زيارة الملك سلمان الحالية إلى مصر تدشن مرحلة جديدة وخطيرة في تاريخ العلاقات المصرية السعودية منذ نشأة المملكة عام 1932؛ مرحلة اليد العُليا فيها للرياض، التي وضعت منذ الأيام الأولى لحكم سلمان ونجله معادلة إدارة علاقاتها مع "الحلفاء" على أساس الامتنان لمساعداتها المالية بالتبعية لسياساتها الخارجية حتى وإن كانت عشوائية ومرتجلة وناتجه عن صراع عائلي كما الحال في تطبيق هذا في سوريا واليمن. على الجهة المقابلة كانت آمال القاهرة مرتفعة في استمرار المعادلة الطارئة التي بدأت وانتهت في العام الأخير من حياة وحكم الملك عبدالله، وهي المعادلة التي قوامها التقاطع على المصالح المشتركة للبلدين بشكل يضع السياسة الخارجية لكل من البلدين في مسار واحد وفق بوصلة واحدة، وهو ما أختلف عن معادلة العلاقة بين الرياضوالقاهرة إبان حكم حسني مبارك، والتي قامت على أساس التوافق والتعاون تحت مظلة السياسات الأميركية وليس خارجها كما هو الحال حالياً، الذي ترفض فيه الرياض سياسة الإدارة الأميركية التي تنسحب من "مسئولياتها" تجاه المنطقة، بحسب الخطاب السعودي. وبتحديد النظر إلى العلاقات السعودية المصرية منذ بداية العام الماضي، نجد أن التوتر الذي ساد العلاقة بين البلدين خلال السنة الأولى لحكم سلمان كان بسبب إعادة تموضع القاهرة وفق الرغبة السعودية في ترتيب التحالفات السياسية وخريطتها التي كان مفتاحها انتهاء مرحلة الدعم المالي الغير مشروط المبني على أرضية العلاقات الاستراتيجية بحكم الموقع والرعاية الأميركية، وبدء مرحلة جديدة من "المال السياسي" الذي سيبذل مقابل التسليم بقيادة المملكة لسياسات "حلفائها" الخارجية وترتيب هؤلاء الحلفاء لأولويات سياسياتهم وفق البوصلة السعودية والتي يتجه مؤشرها نحو ضرورة إتباع مصر مواقف الرياض وإلحاقها كتحصيل حاصل لها في المنطقة، سواء كان هذا يتعلق بصراع الرياض مع طهران، أو ملحقات هذا في اليمن وسوريا، والذي كانت إحدى حلقاته التحالف مع تركيا محورها نظير ضغط المملكة على القاهرة في مسألة المصالحة مع عدو النظام المصري الأول؛ جماعة الإخوان المسلمين، وداعميهم في تركيا وقطر، بل وأمتد هذا إلى تحجيم السعودية لإجراءات مصر الخارجية في ليبيا إرضاء لحلفائها في أنقرة والدوحة. وإزاء فشل القاهرة في إرساء معادلة علاقات مع الرياض ترتقي بحجم وتأثير مصر من التبعية إلى الشراكة، ولو بالحد الأدنى على أساس العلاقة بين البلدين قبل 2011، استطاعت السعودية أن تحصل على تسليم أخير من النظام المصري بقيادة المملكة لسياساتها خارجياً، وربما تدخلها في السياسات الداخلية، وهو ما تُرجم عملياً في شكل ومضمون الزيارة التي حسمت موقف المملكة إلى جانب النظام المصري، وهو الذي كان يخشى منذ تولي سلمان ومنظومته الحكم أن ينحازوا بالكامل للمحور الإخواني ضده، وهو ما يعني له فقدان الظهير الوحيد إقليميا له طبقاً لمشهد ما بعد الثلاثين من يونيو 2013، وهو الأمر نفسه الذي أجادت السعودية ترويجه عند المحور السابق ذكره، فما يحدث حالياً من اتفاقيات وتفاهمات في التسوية ترجمته التي تضمنها الرياض لدى الإخوان والدول الداعمة لهم هو تنازل النظام المصري عن موقفه السابق فيما يتعلق بالمصالحة وإنفاذها –جبراً- في المستقبل القريب. بالإضافة إلى ما سبق، فإن هناك انعكاسات مباشرة ستطرأ على ملفات خارجية تديرها مصر، مثل العلاقات مع إسرائيل وملف قطاع غزة، حيث تميل الرياض مؤخراً إلى التعاطي بأبوية وإشراف أعلى مع أمور القطاع، وأن يتم إنفاذ رغبتها وفق مصلحتها التي تتقاطع حالياً معها السلطة المسيطرة على القطاع، ولو كان هذا يعني أن تلجأ إلى تحجيم دور مصر في هذا الملف أو بالحد الأدنى إدارته سعودياً عبر القاهرة. والأمر الثاني تثمين ثقل السعودية في إدارة علاقاتها مع إسرائيل، وهي العلاقات التي شهدت علانية وتصريح تجاوز التقارب المحسوس طيلة السنوات الأربع الماضية، سواء على مستوى التفاهمات الثنائية أو فيما يتعلق بمصالح تل أبيب والرياض المشتركة وتحركهم على نغمة واحدة ضد إيران أو ضد المقاومة في لبنان، حيث اعتبرت إسرائيل إجراءات السعودية الأخيرة التي سوقتها عبر الجامعة العربية ضد حزب الله اللبناني "انتصاراً شخصياً لها حُقق على يد حلفاء لها في الخليج"، بحسب تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، وهو ما سيحقق مستقبلاً هدف سعت إليه السعودية منذ بداية الألفية الجديدة، وهو قيادة العرب نحو سلام وتطبيع مع إسرائيل، والذي بدأت فيه منذ تبني ملكها السابق لما سُميَ بالمبادرة العربية للسلام في 2005. وبتحقيق الأمور السابقة تصبح المملكة سيدة قرار "الدول الحليفة" وعلى رأسها مصر في إدارة معظم سياستها الخارجية في المنطقة. إعادة التموضع السابق ذكرها انتهت حالياً بتسوية عنوانها زيارة الملك السعودي إلى مصر والاتفاق على شكل إدارة العلاقة بين الدولتين في ضوء الخطوط العريضة سابقة الذكر، وهو ما سيتجاوز بالتأكيد السياسة الخارجية ويمتد إلى السياسة الداخلية، نظراً لانعدام الحدود بينهم في نظر ساكني روضة خريم في الرياض، والذي يحركهم في المقام الأول صراع عائلي حول الحكم ومستقبله في مملكتهم، فإذا كان شن الحروب وسيلة لإضفاء ثقل على سيرة أمير شاب فما الضرر والصعوبة في أن يتم الضغط على القاهرة من أجل أن تتنازل عن جزء من أراضيها –جزيرتي تيران وصنافير- من أجل أن يُقال أن الأمير نجح في ما فشل فيه أسلافه وأقرانه، وأمن لمملكته نفوذ مطلق على البحر الأحمر؟ وخاصة أن هذا المسعى مارست الرياض في تحقيقه ضغطاً على القاهرة وصل إلى حد دفع والدفع للخرطوم لفتح وتدويل ملف حلايب وشلاتين. التسوية السابقة في مجملها اعتداء على إرادة واستقلال القرار المصري، وبصفقة جزيرتا تيران وصنافير المشبوهة فإن الأمر يتجاوز هذا إلى تفريط في أصل ثابت للدولة المصرية منذ ألاف السنين وهو التسليم بوجود هيمنة سعودية على البحر الأحمر من جنوبه في اليمن، و"عاصفة الحزم" التي هبت من أجل السيطرة على جنوبه، وشمالاً حتى مضايق تيران ومنفذ لخليج العقبة وحيد تخلت عنه القاهرة للرياض، وهو ما يعني من زاوية الجغرافية السياسية والاستراتيجية أنه تم ربط مصر جغرافياً بمحيط السعودية الحيوي، وأصبحت مصر مجرد حديقة خلفية للمملكة ونفوذها في الغرب، خاصة وأن المنفذ المتبقي والأهم لمصر؛ قناة السويس تمول الرياض مشاريع تنمية محورها بالإضافة إلى تأثيرها الاقتصادي عليها سواء بالاستثمار أو بالتمويل والإقراض. في السياق نفسه، نجد أن حيازة الجزيرتين من جانب السعودية وما يمثلوه من موقع استراتيجي مؤثر يجعل السعودية أكثر قرباً إلى إسرائيل من أي وقت مضى، فمعنى أن تحوز السعودية جزيرتين يقعا ضمن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، فإن المملكة أضحت طرفاً في المعاهدة بشكل فعلي وإن كان غير رسمي، وهو ما سيكون له أثر بالغ ودلالة ذات تأثير على مستقبل العلاقات السعودية-الإسرائيلية التي تشهد رواجاً في الآونة الأخيرة. الخلاصة؛ أن معادلة العلاقات السعودية-المصرية الجديدة أضحت أمر واقع أبجدياته في يد السعوديين، وأن القاهرة إزاء انعدام الخيارات أمامها طوال العام الماضي لم تجد مناص من السكون لمطالب المملكة وترويج ذلك في الداخل على أنه تكامل وتوافق وتعاون بين "جناحي الأمة" وإلى ما ذلك من ديباجات دعائية تعاكس واقعاً يقول أن القرار السياسي المصري في الخارج -وربما في الداخل أيضاً- على مستوى المنطقة قد أصبح رهن الإرادة السياسية لأمراء البيت السعودي ومتأثراً برغباتهم ومغامراتهم.