غواية الخلود، مقرونة بذلة الخروج من الجنة إلى التيه. على الأرض تدفع الإنسانية “التعسة” الثمن في تناغم وتكرار الأكليشيه..لا تحاول الأغلبية تكرار الخطيئة، اللهم إلا بدفع قربان جديد بإنجاب يواصل مسيرة دفع الثمن..في دائرة النمط . لكن تظل للغواية، فكرة الشيطان البراقة، جاذبية تجعل سلالة التمرد تؤمن أنه “شيء مهين للإنسان أن يكون جزءا من كتلة جماهيرية، و لا يمكن تصور أي كمية من التضليل والقسوة حولت الإنسان الفرد إلى صفة أيا كانت”. هكذا يقول عبد الحكيم قاسم في رسالته إلى إدوارد الخراط. أعرف إنه من الممل أن نكرر إن“كتابات نوبة الحراسة” أو رسائل عبد الحكيم قاسم” الذي أعده وقدمه محمد شعير(وللحديث عنه وقت) هو واحد من أهم الكتب التي صدرت مؤخرا..لكنه بالفعل كذلك. ليس فقط لكونه سيرة الضعف/الإنسانية الخاصة بعبد الحكيم قاسم ،روايته على الأرض،أو لأنه يكشف الجو الذي جايله الستينات-لا أهتم!!- ،لكن لأنه –وهو ما يشبعني على المستوى الشخصي-محمل بكل هذا القلق،وكل تلك الجراءة على النمط،والانقلاب على الأمان الذي يعنى للبعض الحياة ويعنى لأبناء عبد الحكيم قاسم الموت،سيرة المهزومين بالغواية،فعبارة كتلك”أحب أن أعيش هزيمتي أمام استغلاق العالم على”،لا تبدو لهم غريبة الوقع،بل تبدو كحطب أشعله مسافر في جزيرة الثلج التي تحملنا. دفع قاسم ثمن خلوده تيها ونفيا اختياريا، وتقلبا من روح كلما وصلت إلى صفر الميزان كما يقول مولانا الرومي تمردت حتى على شريانها الرئيسي /الكتابة”أليس من الممكن أن يكون المرض نوعا من التمرد الداخلي على الكتابة ذاتها”. رسائل عبد الحكيم قاسم،صانها شعير،عندما لم يتدخل ألا بدراسة صغيرة مميزة في البداية،وتركنا لنص مفتوح،رتبت رسائله بيد ناعمة وهشة،لتسمح لنا للبدء فيه من أي نقطة وصولا إلى أي نقطة،تاركا لنا فرصة اللعب باحتمالات الفك وإعادة التركيب،احتمالات تروى مئات القصص لسيرة التيه. *** ترتيب شعير للرسائل، ،يحكى رواية بين نقطتين،من صفر التجربة”لقد فتح لي أبى لي هذا العالم لأهرب فيه”،إلى صفر الراحة من هزيمة لبدء تجربة جديدة”كان وقتا طويلا في برلين،مرحلة تؤذن الآن بنهايتها لتبدأ مرحلة أخرى،وها أنذا أطوى الخيشة وأجمع أشيائي وأمشى”. اسم عبد الحكيم قاسم،لنا..مواليد الثمانينات(لا أعمم طبعا)..علامة رهبة،ربما رنين الاسم،أو تلك السحرية التي تغلف عنوان”أيام الإنسان السبعة” والتي قرأناها مبكرا جدا،عندما كنا نبحث عن الأسماء التي لم تذكرها مؤسسة الاستبداد الأولى”المدرسة”..ونسيناها مبكرا أيضا..ما تبقى منها في ذاكرتنا،اتسم كأساطير الطفولة بالامتنان ناحيته،حتى ولو لم نتثبت مما نتذكره. لم أقرأ له –وأظن كثيرون- سوى “أيام الإنسان السبعة” وبعيدا عن مرثية الكاتب الذي لم ينصف حيا وميتا(فلم يأخذ أحد انتباهنا وأذهاننا قدر كتاب الستينات)سيساعدني ذلك على التخفف من حمل الرهبة،المقرونة باسمه ،نقلل من الظل الجاثم لهويته ككاتب،وأظلله بهوية أكثر إنسانية،تمثلنا :هوية”التيه” وأثر” التجربة” والبحث عن ذات يقلقها النمط..لأراه أقرب وأوضح. فهو لو تحدث ربما دعم منطقي كما قال “لقد رسمت في ذهن الناس في الحياة الثقافية في القاهرة،ككاتب وموظف في المعاشات،أو موظف وموهوب،بعض الناس يحاول كتابة مرثية وأنا حي فيقول أنه لن يستطيع شيئا بعد الرواية الأولى،مع إن “البيع والشراء”أعظم من الموت والحياة” عمل كبير،لكن منطق الصورة(الموظف الموهوب) يقتضى أن تموت هذه الموهبة نتيجة للظلم،حتى تصير المأساة حكاية تحكى،وكان لابد أن اقفز فوق ظهر هذه القصة وامسكها من قرونها،حتى لا تنطحني أنا”. لنا،قدرة سريعة على التنميط،واستهلاك البشر والكتاب في علب محفوظة على رفوف سوبر ماركت الثقافة،والاستسلام لمنطق يضع الأسوار الأسمنتية والمكهربة بين الأجناس الأدبية والفنية،بل والصفات البشرية،خرائطنا الجينية المتداخلة حد التعقيد،تتحول إلى صفة واحدة مسطحة ومضخمة وكارتونية،لتنفى عن الإنسان إنسانيته وتحوله إلى “صفة”،ألهذا ظلت الرسائل فنا من الدرجة الثانية،لا يرقى لقدسية الشكل المصبوب سلفا كالرواية والقصة،واستبعدت من ناموس العظمة وذاكرة الجمع العربي؟!. عن خريطة الذات يبحث قاسم مسافرا من “أم الدنيا” إلى “آخر الدنيا”:برلين،متعته الطريق لا الوصول،لا ليكتشف تلك الخريطة،بل ليمحوها،ويرسم خريطة أخرى،واعيا بالهرب من سلطة بصر الناس،المستبدة والمتعجلة والقاصرة بالضرورة. “لكنني خرقت الناموس،وطرت،أذللت المسافة بالعزم،أتيت إلى برلين،خلعت ثيابي على بوابتها،أدارى عورتي بيدي،برلين دثريني،ضميني إليك،وكاف الإعراض،والوحدة المريرة في الليالي عرفت عذاب الثعبان إذ يخلع جلده ويَكّن حتى يستنبت له جلد جديد”. *** معرفة تحيل على لا معرفة،في دائرة،فيما نرغب في كتابة تحيل على اللات كتابة،تواجهنا أختام الإكليشهات،التي تحاصر مصريتنا،التي كلسها الزمن،بفعل استسلامها ربما لسلطة المؤسسات،مؤسسات الأخلاق والدين والعسكر،التي نحيا في ظلها بازدواجية المشي على الحبال،تختمر الهوية برعاية نفاق يغذيه الاستبداد،نعيد تمثيله في تفاصيلنا العادية. هوة واسعة،يحاربها الكتبة في مواجهة الكتبة، الذين يعيدون تكرار سيرة الكاتب الكاهن،معيد النمط،وحارسه، في فرعونية تبدو سرمدية ولا فكاك منها،هوة نغرق فيها وتمنحنا المادة اللازمة لممارسة الفضح،متحاشيين نظرات الكاتب الكاهن،المقرفصفيى مواجهة حركة الحياة الدائبة،لدينا الكثير لنفضح زيف الأخلاق،الاحترام،لنخترق التزام الأدب. “كانت الكتابة قد أصبحت شيئا عسيرا، أصبحت اللغة عندي عبئا على التجربة، أعرف هذا وحدي، ولا يمكنني الخلاص منه”،يقول قاسم. تحفل رسائل قاسم،بهذا النقاش ،والجدال حول الكتابة،نقاش يدفع لأمام دائم،ويتغذى من تناقضاته،يتطور،يتخلص من إكليشيهه”كثير من معرفة الإنسان بالحياة يضغطها خوفه من الكبار أو من السلطة أو غير ذلك”. ويقول أيضا:”السلطة في عالمنا العربي،وسادتها الخوف،والمثقفون أكثر الناس مهانة في عالمنا،والواحد منهم يريد أن يثير رعبا فيما حوله عله يصل إلى شىء من السلطة”. سلطة تزيح السلطة،أخلاق تقتل باسم الأخلاق،حتى في اللغة،نهرب من رائحتنا ،العامية،ويعتبرها البعض-ليس غريبا أن تمتد تلك النظرة من ستينات القرن الماضى إلى ما بعد الألفية الجديدة-لتظل مستقرة بأمر الكاهن المصرى في دلالتى كلمة”اللفظ” والتي تعنى النطق والرفض في آن”،ونعتبر شيوعها جريمة ومخطط استعمارى لقتل هويتنا !! يقول صاحب”محاولة للخروج“:ورغم إن الشعر العامى في مصر قديم جدا،رغم هذا نجد أن الأعمال النقدية والتنظير والترشيد والتنبوء،كل هذا فقير فقرا مدقعا.قيل ان مفهوم اللغة العامية حتى الآن لم يتناول تناولا علميا حقيقيا،وليس فيه سوى رسائل دكتوراة مضجرة تتكلم عن العامية كدسيسة من الاستعمار لمحاربة القرآن الكريم،وإذا كان الأمر كذلك فإن حركة الشعر العامى،تأخذ شكل التجميع الحرفى،ولم تتحول إلى تيار يخصب ثقافتنا وخيالنا الفنى”. ثقافة محو؟! لصالح ثقافة رسوخ؟،كل ما اتصل برضا الكاتب الكاهن والمقرفص في مواجهة الحياة..ثقافة”قرفصة”!!. ربما توقف عبد الحكيم قاسم عن الحياة عندما تحول بعد عودته للجبهة الأكثر تشددا والتي تصر على كتابة التليفون”مسرة”..ارهقته محاولات الخروج. *** على سبيل التندر والغمز،لا على سبيل العظة نحمل قراءة قاسم للأبنودى: “شىء في الأبنودى أقوله لك،وأنت تعرف ذلك هو حبه الشديد للشهرة وللمال وللتقرب من السلطة ولا ألومه كثيرا،فالوجاهة في مجتمعنا ليست من نصيب الفنان مهما كان ابداعه،إلا إذا اضافت السلطة من لدنها شيئا”. ثم نعود ونذكر على سبيل التعجب من الحدس وتثبته”غنوة” الأيام: “وأنا في الحقيقة بينى وبين نفسى ابتسم،إن الأبنودى ريفى ماكر وهو فنان حقيقى وهو في ظنى على قدر من الموهبة اكبر من ضعفه،بل قادر على تجاوز هذا الضعف وأن يحقق شيئا”. وعلى سبيل استخلاص حكمة “مقرفصة” اقول انا:الناجون،الباقون للنهاية ليقصوا الحكاية علينا،بقوا بقدر الرضوخ وبآلية التحايل الماكر والضرورى للأسف،أما السلطة فلازالت تدهس وتهمش ولازال التنفس صعبا خارج المتن،حيث الحياة افتراضية،فيما تزداد الهوة اتساعا. *** لم يصل قاسم إلى شيء. بروفيل : محمد شعير،صحفي مصري من مواليد 1974،ويعد من أهم أسماء الصحافة الثقافية في مصر والعالم العربي،عبر صحيفتي أخبار الأدب والأخبار اللبنانية يطل بيقظة على المشهد الثقافي،مهموما بأسئلته وتناقضاته فاضحا من وقت إلى آخر جدل مثقفيه الدائم على “لا شيء”،يكتب للصحافة بلغة طازجة،لا يكتب القصة أو الرواية وهو أمر نادر في محيط الصحافة الثقافية. لا عجب أن يختار شعير عبد الحكيم قاسم،فثمة مشترك،بينهما حول سؤال الوقوع بين هويتين،شعير من مواليد قنا،بين ثقافة مغلقة وثقافة منفتحة تحمل أرق تمردها،يجوب شعير مع سلالة التمرد،فكرة الشيطان البراقة. قدم شعير دراسة مميزة للرسائل في مقدمة الكتاب،تغنى بشدة عن قراءة ذلك المقال. يمكن الإضافة،انه يجمع بين ضحكة الطفل وفضوله ،صفتان مناسبتان لصحفي مهموم بالأدب ،حاز جائزة دبي للصحافة مرتين،وجائزة نقابة الصحفيين. أحمد الفخراني.