يحلو لنا دائما أن نتحدث عن الماضي باعتباره "الزمن الجميل"، ولما بثت وكالات الأنباء خبر رحيل الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، توقعت ما وجدته بالفعل من كلمات: رحل آخر الثوريين العظام.. انقضى زمن الكبار.. كاسترو يغيب ويطوي صفحة الصراع القديم، بالإضافة إلى مقارنات متوقعة بين كاسترو ورفيقه في الثورة تشي جيفارا، وصراعات بين بقايا اليسار وبعضها البعض من جهة، وبينهم وبين جحافل الليبرالية الجديدة من جهة ثانية. وسط كل هذه الأخبار المعتادة، لا تعرف الأجيال الجديدة حقيقة ما كان يدور في ذلك الزمان البعيد من الخمسينات والستينات، ولا تقف على رؤية محددة للزعيم الراحل: هل كان ثوريا تقدمياً نجح في تحقيق الرخاء والعدالة لبلاده؟، أم كان أيديولوجيا خاض معاركه بعناد وانغلاق فكري ضد أمريكا وقلاع الرأسمالية المحيطة به، ما أدى إلى عزل كوبا وإفقارها، بحيث ظلت حتى الآن، وكأنها دولة خارج الزمن تنتمي إلى الستينيات، فالشوارع تشبه متحفا للسيارات القديمة، والجداريات والتماثيل تحكي عن ماض راح، بينما الاتجاهات الجديدة، والرغبة في الهجرة تنتشر بين الشباب الغاضب الذي ينتظر مزيدا من الانفتاح على العالم الواسع! يحيرني النظر لتجربة كاسترو، فأنا منبهرة بقدرته على المقاومة والصمود أمام قوة جبارة ومتغطرسة مثل أمريكا، حتى بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار "حلف وارسو" ومنظومة الدول الاشتراكية، بل وتعثر الفكرة الاشتراكية ذاتها في معظم دول العالم، وبين صفوف اليسار ذاته، لكن هذه المقاومة تتضمن بالنسبة لي أيضا جانبا سلبيا، لأنها امتزجت مع سياسات شمولية، وانغلاق يشبه تحوصل الكائنات الأولية للدفاع عن نفسها في الظروف غير المواتية، بالإضافة إلى انفصال كوبا عن معايير العصر، وكأن الدولة الصغيرة القريبة من حدود الولاياتالمتحدة تستطيع أن تعيش إلى الأبد في حالة انكماش وخصام مع العالم الرأسمالي الواسع من حولها! بهرني أيضا كاسترو بالكاريزما الملهمة التي أثرت في عدد من قادة دول أمريكا اللاتينية، لكن انبهاري غاب بغياب الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز، الذي ظهر كتلميذ نجيب في مدرسة كاسترو الثورية المناهضة للرأسمالية وللنفوذ الأمريكي، ومع مجئ خليفته نيكولاس مادورو ظهرت أمراض الشمولية، وتراجعت مظاهر الاشتراكية والثورية، ودخلت فنزويلا في مأزق دستوري، وصراع بين البرلمان والرئيس، رأيت بنظرتي المتواضعة أنه امتداد طبيعي للصراع بين المدرسة الاشتراكية الشمولية القديمة، وبين الاتجاهات العصرية التي تطمح لمزيد من الديموقراطية والمشاركة الواسعة في الحكم بعيدا عن نموذج الزعيم الفرد الملهم. ملاحظة أخرى تتعلق بالنتائج الوخيمة التي نجمت عن مخططات التوريث في الجمهوريات العربية، والتي تم تطبيقها في سوريا، ولم يكتمل تطبيقها في كل من (العراق.. مصر .. اليمن… ليبيا)، يؤسفني أن النموذج الجمهوري الثوري الاشتراكي في كوبا، لم يقدم نموذجا ديموقراطيا يحتذى به في قضية نقل السلطة بعد مرض فيدل كاسترو واعتزاله العمل السياسي، لكن الزعيم عهد بالسلطة لأخيه راؤول في انتقال شكلي، يوحي بأن الهدف هو الحفاظ على نظام حكم، وليس تحقيق نموذج ثوري بمشاركة جماهيرية، واختيار حر! لست متخصصة في الشأن الكوبي، لأسمح لنفسي بالدخول في تفصيلات دقيقة، وإصدار أحكام نهائية على تجربة كاسترو في كوبا، لكنني أردت أن أسجل بعض الملاحظات من واقع تجربة الحكم في مصر، من غير أن أغفل تسجيل إعجابى بقدرة كاسترو الخارقة على الاستمرار حيا وحاكما في مواجهة امبراطورية متوغلة مثل أمريكا، خاصة وأن كوبا ظلت لسنوات طويلة ساحة مفتوحة لتحركات عناصر المخابرات المركزية الأمريكية، ورجال المافيا ورجال المال والأعمال الأمريكيين، والطريف أن تقارير الاستخبارات تذكر أن كاسترو أكثر زعماء العالم تعرضا لمحاولات الاغتيال، حيث تعرض ل 638 محاولة، وهو رقم غريب، ولا أظنه يتكرر مع أي حاكم في العالم، وهذا الرقم بصرف النظر عن المبالغة فيه، يكشف حجم الصراع والتحديات والمخاطر التي واجهها الزعيم الفرد، الذي أعجبت بتجربته، لكنني لا أوافق على تكرارها في أي دولة بالعالم، لأنها كانت تجربة زمن مضى، له ما له وعليه ما عليه، فلم يكن جميلا على إطلاقه، ولم يكن قبيحا تماماً، فتجارب الزمن دروس عظيمة، وليتنا نتعلم من هذه الدروس. [email protected]