شهد القرن الثالث عشر الميلادى استمرار الحملات التى استهدفت العالم الإسلامى من الشرق والغرب من جانب أعداء مختلفى المشارب، متعددى الأجناس، يجمعهم فقط الحقد على الدولة الإسلامية التى اتسعت وصارت دولاً عديدة يحارب بعضها بعضا، ويطحن قويها ضعيفها، ويتحالف ملوكها مع الأعداء ضد الأشقاء. فى الشام لم تضع موقعة حطين التى وقعت عام 1187 بقيادة الناصر صلاح الدين حداً للأطماع الصليبية وإن كانت دفعتها للخلف إلى حين، وفى بغداد يستولى التتار بسهولة على الأرض ويقتلون الخليفة العباسى، ويعصفون بكل من يقف فى طريقهم. وفى مصر كانت الأنواء تضرب الإقليم بعد نهاية ملوك بنى أيوب، والتتار يدقون الأبواب بعنف ويطلبون الاستسلام دون شرط. وفى مراكش تتصارع بقايا الدولة الموحدية مع الطامعين فى وراثة المملكة الضعيفة، ويقتتل الأشقاء وأبناء العمومة. وفى أفريقيا (تونس) تقوم دولة بنى حفص على أنقاض الموحدين. وفى الأندلس كان السقوط المروع لقرطبة ووقوعها فى يد فيرناندو الثالث ملك قشتالة، ثم بلنسية التى قاومت مقاومة الشرفاء، ثم استسلمت لأقدارها بعد تخلى الأشقاء عنها وانحيازهم للملك خايمى الأول ملك أراجون وإغلاق الأبواب والمعابر فى وجه سكانها ومنعهم من الفرار من المذابح، ثم بعد ذلك التنمر والاستعداد للانقضاض على إشبيلية ومناوشة غرناطة طول الوقت. والأمر الجدير بالذكر أن الضعف البادى على المسلمين فى الأندلس قد أغرى الملك خايمى فى ذروة فتوحاته بتجهيز حملة صليبية وأسطول بحرى خرج متوجهاً إلى الشرق لإعادة الاستيلاء على بيت المقدس، لكن العواصف حطمت معظم سفنه، فعدل عن مشروعه وسارت بضع سفن بها قوة من القطلان والأراجونيين وفرسان سنتياجو ووصلت إلى ثغر حيفا بالشام، وانضمت إلى من كان هناك من القوات الصليبية فى محاربة المسلمين. فى قرمونة كان قصر السلطان البيكيكى يمور بالغضب بعد أن فشلت الشرطة فى العثور على المطجن البصاص الذى لم يكتفِ بالهروب والإفلات من شمروخ قائد سجن الأدغم وجنوده، وإنما اعتصم بكهف مخيف يخشى الأبالسة المرور إلى جواره، ثم أخذ يهبط على المدينة وحده ويعيث فيها تخريباً أثناء الليل، يقتل ويسرق ويعود من حيث أتى دون أن ينجح أحد فى التصدى له. والغالب أن نجاح المطجن كان يعود إلى استماتته واستقتاله خوفاً من العودة للسجن، وهو الأمر الذى أمده بدهاء النماردة وقوة الشياطين، والسبب الآخر هو تخصيص قوة الشرطة بأكملها لحراسة البيكيكى وتنكيلها بالناس من أجل تحقيق هذه الغاية وإهمالها الفظيع لدورها الطبيعى فى حفظ أمن العباد وأرواحهم وممتلكاتهم، فكان الناس يدفعون الضرائب الظالمة التى فرضها عليهم الوزير بطرس كاساتا من أجل الإنفاق على العسكر وحماية فرد واحد فقط. ثم تأتى الطامة الكبرى وتختفى البندرية ابنة الكوارشى ويتم اختطافها من داخل القصر على يد رجل ملثم، وقد عجز حراس القصر الذين انتبهوا للأمر عن اللحاق بالخاطف الأثيم، ولم يخالج الجندرمة أى شك أن الخاطف هو السجين الهارب المطجن البصاص. وصل المطجن إلى كهف العفريت على مشارف الصباح بعد أن ظل يعدو طوال الليل بين المسالك والدروب المتعرجة حتى يضلل من يحاول اقتفاء أثره، وعندما دخل فى عمق الكهف كانت البندرية قد بدأت تفيق من غيبوبتها، ورأت رجلاً يحملها بهدوء ويضعها على الأرض ثم يصنع لها مهداً من الأغطية والوسائد ينقلها إليه، وقد كانت البندرية من شدة الذهول عاجزة عن الفهم وغير قادرة على مجرد الصراخ. كانت تتأمل ما يحدث وكأنها تشاهد حدثاً يخص غيرها، ولم تكن تستطيع أن تترجم ما تراه ولا أن تعلل سبب الوجود فى هذا المكان مع هذا الرجل الغريب قبيح الخلقة كريه الرائحة الذى يبدو وكأنه لم يستحم أبداً. وكان الظلام المحيط بالمكان يدهشها ولا يخيفها، وبذلت جهداً عنيفاً فى محاولة للفهم والتذكر. وبعد لحظات عادت إليها الذاكرة قاسية للغاية تحمل حقيقة ما حدث، وبرق فى ذهنها ما كان بالتفصيل، واسترجعت لحظاتها الأخيرة فى قصر أبيها بعد أن اقتحم حجرتها زائر غريب ووجّه إليها ضربة كانت آخر ما تذكره، عند هذا الحد انتابها رعب شديد وشعرت بالخوف يكاد يقتلها فأطلقت صرخة عالية فى وجه المطجن، وأخذت فى الابتعاد عنه وهى ترتعش، فى الوقت الذى وقف المطجن مرتبكاً متلعثماً يقول كلاماً غير مفهوم، ويحاول أن يطمئنها ويؤكد لها أنه يحبها ولا يمكن أن يفكر فى إيذائها، وفى الحقيقة لم يكن شكله يبعث على أى إحساس بالأمان، ولا كان المكان يسمح سوى بانطلاق الهواجس والإحساس بدنو الموت، فازداد صراخها وتردد صداه فى جنبات الكهف مما زاد فى رعبها، وكانت عيناها قد بدأتا تعتادان الظلام فى اللحظة التى مر فيها سرب من الخفافيش حف بوجهها طائراً الى خارج الكهف فسقطت مغشياً عليها من هول الصدمة. خرج المطجن البصاص وترك البندرية بعد أن اطمأن لنومها وغطاها فى حنان بالغ لا يتصور أحد وجوده عند كائن كهذا، ثم انطلق فى طريقه إلى المدينة حتى بلغ موضعاً قريباً من نهر تجاريتى حيث يقبع كنزه الغالى، فقام بربط الفرس وتسلل فى هدوء فلمح اثنين من العسس على البعد يحرسان موضعاً من النهر، فسار بحذاء النهر من جهة الغابة وأبصر حراسة منيعة موزعة على الضفتين على أمل الظفر به إذا حاول أن يعود لاستخراج الكنز.. وفى الحقيقة أنهم لم يكونوا متأكدين من حكاية الكنز هذه، وبدأت الشكوك تساور أبو الحسن المراكبى صاحب الشرطة، لكنه لم يجد بداً من التعلق بهذا الأمل إلى نهايته. كر المطجن عائداً إلى فرسه بعد أن رأى كنزه الثمين محاطاً بالعسكر، وقد أزمع أن يعود إليه بعد أن يدب اليأس فى نفوسهم ويبارحوا المكان. وبدأت ترد على خاطره أحلام وردية رأى فيها حياة جديدة تجمعه والجميلة التى صارت فى قبضة يده، وتمنى أن تصفح عنه وتقبل العيش معه فى بلاد بعيدة سيأخذها إليها برضاها أو عنوة بعد أن يستخرج الكنز ويصير من الأعيان مثل أبيها الكوارشى وأخيها همام. فى هذا الوقت كان همام فى سجن الأدغم حين بلغه الخبر فنزل عليه نزول الصاعقة وأحس بأنه هو السبب فيما حدث، فلم يستطع أن يسامح نفسه ولم لا؟ أليس هو الذى قرّب إليه هذا الذئب المفترس وأدخله بيته، واستأجره للثأر من حبيبته الغادرة وجعله يطمع فى مصاهرته، فلماذا يندهش حين ينقلب عليه الذئب وينشب مخالبه فى لحمه..هاجت مشاعر همام فأجهش فى البكاء وتمنى لو كان حراً طليقاً حتى يجدّ فى أثر المطجن ويقتله بيديه.. ثم تذكر أنه لا يستطيع أن يفعل هذا فتدارك أمنيته المستحيلة وتمنى لو كان خارج السجن حتى يستأجر بماله مجرماً عاتياً آخر يستطيع أن يواجه المطجن المتوحش القاسى عديم الضمير، ربيب أبو الحسن المراكبى قائد فرقة الجندرمة!