بعد أكثر من نصف قرن كانت العلاقة خلالها بين هافانا وواشنطن شحما ونارا تغير المشهد علي نحو دراماتيكي, رغم أن الرئيس الكوبي راؤول شقيق فيدل كاسترو يعرف أن اخاه الذي ورث مقعده الرئاسي . وهو علي قيد الحياة تعرض لأكثر من مائتين وخمسين محاولة اغتيال, والسؤال هو من الذي تغير امريكا ام كوبا ومن سعي باتجاه الآخر الماركسي العنيد ام الرأسمالي المتوحش؟ تذكرت علي الفور ولمجرد ان شاهدت اعضاء من الكونجرس يتجولون في شوارع هافانا ما قاله فيدل كاسترو ذات يوم عن سمكة الباركودا القاتلة, قال اذا شعرت بأنك تهرب منها الي الشاطيء تبعتك واصطادتك, لكن اذا تجاهلتها ولم تعرها اهتماما فإنك ستنجو, قد تكون هذه السمكة هي امريكا, او العدو التقليدي لفيدل كاسترو وهو الرأسمالية, فهل حقق النجاة مرارا لأنه تجاهلها؟ لقد اوشكت كوبا ان تكون سببا مباشرا لحرب كونية ثالثة في ازمة خليح الخنازير, لكن الأزمة انفرجت ولم تنفجر, اما الخصومة بين هافانا وواشنطن فقد استمرت بل تفاقمت لكن علي نحو مصغر لحرب باردة! واذكر ايضا ان سارتر عندما زار كوبا في ستينيات القرن الماضي وفي ذروة الحماس لليسار قال له كاسترو ان الكوبيين وحدهم من يشعرون بمرارة قصب السكر, شأن كل بلد يتمتع العالم بصادراته لكنه يختنق بها لأسباب سياسية, ولو كان لدينا كاسترو عربيا لقال ان النفط يتحول احيانا الي مصدر للبرد والصقيع وبالطبع هذه مجازات سياسية تفرضها البلية عندما تشتد فتضحك! لقد عضت كوبا علي الاصابع عقودا وحاولت التشبث بجمرة الايديولوجيا لكن الشيخوخة التي ادركتها علي مستويين اولهما شخصي يخص فيدل الذي اقعده المرض وكذلك اليسار في العالم. لهذا تخلت كوبا عن راديكاليتها, ويبدو انها بدأت تحاول الفرار من سمكة الباركودا فشمت رائحة الخوف او ما يفرز من ادرنالين سياسي هذه المرة وليس عضويا, وهناك عبارة تنسب الي جان فوستر دالاس عن كوبا هي استغرابه كيف ان الثمرة الكوبية لم تسقط في السلة الامريكية فهل ما يحدث الان هو سقوط الثمرة في السلة ام ان هناك معادلات تغيرت في زمن العولمة, وهناك سؤال من صميم هذا السياق هو هل يصلح ذوبان الجليد بين كوباوامريكا نموذجا يقاس عليه, ام ان السياسة لا مجال فيها لمثل هذا القياس بسبب براجماتيتها المفرطة وسرعة الايقاع في تحولاتها. هذا السؤال يفرضه مشروع التفاهمات المتعثر بين طهرانوواشنطن, والحقيقة ان مثل هذا القياس لا يستقيم في هذه الحالة, والأرجح ان الكوبيين لم يعودوا بحاجة الي الفرار باتجاه شاطيء فلوريدا المقابل... لأن البحر هو الذي تمدد نحوهم, وقد ذكرتني عبارة فيدل عن سمكة الباراكودا التي تهاجم من يخاف منها برواية همنجوي العجوز والبحر والتي اصطاد فيها العجوز سمكة قد تحولت الي هيكل عظمي, وانتهت تلك الدراما بمقولة اصبحت مأثورة حتي في عالم السياسة هي ان الانسان قد يدمر لكنه لا يهزم. كاسترو العجوز لم يظفر بهيكل عظمي سواء لسمكة القرش او السمكة التي تحدث عنها, فالعالم الذي تعرض لما يسميه امين معلوف بالاختلال بعد الحرب الباردة لم تعد عواصفه تهب بما يشتهي القارب الكوبي, ومن قرروا الابحار معه من امثال شافيز فهو تلميذ نجيب لفيدل وكلاهما يعد نفسه الحفيد الوفي لسيمون بوليفار, وقد يظفر فيدل ايضا بأن يمدد سيف بوليفار الي جواره لحظة الرحيل كما حدث لشافيز, كان كاسترو قد تسلم كوبا من الديكتاتور باتيستا, وهو حين سلمها لأخيه راؤول كانت تعاني من الحصاد المر لحصار دام عقودا, لكن ما أحرزته البلاد خلال حكم وصفه خصومه الايديولوجيون بالتوتاليتارية والطغيان من نهضة في التعليم والتصنيع بعد اضطرارها الي الاعتماد علي نفسها علي طريقة الحاجة ام الاختراع, كان رغما عن الحصار بقدر ما هو بفضله ايضا وتلك احدي المفارقات الكبري في تلك القارة الساخنة, التي حاولت التمرد علي ان تكون مجرد حديقة خلفية للولايات المتحدة, وشهدت من التنوع في نظم الحكم والتجارب السياسية والاقتصادية ما حال دون تجانسها بحيث يمكن الحكم عليها بالجملة, فعلي سبيل المثال ما الذي يجمع بين فيدل وبنوشيه؟ فالاول حوصر وتعرض مئات المرات للاغتيال المزدوج, سواء لشخصه او لكوبا ذاتها, بينما كان الثاني ربيب واشنطن التي طالما غذته ومدته بالجلوكوز حتي وهو يدخل غرفة الانعاش السياسية, واخيرا قلبت له ظهر المجن كما تفعل مع حلفائها في خريفهم, او عندما ينهي التاريخ صلاحيتهم للاستخدام! ان التجربة الكوبية بالغة التعقيد وغير قابلة للاختزال, فهي امثولة في العناد والممانعة, لكنها ايضا تشكو من ندرة اكسجين الحرية, مما دفع ابنة كاسترو الي الاقامة في النفي, لكن هذه التجربة تبقي استثناء في العالم الثالث لانها لم تكن سهلة الهضم في احشاء امريكا, انها تجربة تراجيدية بامتياز ولو شاء المشتغلون في السينما استثمارها فنيا فهي المقابل للفيلم الكوميدي التجربة الدانماركية, وفي اي سياق تاريخي لا يمكن اغفال علاقات كاسترو بزعماء عرب في مقدمتهم الزعيم الباقي عبد الناصر, فقد زار كاسترو القاهرة, وتبادل الخبرات مع قادة ثورة يوليو, وكان في الخندق ذاته خلال الحرب الباردة. لهذا اقامت مصر للأب الروحي لكاسترو وسائر ثوار القارة سيمون بوليفار تمثالا في احد ميادينها وهو ما لم يحدث في اية عاصمة عربية اخري. ما تبقي هو ذلك السؤال الذي طرحه جان فوستر دالاس في ايامه, وهو لماذا لم تسقط الثمرة الكوبية في السلة الامريكية, لأن هذه التفاهمات التي تفتح كوة في الجدار بين واشنطن وهافانا بعد عدة عقود تستدعي ذلك السؤال وكل الهواجس التي شغلت امريكا في زمن القطيعة. فمن الذي تغير؟ الاخوان فيدل وراؤول ام البيت الأبيض وساكنه ذو الجذور الافريقية؟ الأرجح ان ما تغير هو العالم بأسره فبعد ان عصف تسونامي العولمة بتضاريس وخرائط ومفاهيم افرزتها الحرب الباردة, حيث كان من المتاح لدول صغري ذات احلام كبري ان تلوذ بحليف شبه امبراطوري كالاتحاد السوفييتي قبل التفكيك!! لمزيد من مقالات خيرى منصور