرى مدعو إلى حظر قانونى رادع لمن يمارس نشاطاً يتعارض مع موجبات وظيفته لاسيما فى الفروض الذكية التى يتحقق بها هذا التعارض ولو كان محتملاً، وهى فروض تفلت أحياناً من ثقوب النصوص القانونية.
وثانية هذه الفرص المقومات، هى تكريس حق الحصول على المعلومات وتداولها، وهو مقوم مهم يفرضه مبدأ الشفافية فى مجال مكافحة الفساد.
وإذا كان جاروفالو عالم الاجتماع الإيطالى الشهير قد كتب منذ نحو مائتى عام أنه فى شارع يعمه الظلام وينتشر فيه اللصوص ليس المهم هو بناء السجون لهؤلاء اللصوص، بل ربما يكون الأكثر جدوى هو إنارة هذا الشارع المظلم للحد من تواجد اللصوص فيه.
ولعلّ هذه المقولة تصدق إلى حد بعيد فى مجال مكافحة الفساد إذ إن الشفافية تشبه فى العصر الحديث إنارة الشارع المظلم التى دعا اليها جاروفالو للحد من وقوع جرائم الفساد.
وقد دعت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إلى تكريس مبدأ حق الحصول على المعلومات وتداولها فى أكثر من موضع. فالمادة 6-1 ب منها تدعو الدول إلى زيادة المعارف المتعلقة بمنع الفساد وتعميمها.
كما تطالب المادة 10 من الاتفاقية الدول الأطراف بنشر معلومات يمكن أن تضم تقارير دورية عن مخاطر الفساد فى إدارتها العمومية. ثم تأتى المادة 13 من الاتفاقية لتؤكد مرة أخرى على حق الحصول على معلومات لإذكاء وعى الناس فيما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثله من خطر، وتوجب ضمان تيسير حصول الناس فعلياً على المعلومات، وكذلك احترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها.
ولايزال التشريع المصرى بعيداً حتى اليوم عن تكريس حق الحصول على المعلومات وتداولها. وكان المجلس القومى لحقوق الإنسان قد طالب فى تقاريره الأخيرة بضرورة تكريس هذا الحق وتنظيمه.
ويقال إن مشروع قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات وتداولها مدرج على الأجندة التشريعية فى هذا الخصوص. ولاشك أن لجنة النزاهة والشفافية التى شكلتها وزارة الدولة للتنمية الإدارية قد اضطلعت فى الآونة الأخيرة بدور إيجابى مهم فيما يتعلق بنشر المعارف والمعلومات حول قضية الفساد.
ولكن لايزال الأمر يحتاج خطوة نوعية أخرى لتكريس حق الحصول على المعلومات وتداولها على الصعيدين التشريعى والمؤسسى، وهو حق ليس ثمة ما يمنع من تنظيمه بما يوفق بين ثلاثة اعتبارات، هى: مكافحة الفساد، واحترام حقوق وحرمات الأفراد، وكفالة المصالح الوطنية والنظام العام، فلا يجوز أن يطغى اعتبار على الاعتبارين الآخرين،
وهو واقع تعرفه كل الدول التى يوجد فيها تشريع ينظم حق الحصول على معلومات وتداولها. ولهذا نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على جواز إخضاع حق الحصول على المعلومات وتداولها لقيود تفرضها مراعاة حقوق الآخرين وسمعتهم، ولحماية الأمن الوطنى أو النظام العام (المادة 13-1 فقرة د من الاتفاقية).
والمقوّم الثالث فى استراتيجية مكافحة الفساد هو ضرورة توفير درجة متقدمة من الحماية للشهود والخبراء والضحايا والموظفين القضائيين الذين يمثلون أحياناً، وبالذات فى مجال جرائم الفساد، فئة معرضة للتهديد أو الابتزاز أو الاعتداء.
ولعل ما تضمنته الاتفاقية فى مادتها 32 من قواعد ونظم حماية الشهود والخبراء والضحايا يدعو إلى إجراء تحديث تشريعى لأجل إضفاء أكبر قدر ممكن من حمايتهم. والحماية المرجوة للشهود والخبراء والضحايا على الصعيد التشريعى يجب أن تكون موضوعية وإجرائية فى آن معاً.
فالحماية الموضوعية تعنى تجريم كل صور التهديد أو الابتزاز أو الإغواء أو الاعتداء التى يمكن أن يتعرض لها هؤلاء فيما يتعلق بما لديهم من معلومات أو ما يقومون به من دور فى مجال مكافحة الفساد. أما الحماية الإجرائية فتعنى تطبيق برنامج متكامل للحماية ابتداء من حمايتهم من التشهير بهم أو ملاحقتهم بتهمة البلاغ الكاذب حتى تغيير أماكن الإقامة وعدم إفشاء هويتهم وأماكن تواجدهم. وهناك نظم وتجارب تأخذ بها بعض الدول يمكن الإفادة منها فى هذا الخصوص.
(4)
ولا تخلو اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من بعض المخاطر التى يتعين الانتباه إليها، من هذه المخاطر ما سبق عرضه بشأن السيادة الوطنية للدولة وما يرتبط بها من سيادة قضائية، ومن هذه المخاطر أيضاً ما يتعلق بالآثار الناجمة عن جرائم الفساد. وأحد هذه المخاطر هو ما يتعلق بمصادرة الأموال المتحصلة عن جرائم الفساد. فقد أجازت الاتفاقية أن تتم هذه المصادرة ليس فقط بحكم قضائى صادر من محكمة فى أعقاب محاكمة قانونية بل أجازت أن يتم ذلك بمجرد صدور أمر إدارى من سلطة مختصة.
وهذه مسألة مثيرة للهواجس والتساؤلات. فنحن نعرف أن المصادرة عقوبة، ولا يجوز الحكم بعقوبة إلا من القضاء إعمالاً لأحد المبادئ القانونية بل والدستورية المهمة وهو مبدأ قضائية العقوبة. لكن الاتفاقية فيما تجيزه من مصادرة الأموال المتحصلة عن الفساد بأمر إدارى إنما تفتح الباب مشرعاً للتساؤل حول ما إذا كان معنى ذلك أن تقوم السلطات الأمنية كجهة إدارية فى أوروبا أو أمريكا بمصادرة أموال تبرعات لأسر فلسطينية مثلاً تحت زعم كونها أموالاً ذات مصدر غير مشروع.
للتساؤل ما يبرره حيث تم فى السنوات الأخيرة مصادرة الكثير من الأموال العربية لأسباب واهية غير مقنعة أحياناً، وعلى الرغم من أن الوفد المصرى قد طالب مراراً فى المفاوضات السابقة على إقرار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إلغاء النص الذى يجيز المصادرة بقرار ادارى وقصره فقط على المصادرة بحكم قضائى تحسباً لمثل هذه الاحتمالات والفروض إلا أن الدول الغربية قد تمسكت فى إصرار غريب ومريب بالصياغة الحالية على الرغم من أن القوانين الغربية الحديثة لا تجيز المصادرة كعقوبة جنائية لجريمة وقعت إلا بناء على حكم قضائى.
ربما يرى البعض أنه ليس ثمة ما يدعو للتخوف من مثل هذا الحكم الذى يسرى على جميع الدول، لكن علينا أن نتذكر أن الأموال العربية المودعة فى بنوك أجنبية فى الخارج هى أكثر بكثير من الأموال الأجنبية المودعة فى بنوكنا، وبالتالى فإن مصلحتنا الوطنية كانت تقتضى التحوط لمثل هذا الحكم.
ومن هذه المخاطر، وربما أهمها، ما يتعلق باسترداد الأموال المتحصلة عن جرائم الفساد، وهذه قضية القضايا فى مجال مكافحة الفساد. فمصر شأنها شأن الكثير من دول العالم الثالث ذات مصلحة فى استرداد الأموال المنهوبة المتحصلة عن جرائم الفساد التى يتم تهريبها وأيداعها فى البنوك الأجنبية وأحياناً تدويرها فى أنشطة استثمارية مختلفة خارج مصر.
وكان المتوقع والمأمول أن تصبح هذه الاتفاقية أداة فعالة فى استرداد عوائد الفساد.
ولكن المتأمل لأحكام الاتفاقية ومن تابع المفاوضات السابقة على اقرارها يكتشف أن الدول الغربية التى تودع فى مصارفها فى حسابات سرية الأموال المتحصلة عن الفساد، وعلى رأسها سويسرا ودول أخرى، قد أقرت مبدأ استرداد عوائد الفساد فى ديباجة الاتفاقية وفى المواد 3 و51 و59 لكنها عالجته بمكر وذكاء شديدين وكأنها تكرس المبدأ نظرياً وتجهضه عملياً.
وهناك أكثر من إشارة لهذه المعالجة «الماكرة» فى قضية استرداد عوائد الفساد. فمن ناحية أولى يلاحظ أن الاتفاقية أضعفت مبدأ إعادة الأموال المتحصلة عن جرائم الفساد إلى بلدان الأصل التى نهبت منها هذه الأموال، أى تلك التى ارتكبت فيها هذه الجرائم.
فبعد أن كان المشروع الأصلى للمادة الأولى من الاتفاقية ينص فى وضوح على إعادة الأموال المنهوبة إلى بلدان الأصل تم حذف هذه العبارة! وقد طالب الوفد المصرى بالإبقاء عليها دون جدوى!
ومن ناحية ثانية وحتى حين تضمنت المادة 57 من الاتفاقية الإشارة إلى إرجاع عائدات الفساد فإنها نصت على أن يكون ذلك إحدى طرق التصرف فى هذه العائدات المصادرة. وهو ما يعنى بمفهوم المخالفة أنه يجوز التصرف فى عائدات الفساد المصادرة بطرق أخرى غير إعادتها إلى بلدان الأصل!!!
وبالإضافة إلى ذلك فإن عبارة بلدان الأصل أى البلدان التى نهبت منها هذه الأموال قد تغيرت إلى عبارة أخرى هى «مالكيها الشرعيين». وهى عبارة تحتمل تأويلات عدة ولا تخلو من الغموض!!
ومن ناحية ثالثة فقد تضمنت الفقرة الخامسة من المادة 57 حكماً فى غاية الدهاء مؤداه ان تبرم الدول الأطراف (الدولة التى خرجت منها عوائد الفساد والدولة التى أودعت فى مصارفها هذه العوائد) اتفاقات أو ترتيبات من أجل التصرف نهائياً فى الأموال المصادرة. إن مثل هذا الحكم الذى يبطن أكثر مما يظهر يعنى ببساطة أن تساوم الدولة التى أودعت فيها عوائد الفساد الدولة النى نهبت منها هذه الأموال بحيث تشترط عليها لإعادة أموالها إليها أن تقتسم معها هذه الأموال بنسبة تصل أحياناً إلى 50%!!!
وهو واقع دولى معروف!!!! والطريف أن مناقشة المادة الخاصة باسترداد عوائد الفساد كما يتذكر كاتب هذه السطور قد طرحت للتفاوض فجأة وقت صلاة الجمعة!! على غير الترتيب الذى كان معلناً من قبل، وحيث كانت معظم، إن لم تكن كل الوفود العربية والإسلامية خارج قاعة التفاوض!!!
(5)
على طريق مكافحة الفساد
فى النهاية ربما نختلف حول الموقف الواجب اتخاذه فى التعامل مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، لكن الأمر المؤكد أن ثمة أساسيات يتعين الوعى بها بشأن مجمل قضية مكافحة الفساد.
1 السعى ما أمكننا ذلك إلى تعديل أحكام الاتفاقية بما يحقق مصالحنا الوطنية لتفعيل مبدأ استرداد عوائد الفساد لكى يصبح حقاً خالصاً للدول المتضررة لا يساومها عليه أحد، وذلك خلافاً لما تسمح به للأسف الصياغة الحالية للمادة 57 من الاتفاقية. وإمكان تعديل الاتفاقية أمر تتيحه على أى حال المادة 59 من الاتفاقية ذاتها.
2 ألا تكون مكافحة الفساد فى شتى جوانبها الوقائية والقانونية مدخلاً أو ذريعة لانتهاك حقوق وحريات الإنسان، أو المساس بحرمات الأفراد وخصوصياتهم.
3 أن تتم مكافحة الفساد لاسيما على صعيد القطاع الخاص وفى مجال العمل المصرفى، فى مناخ من التوازن الدقيق والذكى حتى لا تشيع جواً من الذعر المصرفى أو الاقتصادى يكون معوقاً للتنمية أو طارداً للاستثمار فى مصر.
4 ضرورة صياغة مدونات سلوك أخلاقية للموظفين العموميين لتمثل بذلك حلقة وقائية وأخلاقية وتوعوية ضرورية وسابقة على حلقة الملاحقة القانونية. ويلاحظ أن بعض الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة لديها مثل هذه المدونة الأخلاقية لسلوك الموظفين العموميين.
5 أهمية تحديث النظام العقابى المطبق على جرائم الفساد إذ لا يعقل أن تكون هناك تسعيرة عقابية واحدة تطبق على كل جرائم الرشوة أو اختلاس المال العام بصرف النظر عما قد يوجد من تفاوت فى جسامة ومدى الأضرار الناشئة عن هذه الجرائم أو خطورة فاعلها.
6 ضرورة الإسراع باصدار تشريع وطنى ينظم جميع مسائل التعاون القضائى الدولى ويعبر عن المصالح القانونية المصرية لكى لا يكون الأمر رهناً فقط بالاتفاقيات الدولية المنظمة لهذه المسائل. فمصر تكاد تكون من بين الدول القليلة فى العالم حتى على الصعيد العربى التى لا يوجد بها مثل هذا التشريع المنشود للتعاون القضائى الدولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.