قد يبدو أن ملف تيران وصنافير منفصل عن الصراع الخليجي-الخليجي الذي وصل لذروته هذه الأيام بمحاصرة قطر؛ لكن في الصراعات الإقليمية والدولية لا يوجد انفصال في الملفات والقضايا التي قد تبدو بعيدة عن بعضها البعض، فلا يوجد قضية متفردة بذاتها وغير مؤثرة ولا تتأثر كذلك بمختلف القضايا والملفات، خاصة وأن الأزمة الأخيرة متعلقة بالصراع بين حلفاء الولاياتالمتحدة على وكالة سياساتها في المنطقة، وهو نفس السياق الذي تمت فيه صفقة ترسيم الحدود ومستقبلها في تحديد من يكون له اليد العليا في المنطقة على مستوى استراتيجي مدعوم بتغيرات جيوسياسية تقوي أحد أطراف الصراع على الوكالة الأميركية ويضعف الأخر. نقطة الانطلاق النظرية في هذه السردية ليست ببعيدة وكذلك نقطة تفعيلها على أرض الواقع؛ فالتغيرات التي حدثت في المنطقة وكذلك التغيرات الداخلية في الدول المؤثرة، من منظور جيوستراتيجي، مثل تركيا ومصر وإيران بعد غزو العراق ، بلورت حدية الصراع بين محاور إقليمية اصطفت على أساس التحدي والاستجابة؛ التحدي من القوى الصاعدة التي تبحث عن توسيع نفوذها على حساب قوى قديمة، تراوحت قوة استجابتها بين التسليم بالأمر الواقع ومحاولة احتواء القوى الجديدة أو المناورة من أجل البقاء أو على الأقل الانكماش لمستويات دنُيا تتعلق بالسيادة والنفوذ على مقياس قُطري محدد بحدود القُطر والدولة وليس نفوذ إقليمي تُرك للقوى الصاعدة أو التي تحاول اجتراح أسباب لاستمرار فعالياتها على مقياس إقليمي.. كل ذلك كان لا يخرج عن دائرة الصراع على الوكالة الأميركية إذا تعلق الأمر بكل من مصر والسعودية وقطروالإمارات، خاصة وفي الحيز الزمني الواقع بعد احتلال العراق 2003 وصولاً إلى انتفاضات 2011 ومسارات تحولها السلبية التي انتهت بظواهر مثل داعش. فيما احتفظت كل من أنقرة وطهران بموقع الندية تجاه علاقاتها بالقوى الدولية الكبرى وعلى رأسها واشنطن. هنا يوجد سؤال تفصيلي عن تدهور موقع مصر من كونها أحد مرتكزات القوة الثلاثة بواقع الجغرافيا والتاريخ والقوة العسكرية مع كل من تركياوإيران، إلى وقوعها في إطار تنافسي مع قطر والسعودية والإمارات على الوكالة الأميركية، وتدهور ذلك من تصدر القاهرة وقيادتها الإقليمية للسياسات الأميركية حتى غزو العراق، ثم الموائمة مع السعودية والإمارات لتشكيل محور "الاعتدال"، ثم انحدار أكثر جعل مصر في موقع تحدي واستجابة لتطلعات قطر والسعودية والإمارات في إطار الصراع على الوكالة الأميركية جعلها أحياناً كثيرة تتبع موقف "حلفائها" وخاصة السعودية في أمور تتعارض مع أمنها القومي وحيثيات قوتها الجيوسياسية مثلما كان الحال في التنازل عن جزيرتا تيران وصنافير. فبالنظر إلى تحولات الجغرافيا السياسية في البحر الأحمر وعلاقة القوى الإقليمية الكبرى به، أرادت السعودية موطئ استراتيجي لها في هذه البقعة الجغرافية تضمن بها استمرار دورها الوظيفي المستند على أهمية إستراتيجية تجعل دورها القيادي في الوكالة الأميركية فعال ومؤثر ويجعلها تحظى بدعم واشنطن بصفتها تحقق لامركزية تنفيذ المصالح الأميركية المتقاطعة مع مصالح حلفائها، وذلك استوجب تنازل مصر عن ركن مهم من أركان نفوذها الخارجي وأهميتها كقوة إقليمية، وهو الموقع الجغرافي والهيمنة الجيوستراتيجية على أحد أهم مضايق البحر الأحمر، الذي يوفر للسعودية مستقبلاً مجال مشترك حيوي مشترك مع إسرائيل لطالما سعت إليه تل أبيب وحققته الرياض بالضغط على مصر بورقة المساعدات وخشية القاهرة من فزاعة استمرار تحالف المملكة الطارئ مع الدوحةوأنقرة وما تبقى من نفوذ لجماعة الإخوان. الأمر السابق المتمثل في الصراع على وراثة نفوذ مصر الإقليمي بعد غزو العراق تمثل في امتداد تأثير تركياوقطر على ملفات إقليمية كانت تدار بقيادة وبوصلة مصرية مثل القضية الفلسطينية وقطاع غزة والعلاقات العربية الإسرائيلية، وذلك كمقدمة لإحلال نفوذ الدوحةوأنقرة محل نفوذ مصر وبالتوافق أيضاً مع المصالح الأميركية وتكاملاً معها. وتحول هذا الصراع على الوكالة الأميركية منذ بداية 2011 إلى مستوى جديد لم يكن فقط يستهدف نفوذ مصر ودورها الخارجي، ولكن إلحاق مصر بالمحور القطري التركي عن طريق وكيلهم المحلي، جماعة الإخوان المسلمين، وما عطل هذا المسار كان تحدي السعودية ومن خلفها الإمارات لهذا التمدد التركي-القطري على مستويات إقليمية، وهو ما تجلى في دعم كل من البلدين للإطاحة بحكم جماعة الإخوان ودعم منظومة ما بعد 3 يوليو 2011 بما في ذلك محاولة القاهرة استرجاع نفوذها الإقليمي الذي تراجع لأدنى مستوياته منذ 2011، مستنده في ذلك إلى دعم الإمارات والسعودية في محطتين رئيسيتين شهدهما عامي 2014 -2015، هما قصف تجمعات ومراكز الإرهاب في ليبيا والوساطة المصرية وحتميتها في حرب غزة ، والمحطتين لم تنجح قطروتركيا في تقليص فاعليتهم ومداهم سوى تغير أولويات السعودية في عهد الملك سلمان بداية من 2015، وميل الرياض ناحية الدوحةوأنقرة بدافع من مشتركات أهم من وجهة نظر السعودية في سوريا واليمن والصراع مع إيران. وهذا الأمر بدأت إرهاصاته خلال العام الأخير من حكم الملك عبدالله بن عبد العزيز، حيث كانت أولويات الرياض وقتها التصدي للنفوذ القطري-التركي في الخليج والمنطقة بشكل عام وهو ما توافق مع ما تريده أبوظبي بشكل أساسي، وهو ما تحقق بشكل كبير في 30 يونيو 2013 في مصر. لكن على الجانب الأخر كان هناك صراع قطري-إماراتي على اجتذاب السعودية لرؤية كل منهما، وهو ما نجحت فيه الدوحة ومن خلفها أنقرة خلال العاميين الماضيين بعد وفاة الملك عبدالله وتغير أولويات السياسة السعودية الخارجية بدافع من عدة عوامل أهمها الصراع الداخلي على الحكم وسوء علاقة الرياض وقتها بواشنطن إبان إدارة أوباما. هنا تأزمت العلاقات المصرية-السعودية، ليس فقط بدافع من انحياز الرياض لمصلحتها مع الدوحةوأنقرة على حساب القاهرة ومصلحتها وحتى تقويضها في ليبيا، ولكن لأن السعودية أرادت وراثة نفوذ مصر الإقليمي، واقتصاص جزء معتبر من أهميتها الاستراتيجية على مقياس إقليمي ودولي متعلق بالموقع الجغرافي والمجال الحيوي؛ فالرياض في السنوات الأخيرة أزاحت مصر وحاولت الانفراد بالوكالة الأميركية التي كانت حتى 2010 تتشارك فيها الرياضوالقاهرة كوكيلين للسياسات الأميركية، وكانت القاهرة تختص بإدارة العلاقات ا لعربية-الإسرائيلية وعملية السلام والقضية الفلسطينية وقطاع غزة..إلخ، وهو ما بدأت السعودية مزاحمة مصر فيه منذ 2015 بعد موت الملك عبد الله، وامتدت هذه الإزاحة لتجريد مصر من ورقة جيوستراتيجية هامة هي التحكم في مضايق وممرات البحر الأحمر، وذلك عبر تنازل القاهرة عن جزيرتا تيران وصنافير، اللتان بحوزة السعودية لهما فإنها ستصبح لأول مرة في تاريخ وجودها تتحكم في ممرات بحرية هامة، وهو الأمر الذي سيقربها خطوة من فكرة مركزيتها الإقليمية بجانب إسرائيل، ويؤمن لها مستقبلاً ضرورة إستراتيجية وكذلك يدعم نفوذها السياسي الخارجي بأساس جيوسياسي يتجاوز في الأهمية الورقة الطائفية والمال السياسي، اللذان بنتّْ عليهما الرياض نفوذها في الخارج في العقود الثلاثة الماضية، واللذان لم يحدا من تراجع نفوذها في السنوات الأخيرة أمام صراعها مع خصمتها اللدود إيران، التي تغلق أي فرصة للتمدد الحيوي للمملكة أو دول مجلس التعاون في الخليج أو وسط آسيا. الأحداث الأخيرة، والتي بدأت بتعاقب زيارات القادة العرب إلى واشنطن للقاء ترامب لبحث تسوية الخلاف بين وكلاء السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، مروراً بقمم الرياض وما خرج عنها من مقررات وتصريحات، ثم تصريحات تميم بن حمد المنفية، وصولاً لقرارات حصار قطر من جانب كل من السعودية والإمارات ومصر، ورد الفعل الأميركي والإقليمي على هذه التغيرات، يشي بأن الخيار المصري الوحيد لم يتطور ولم يكن له بديل عن الخيار الذي أدى لاتفاقية ترسيم الحدود والتنازل عن تيران وصنافير، فالواقع السياسي لمسار السياسة الخارجية الذي اتخذه النظام الحالي منذ 2013 جاء وفق تكتيكات حدثت واحدة تلو الأخرى، تحت سقف إستراتيجية غير واضحة المعالم على الأمدية القريبة والمتوسطة والبعيدة، والهدف الوحيد المرجو منها هو استعادة شكل العلاقات الخارجية لمصر قبل 2011؛ هذه التكتيكات جاءت وفق أولوية قصوى هي تعزيز النظام الجديد داخلياً عن طريق الدعم المالي والإعلامي من حليف خارجي، وتغيير صورته الخارجية التي رسخها خصومه عند الإطاحة بالنظام السابق. وهاتان الأوليتان اللتان كفلتهما الرياض بتواتر مناسب، وخاصة في العام الأخير من حكم الملك عبدالله ومنظومته الذي كان –على عكس خلفه ومنظومته- يتقاطع مع النظام المصري الجديد في ضرورة التصدي لنفوذ المحور الإخواني، وهذا الأمر نفسه كان بالنسبة للعلاقات بين القاهرةوالرياض بعد تغير توجهات الأخيرة بعد تولي الملك سلمان ومنظومته الحكم، فأمام مشكلة انفتاح المملكة على المحور الإخواني وتحالفها مع تركياوقطر، قابلته مصر بتلكؤ في تنفيذ مقابل الدعم الاقتصادي السعودي وخاصة فيما يتعلق بالملف اليمني والسوري، وربما تلكؤ أيضاً في تسليم الجزيرتان لحين تخلي السعودية تحت حكم سلمان ونجله عن التحالف مع قطروتركيا على حساب مصر، وبالتالي بتغير موقف الرياض – بالأحرى عودته للأصل- تجاه الدوحة والإخوان مثلما رأينا على مدار الشهر الماضي فإن تأخير تسليم الجزيرتين وإرجاء تنفيذ اتفاقية ترسيم الحدود بدواعي إجرائية وقانونية أصبح غير ذي فائدة، وتخطي العقبات القانونية والدستورية عن طريق البرلمان أقصر طريق لتنفيذها. السعودية وتحديداً منذ بداية حكم سلمان، تقف على أسس صلبة استقتها من اختيارات النظام المصري وواقعه السياسي الذي ألتزم به، فما كان من الرياض إزاء إرادة القاهرة بإعادة العلاقات إلى سابق عهدها إبان الملك عبدالله، أو بالحد الأدنى لإعادتها إلى ما كانت عليه قبل 2011، إلا أن تقوم بفرض رؤيتها بطريقة جعلت عام 2015 والتوتر الذي ساد العلاقة بين البلدين منذ تولي سلمان ومنظومته الحكم مجرد فترة إعادة تموضع للقاهرة وتكيفها مع السياسات السعودية الجديدة في المنطقة التي هدفت لإيجاد مجال حيوي للمملكة يضمن لها استمرار نفوذها السياسي ومركزيتها بجانب إسرائيل في وكالة السياسات الأميركية في المنطقة، وتخفيض دور القاهرة إلى دور اللاحق والتابع، وهي نفس النتيجة التي سعت إليها قطروتركيا عن طريق وكيلهم المحلي المتمثل في جماعة الإخوان.