ولعها بقراءة التاريخ كان منبع الشغف بالبحث في المسكوت عنه في تاريخنا العربي التي تراه الكاتبة والأديبة سلوي بكر مليئًا بالفواصل والمسافات الفارغة، والتي تحتاج إلى من يملؤها، وفي نفس الوقت تقول إنها لا تكتب رواية تاريخية، ولكنها تكتب رواية عن التاريخ بأحداثه المرتبطة بالحاضر. ولم تنسَ صاحبة البشموري أنها امرأة؛ فدائمًا ما تنحاز في أعمالها إلى النساء المهمشات؛ باحثة عن العدل الإنساني والحقيقة الإنسانية. حول تجربتها الروائية كان هذا الحوار.. - "رواية البشموري" تهتم بمشهد مصر الثقافي في العصر الوسيط، خاصة مع المسلمة الناطقة بالعربية القديمة، والتي احتوت كل هذه التلاوين وطوعتها، في رأيك هل سيتغير هذا الوجه الثقافي والإبداعي لمصر، خاصة مع مخاوف المبدعين؟ مصر ليست لقمة يسهل ابتلاعها ، مصر دولة عميقة وتاريخها ممتد، بها تنوع ثقافي غني؛ لذلك فالأمر ليس بهذه البساطة، ولكن هذه الثورة جاءت بآمال كبيرة في التغيير. الآن نحن نتحدث عن مخاوف وتراجع لا نتحدث عن تقدم، هذه هي المشكلة. مصر أغنى ما فيها هم البشر رغم الفقر والاستبداد السياسي ورغم كل شيء؛ لذلك هؤلاء البشر القادرون على كل هذا التنوع الثقافي والحضاري من الصعب إفناؤهم وإنهاؤهم، نعم هناك الكثير من المخاوف، ولكن يجب ألا تحجب عنا ما هو موجود على أرض الواقع من تنوع ثقافي وقدرة بلا حدود على أن نكون مختلفين. مصر دولة قديمة وهي بوتقة لثقافات وحضارات مختلفة، وهذه البوتقة ما زالت تفعل مفعولها؛ لأن الشعلة ما زالت موجودة، ورواية البشموري كانت تتحدث عن هذه البوتقة، وربما هذا ما جعل من الرواية نصًّا صعبًا؛ لأن هذه الفترة التي تتحدث عنها الرواية كانت بها الكثير من اللغات في العصر الوسيط في مصر، مثل "السريانية- اليونانية – القبطية"؛ ولذلك جاءت الرواية صعبة؛ لأنني حاولت أن أحاكي لغة العصور الوسطى؛ حتى تكون الشخصيات مقنعة؛ ولذلك عانيت معاناة لذيذة عندما بدأت في كتابة البشموري. - لماذا تحبين دائمًا كتابة الرواية التاريخية، رغم الواقع المصري المليء بالأحداث التي تصلح للكتابة الروائية؟ أولاً أنا لا أكتب رواية تاريخية، ولكني أكتب رواية عن التاريخ، رواية تتساءل حول موضوعات التاريخ وأحداثه، أما الرواية التاريخية هي التي تعيد إنتاج أحداث التاريخ وتجسده روائيًّا. أنا لا يعنيني هذا، أما الأمر الذي يعنيني فهو النظر في هذه الأحداث والتعامل معها وإعادة الأسئلة حولها، ونحن شعوب نمتلك تاريخًا غنيًّا بشكل غير محدود كمصريين وعرب، لدينا تاريخ غني وشائك ومليء بالتناقضات والتراجيديا؛ ولذلك فهو مادة غنية جدًّا للكتابة الروائية، وأهمية هذا التاريخ وإعادة النظر فيه تأتي من أننا نصل الماضي بالحاضر؛ لأن أسئلة الحاضر مشتبكة إلى حد كبير جدًّا مع أسئلة الماضي، ولذلك أجد أن من مهمات الرواية التاريخية الحديثة في العالم العربي الكتابة عن التاريخ، فإذا كنا نريد أن نعرف المستقبل، فعلينا النظر للماضي. - وما هي حدود الخيال والواقع عند كتابتك للرواية التاريخية؟ مهمة الكتابة الروائية عن التاريخ هي كتابة ما لم يكتبه التاريخ من خلال التخييل، فمثلاً عندما انتحرت كليوباترا، عرفنا الوقائع من خلال التاريخ، ولكن المشهد الأخير لها لم يذكره التاريخ، وهذا المشهد يطرح لدي كاتب الرواية التاريخية العديد من التساؤلات، مثلاً "ما التعبيرات التي ارتسمت علي وجهها؟ ما هي الكلمات التي نطقت بها؟ ماذا كانت ترتدي؟ على أي مقعد أو سرير كانت تتكئ؟ كل هذا تم تخيله من خلال لوحات فنية كثيرة لدى فنانين تشكيليين عاشوا في عصر النهضة أو ما قبل عصر النهضة. أما الكاتب الروائي عندما يكتب هذا المشهد فهو يقوم بعملية تخييل وإيجاد متخيل لهذا المشهد، ولكن هناك مشاهد أيضًا يهتم الكاتب بتصورها وهي ربما لم تحدث على الإطلاق. التاريخ مليء بالفواصل والنقاط والمسافات الفارغة، وعلى الروائي أيضًا، وعلى من يكتب أن يملأها. ويستطيع الروائي أن ينشئ علاقة، وأن يبني معمارًا روائيًّا على ضوء معمار حوادث التاريخ التي رصدها المؤرخ. - "كوكو سودان كباشي" كانت تتحدث عن المسكوت عنه تاريخيًّا، أي المصادر التي استندت عليها عند كتابتك لهذه الرواية؟ هذه الرواية حلقة من حلقات تاريخ العبودية في العالم، كنا نقرأ عن حملة مصر على المكسيك تحت عنوان "بطولة الجيش المصري في المكسيك"، وعندما قرأت كتاب الأمير عمر طوسون عن هذه الحملة، اكتشفت أنها جزء من تاريخ العبودية في العالم؛ لأن الجيش الذي حارب في المكسيك لم يكن مصريًّا، بل كان من الجنود السودانيين الذين تم اصطيادهم كعبيد من منطقة النوبة في جنوب السودان، وهي قصة مأساوية تراجيدية ووثيقة تدين السلطة المصرية آنذاك. وهذه الرواية تأثرت بها جدًّا، وتأكدت أن التاريخ لا يرحم أحدًا. - ما رأيك في مصطلح الأدب النسوي؟ وهل استطاع أن يعبر عن عالم المرأة بتفاصيله الدقيقة وأبعاده الواسعة؟ هذه القضية تم استهلاكها بشكل كبير في الصحافة الأدبية عمومًا، وتم التعامل معها باستخفاف، بمعنى أن هناك إشكاليات حقيقية في العالم العربي كله خاصة بالمرأة، وهذه الإشكاليات نتاج تركة وإرث تاريخيين طويلين وممتدين، وهذه الإشكاليات بحاجة إلى تعبير من نوع خاص، أحيانًا تمتلك المرأة القدرة على هذا التعبير لسبب نوعي يتعلق بكونها امرأة. المرأة عليها أن تبتدع طرائق إبداعية وقاموسًا لغويًّا يلاءم هذه الإشكاليات. وبشكل عام المرأة التي كتبت لم تستطع أن تعبر عن عالمها بتفاصيله الدقيقة؛ لأن المرأة عندما كتبت نسجت على منوال الرجل، ولم يكن لديها إرث من الكتابة الأدبية تستند عليه، فذهبت إلى إرث الرجل ومرجعيات الرجل؛ فهي ترى العالم دائمًا بعين الرجل وقيمه وأخلاقه؛ ولذلك لا توجد كتابة من منظور المرأة. وهذا الأمر لم يقتصر علي الكتابة النسائية في العالم العربي فقط، بل في العالم كله. مثلاً "إيزابيل الليندي" تقدم المرأة على أنها طرف في الفعل الإنساني، فالمرأة في العالم كله دخلت عالم الكتابة الأدبية متأخرة إلى حد ما عن الرجل. - وهل استطاعت المرأة العربية حسم الصراع بينها كذات وبين المجتمع، خاصة فيما يتعلق بقضية الحرية؟ إشكالية المرأة والمجتمع هي مسألة شديدة التعقيد. المشكلة تتلخص في التركة التاريخية الطويلة جدًّا، وهذه التركة تختصر المرأة في وظيفتي"الحمل والإنجاب" والحفاظ على الحياة، أما إنتاج العالم فهي وظيفة الرجل، وهذه تركة تمتد إلى العصر الأمومي؛ ولذلك تجدين أن كل الآلهة القديمة كانت من النساء. والمجتمع الذكوري الأبوي يرى المرأة موضوعًا والمرأة ترى أنها كائن له الحق في الدخول إلى منطقة صناعة العالم، من هنا كان الصراع الذي يتبدى في حرية المرأة، وحتى الآن لم تفلح المرأة العربية في حسمه؛ لأنها لم تعرف ذاتها جيدًا وعلاقتها بالعالم. - ولماذا يقبل الغرب على ترجمة الكتابات النسائية للكاتبات العرب، وخاصة التي تتحدث عن العلاقة بين الرجل والمرأة ؟ الترجمة مسألة معقدة جدًّا، ولها دوافع كثيرة، ولكن لا شك أن هذا الغرب الذي يرى المرأة المغلفة في الأغلفة السوداء والتي تتحرك كالقطيع، هذه المرأة هم يرغبون في معرفتها مثلما يرغبون في معرفة المجتمعات العربية كلها. والعلاقة بين الرجل والمرأة منطقة تشغلهم بالفعل، والأمر لا يقتصر على الكاتبات العرب فقط، فجزء من شهرة إيزابيل الليندي الكبيرة أنها تكتب عن العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأن هذا هو عالم المرأة الثري. - لماذا تهاجمين الكتابة الذاتية بشدة رغم أنها شكلت اتجاهًا روائيًّا خاصًّا بكتابات الشباب؟ أنا لا أهاجم الكتابات الذاتية، ولكني أهاجم الكتابة التي لا تربط الذات بالعالم ولا تضع الذات في سياق، وإذا انفصلت الذات عن العالم، فما الذي يمس القارئ هنا؟ كما أن هذه الكتابات كثيرًا ما تكون كاذبة وتجمل الذات ولا تكشف عن حقيقيتها وتبالغ في إيجابياتها، وأنا أكره هذا في الكتابة، وأرغب في أن أرى الحقيقة الإنسانية من خلال الكتابة الروائية والإبداعية بشكل عام. في الغرب مثلاً تجدين أن هناك كتابة عظيمة جدًّا عن الذات ومن خلال هذه الكتابة تعرفين العالم والتجربة الإنسانية من خلال الذات المتصلة بالعالم؛ ولذلك أنتقد هذا النوع من الكتابة بقدر ما تكون مفتعلة ومنحصرة ولا تمس ذواتًا إنسانية أخرى. وأرى أيضًا أن هذه الظاهرة كانت مفتعلة وبفعل فاعل، وهو الناقد الأدبي الذي ضلل الشباب، وقلل من شأن مواهبهم ووضعهم في هذا الحيز الضيق. انظري إلى الأعمال الأدبية التي تحصل على الجوائز الكبرى في العالم تجدين أنها تكتب عن عوالم ذاتية مشتبكة مع العالم الآخر، مثلاً كاتبة البيانو النمساوية التي حصلت على جائزة نوبل، انظري كيف انتقدت المجتمع الذي تعيش فيه رغم أنها تحدثت عن تجربتها. ولكني أرى أن هذه الظاهرة ستنحصر في الفترة المقبلة؛ بسبب ما أسمية تغير الذائقة لدى المتلقي. - كيف تقيمين دور النخبة الثقافية في مصر ودورها في التغيير؟ المشكلة أن قيم النخبة الثقافية في مصر لا تختلف عن قيم الإسلاميين وخاصة في موضوع المرأة، فالقيم المتعلقة بالمرأة لدى النخبة الثقافية لا تختلف عنها عند الإسلاميين؛ لأن المنظومة الثقافية والفكرية المتعلقة بالمرأة والتي أوجدت هذه التيارات الدينية أو المتمسحة في الدين هي نفسها المنظومة التي أنتجت من ينتمون إلى التيار المدني. انظري إلى جماعة المثقفين وعلاقتها بالمرأة، هي لا تسمح للنساء بالاقتراب من أي مواقع لاتخاذ القرار. انظري إلى الإعلام قد تكون المرأة محاورة مثلاً، ولكن أين رأي النساء وفكرهن؟ فالتيار المدني أيضًا ينظر للمرأة على أنها مفعول به فقط، والحل يتمثل في قيام النساء الواعيات بتشكيل تيار حقيقي للدفاع عن حقوقهن وحرياتهن ومحاولة تكريسهن في صناعة العالم وليس صناعة الحياة. - ترجمة أعمالك إلى لغات عدة، ماذا يعني بالسنبة لك؟ ترجمة أعمالي هي اختبار لنصي الأدبي في لغات أخرى وثقافة أخرى. فوصول نصي إلى ثقافات أخرى يعني أنني أكتب كتابة إنسانية، فبعد ترجمة رواية "أرانب"، وجاء لي شاب إيطالي، وقال لي "بطل الرواية هو أنا ومعاناته هي معاناتي"، كنت سعيدة جدًّا بذلك. فالنص الذي يترجم يختبر في ثقافة أخرى، وتختبر قدرته على تجاوز الحدود الثقافية إلى ما هو إنساني بشكل عام. - من النساء الرائدات من وجهة نظرك؟ السيدة الرائدة ليست فقط من تعتلي المنصات للحديث عن حقوق المرأة السياسية مثلاً، ولكني أرى أن الرائدة هي من قدمت جملة وقامت بخطوة دفعت المجتمع إلى الأمام؛ ولذلك أرى أن نبوية موسي امرأة عظيمة؛ فهي أول امرأة قامت بإنشاء مدارس ثانوية للبنات، وعاشت حياة تراجيدية جدًّا، فهي امرأة في أوائل القرن العشرين فصلت من وزارة التربية والتعليم لأنها قبيحة لا تصلح للتدريس، أنت لا تعلمين خطورة هذا الأمر في مطلع القرن عندما كانت المرأة إما جارية أو بنت ذوات ولا يوجد وسط. قامت هذه السيدة برفع قضية على وزارة التربية والتعليم، وقالت للقاضي "لو أنا قبيحة أنت أيضًا قبيح ولا تصلح أن تكون قاضيًا"، فحكم القاضي بعودتها إلى المدرسة، وبعد عودتها باعت عقد السلطان حسين، وكان قد أهداه لها بعد زيارته للمدارس، ودفعت ثمنه في إنشاء مدارس الأشراف للبنات. أيضًا أرى أن قوت القلوب الدمرداشية هي رائدة بامتياز عندما كتبت رواية "رمزة" باللغة الفرنسية، وقدمت تجربة لامرأة ممتازة. الأدب النسائي تم التعامل معه باستخفاف أرغب في أن أرى الحقيقة الإنسانية من خلال الكتابة