من لم يمت بالهوان والفقر.. مات من أهوال العبث المُبعثر في كل أركان وحشايا النظم العربية الحاكمة ككل. لا تكاد تمر فترة النقاهة من أثر الصدمات المفاجئة لما يحدث داخل الحيز العربي، حتى تجد رأسك مخترقاً بقذيفة جديدة تُعيدك ممداً علي سرير المرض لا تطلب سوى الموت والراحة بعد العجز التام عن فهم وإدراك وتفسير الحكمة المخفية لحكامنا العرب.
لا أُحبذ الإفراط في السخرية إذا ما تعلق الأمر بحدث جلل له صلة وثيقة بمستقبل مصر والأمة العربية علي السواء، خاصة مع جسامة الخطر القادم الذي سيُضاعف من تقهقرنا، ويرسح أكثر لتبعيتنا، علي حساب تثبيت أركان مشروع الهيمنة الصهيونية، والذي امتدت أذرعه داخل البيت العربي حتي صار له حلفاء ومناصرين، وقد بالغ بعضهم في تأييد الكيان الصهيوني إلي حد التآخي معه ضد عدو واحد هو إيران.
يبدو أن ما يدور في الخفاء بين حكامنا العرب والكيان الصهيوني عميق ومتجانس للغاية، فما تُظهره الوجوه والسياسات المُعلنة بينهما ليس متصادماً أو متعارضاً أبداً، ولا شك أن هذه الانسيابية في العلاقات باتت تثير ريبة المواطن العربي، وأول سؤال متشكك يتبادر إلي ذهنه هو: ألا تُخفي تلك النعومة بين حكامنا وآل صهيون كارثة محققة اسمها "صفقة القرن"؟.
أصبح في الفم ماء مما يُتداول جهراً باسم "الصفقة" التي تسربت بعض تفاصيلها بين أوراق وعلي لسان مسئولين غربيين وصهاينة وعرب، وقد تضمن بعضها معلومات عن خطط صهيونية تبدو خيالية وغير مقبولة التحقق نظرياً، لكنها عملياً تكاد تكون متطابقة مع ما يجري التحضير له علي الأرض منذ فترة نحو تحقيق الحلم الصهيوني بأن تكون تل أبيب هي صاحبة النفوذ والسيطرة والسطوة علي الجميع.
ليس في أمتنا العربية رجل رشيد يُصدقنا القول حول مسارات تلك الصفقة.. من أين ستبدأ وأين ستنتهي؟ حجم الضغوط والأصابع الخارجية؟.. فما زالت الرؤية غائمة رغم تكرار اسم الصفقة علي لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي، ونفيه التام بعدها لما تواتر مثل ما جاء بتقرير مستشار الأمن القومي الصهيوني السابق وأحد صناع القرار في تل أبيب "جيورا أيلاند"، وتضمن ترتيبات جيوغرافية وسياسية اقتصادية للمنطقة برمتها، وأشار فيه إلي حتمية مشاركة ال22 دولة عربية في الصراع الفلسطيني، زاعماً أن الحل ليس في يد تل أبيب وحدها.
يقضي التقرير بإيجاز إلي اقتطاع 720 كم مربع من أراضي شمال سيناء لتوطين أهالي غزة، مقابل تنازل تل أبيب عن مساحة مماثلة من أراضي النقب لمصر، إلي جانب ضم 12% من الضفة الغربية للحكومة الصهيونية، وتفاصيل أخري عديدة تضمن تصفية قرار حل الدولتين من جذوره، مع حصول مصر والأردن بصفة خاصة علي مكاسب واستثمارات ضخمة، وكأنها أشبه بهدية ثمينة في انتظارهما نظير الموافقة علي التقسيم الجديد للمنطقة.
كل ما تم ذكره ليس سبقاً ولا انفراداً صحفياً، لكن الواقع الذي افترضته "الصفقة المشئومة" بات ماثلاً لمن يريد أن يتأمله، فاللعبة التي اخترعها الغرب بتغيير موازين القوة لتصب كلها في مصلحة تقوية النفوذ الإقليمي للعدو الصهيوني، لم تعد مجرد دمية بل أكثر من حقيقة.. فالعدو الذي يزداد قرباً والتصاقاً بالحكام العرب، وتٌلتقط معه الصور دون استحياء، ونتبادل معه النكات أحياناً، ونزوره علناً ونتفاوض معه سراً، صار وكأنه من أهل الدار، وفي لحظة ما حين تتعانق وتتشابك المصالح أكثر، ويصبح الفكاك منها مستحيلاً، سيجمع القائد الصهيوني لاعبيه العرب تحت مظلته ورعايته وتوجيهاته، للانطلاق معاً يد واحدة ضد العدو الذي يهدد مصائرهم.. "الخطر الإيراني".
التفاصيل كثيرة ومُخيفة بما يفوق خيال أي مواطن عربي، ولعل أهم ما تعلمناه من تاريخنا أن نُصدق ما ينقله الغرب إذا ما واجهناه بما يقوله الحكام العرب، وتؤكد صفقة الغاز الأخيرة مع إسرائيل أننا ماضون في طريق "عملقة" تل أبيب و"تقزيم" كل ما هو عربي.. هم قطعاً سيحدثونك عن مكاسب الصفقة وفوائدها وخيراتها وبأننا نجحنا في إصابة الهدف ببراعة، ولكن أولاً أجب عن هذين السؤالين الإجباريين: هل ما زلت حقاً تصدقهم؟ وهل صادف يوماً أن صدقوا معك؟.
قال "النتن ياهو" بانتشاء مستفز إن صفقة الغاز مع مصر "تاريخية"، وكانت ملامحه تشي بالنصر حين ردد: "هو يوم عيد".. للأسف الشديد أميل إلي تصديق هذا "الكاذب" لأنه يستطيع خداعنا بسهولة لكنه لا يجرؤ علي أن يكذب أمام شعبه خوفاً من يوم الحساب.. أما نحن فالحقائق دائماً ما يتم دسها وإخفاءها بحجة أنه لا شأن لنا بها، ولا يقدمون لنا إلا مائدة كبيرة مليئة بالأحاديث المتضاربة والمُضللة، وهذا ما يُجبرني مُكرهاً للقول من وحي خبرتي الطويلة في عالمنا العربي: "لو كنا فعلاً جبنا جووون.. يبقي أكيد هما جابوا دستة"!