و أزاحنى شيخى حتى حافة السؤال، و كان عابثا ووجهه يحمل تعابير متباينة، كأنما الشىء و ضده، و رمى حجرا من يده؛ قال: اضرب مثلا لما جرى. كنت أظن أنه فى حالته هذه سوف يرتجز بعضا من حكمه، لكنه قال زاجرا قبل أن استرسل فى خيالاتى: قل ماذا ترى؟ و لما كنت أعرف بعضا من مراوغاته، صمتُ. و لم يكن صمتى لينجينى من حبائله، أو شراكه التى يمهد لها بإحكام متناه فأقع فيها دون انتباه أو تدبر. صمتى الآن هو كى أتدبر حدود ما طلب و لا أزيد، ربما مراوغة منى للتنصل من سؤاله، أو لتمديد الوقت كى يفصل ما أراد؛ قال: فصل ولا تزد... فقط ...كأنما... . و انتظرتُ أن يكمل فما كان منه إلا أن استوى على صخرة و أغمض عينه، فعرفتُ أنه أنهى كلامه و علىَّ أن أبدأ. و خطوت خطوة مداريا بها وجلى و ارتباكى، و تمثلت ما جرى فى خيالى، فرأيتنا فى كهف عميق، جماعات متفرقين، رغم كوننا متداخلين، و الكهف يحيط بنا من كل جانب أسواره عالية، منيعة تبدو، أو هكذا تبدو، لم نكن نحن بالتأكيد من فكر فى اللجوء للكهف، أو بناء أسواره، لكننا و بإصرار فاضح شاركنا فى تعلية أحجاره، و جعل السور من الضخامة التى تنوء العصبة أولى القوة بالإطاحة بها، أو حتى التفكير فى هدمها، كانت الأسوار هدفها حمايتنا، مما؟ الآن أتدبر فلا أدرك أى حماية كنا نقصد، لكن الحماية كانت الطعم البراق، لكنها – الأسوار- دونما ندرى حجبت عنا الشمس، النور؛ و مع الأيام أعتدنا الظلمة، حتى صرنا لا ندرك أنها ظلمة، و كأنما صارت الدنيا نحن فقط، نحن المنعزلين، المعزولين، و لا شىء خارج الكهف. هل للكهف باب؟ تساءلت، فمع الرغبة الضارية فى إقامة جدران الكهف المنيعة نسينا أمر الباب، المنفذ، و أقمنا السور كاملا، لا باب و لا مفتاح، فما حاجتنا للمفاتيح إن لم يوجد ما تفتحه؛ الأهم أننا جميعا شاركنا، كلُ بجماعته، و بإخلاف القدر و حجم المشاركة، كنا نقيم أسوارا مزدوجة، السور الخارجى يخص الكهف بعمومه، و الثانى سور يحوط بكل جماعة؛ و كان منا، نعم للأسف، الآن أتذكر و بوضوح، من صرخ منذ البداية بخطورة الكهف و أسواره علينا، و حاولوا تأليبنا عليه، لكننا و بالعمى الكامل و الملازم للقطيعن أعرضنا عنهمن و تركناهم للحراس. حراس!! نعم ألم أقل أنه و منذ البداية يوجد حراس للكهف، كما لكل شىء حرس و عسس و عيون بيننا؛ تركنا أولئك النفر للحرس، فغاب منهم من غاب، و لم نعد نراه، أو حتى نهتم للسؤال عنه، و عن مصيره و مالذى جرى له؟ كيف أختفى و غاب بهذا الشكل أو ذاك. لكن بعضا من اولئك النفر لم يغب، أو يختفى، و إنما جرى ترقيته وسط جماعته، فعاد يزين للجماعة فضائل الكهف، و يعدد مزايا الأسوار، و ممجدا فى الحراس و أسيادهم، و قد صار هؤلاء قادة، كل لجماعته. جماعات، كنا نتوالد داخل الكهف، و ما نلبث ننضم لواحدة من الجماعات العديدة و المتفرقة بأرجاء الكهف، من أقصى يمينه لأقصى يساره، فقط عندما نجد لأقدامنا مواقع أكثر راحة من غيرها، و تكون فرص الترقى واعدة، كان الانضمام لجماعة ما يهبنا الخدر و الغرور بتوهم حماية مزعومة توفرها الجماعة لأفرادها، فما رأينا الجماعة ولا أفرادها يحركون ساكنا عندما يغيب فرد منها أو من غيرها من الجماعات، من يفترسه مرض، أو تنهشه عجلات الطريق، أو يضيع فى ظروف غامضة أو واضحة جلية، هنا يتكفل القادة منا بردنا لواقع الكهف و أمانه، فنتبادل الحقد و الكراهية ضد غيرنا من جماعات الكهف، و لا مانع من اتهامهم بأنهم هم وراء سوء أحوال الكهف و سبب ابتلائنا، فصار من يغرق أو يحرق أو يقتل غيلة لا يعنينا إلا بقدر انتماءه لجماعتنا، و كأن من قُتل أو حرق أو غرق أو دهس أو غيب يخص كهف آخرغيرنا؛ ربما روح العداوة هذه كانت تزداد مع الأيام و تنضج على مهل بين بسمات الحرس و تشجيعهم لنا على إظهار المزيد من العداوة و العنف. كنا نتزاوج و نتناكح و نتوالد فى ظلام الكهف، و فى ظلامه أيضا كنا نكبر و نهرم و نموت، عفوا، و لتسامحنى يا شيخى على نسيانى، أنه فى أوقات أسمارنا المظلمة بقلب الكهف، كنا نتذكر تلك الحكايات القديمة و الغامضة التى ينسبها الكثير للخرافات و الأساطير، حتى صارت طرفة أو حلما بعيدا، كانت أكثر الحكايات ترديدا و تكرارا و التى تثير فى نفوسنا الأسى و الشجن، و تجعل عيوننا تلمع ببريق غامض، تلك الحكايات التى تقول بوجود كنز هائل خارج أرض الكهف، و لا ينسى الحكائون على التأكيد بأن هذا الكنز يكفى الجميع، تقول الروايات بأن مكان الكنز خارج الكهف و على مبعدة منه، و لا يقدر واحد على وصف الكنز و الإحاطه بما يحويه؛ و فصلت بعض الروايات الصعوبات الجمة التى ستواجه الباحث و الطامح فى الكنز، بداية من زلاقة الأرض و المستنقعات الآسنة التى تنذر بشر مستطير، نهاية بالوحوش الضارية التى تحول دون الاقتراب من الكنز؛ و أعذرنى يا شيخى أن أغلب من غيبوا أو أختفوا كانوا يتحدثون عن الكنز ليس بإعتباره حكاية للتسلية، لكن كحقيقة واقعة، و كانوا يدللون كل الحكايا واقع، و الواقع يصير ذات يوم حكاية؛ لكن قادتنا الأشاوس تصدوا لحملة الأحلام المراوغة تلك، و قالوا أنها أساطير الأولين، و ذكرونا بالشمس القاسية التى تنتظر الخارج من الكهف لتبيده، و كيف أننا نحن أفلحنا فى بناء الكهف للتخلص من شر الشمس. كان كل قائد يواجه جماعته بحكاية مضادة لحكاية الكنز تللك، حكاية تتفق مع مفاهيم جماعته، و كنا يا شيخى نصمت، نتناوم،قليلا أو كثيرا، لكن حكاية الحلم، الكنز، صارت تطاردنا فى أحلامنا يا شيخى، البعض لم يحتمل، فراح يفكر فى طريقة للخروج من الكهف، فواجهه الكهف بلا باب و أسوار منيعة و حراس شداد غلاظ و صمتنا المريع. لكن فتية منا و قد ضاقت بهم أوضاع الكهف و فساد هواؤه و ركود الحياة القاحلة بداخله، تقدمت نحو جدار الكهف غير عابئة بالجدران الداخلية للجماعة، و كأنما نبتوا خارج تلك الأسوار، راحت للسور الخارجى المهيب و أخذت تدق بكل العنفوان و بكل الغضب، و رغم ضراوة الحراس و شراستهم و حجم الأسوار الخرافى و سقوط من سقط، إلا إن الإصرار على إنهاء الحياة داخل الكهف بدت واضحة، و لم تعد للقادة المحلين فائدة فقد داستهم الأقدام التى اندفعت تساعد الفتية، حتى انهار الجدار و تراجع الحراس مجللين بالخزى و المهانة، و أندفعنا نحو النور الذى عشى عيوننا، و تبينا فى ضباب الرؤية أننا لا نعرف بعضنا بعضا، و تدافع الناس و قد تذكروا حكاية الكنز القديمة، اندفعنا و عشى الضوء يفقدنا البصيرة، فسقطنا فى الأوحال و داس بعضنا بعضا، و نسينا تماما، يا شيخى، نسينا الحكمة بالحكاية: أن الكنز يكفى الجميع و يفيض.