بشيء من الحسرة، تلقيت نصيحة أحد الأصدقاء بضرورة الكف عن الكتابة في السياسة، والتحليق بعيداً في عوالم الأدب والفن.. شعرت وقتها أنني كمن يحرث في بحر تطغى أمواجه على قدرة سباح تعلم السباحة لتوه، فلم يعد أمامه إلا خياران، إما الانسحاب أو الغرق. لم يصارحني صديقي بأنه ضجر كتاباتي السياسية، لم يتهمني بنشر الإحباط أو تسفية الإنجازات، لم يصفني بالمأجور أو المبشر بالخراب، لم يشكك في نواياي أو يقذف عرضي وشخصي بألفاظ جارحة، لم يدعوني ب"كاتب السبوبة" كما تفعل عشرات التعليقات التي يكتبها البعض رداً على ما أكتبه. لم يقل صديقي شيئاً من هذا كله، بل على العكس كانت دعوته مهذبة وراقية، ولكنها وضعتني أمام سؤال مصيري لطالما خشيت من مواجهته، وها قد جاء الوقت المناسب لأطرحه على نفسي: لماذا لا أكون مخطئاً فيما أكتب؟.. هل أسير في طريق الحق أم الضلال؟ نعم يا سيدي، أملك بعضاً من موهبة التعبير بالكلمات، وهو سلاح لو تعلمون عظيم، قادر على التضليل كما هو قادر على التنوير، بوسعي أن أسلطه لخدمة أهداف ضيقة، أو أسلطه لتحقيق حلم أكبر مني، هو نقمة على صاحبه وليس نعمة، سلاح مميت قد يفتك بي لو انحرفت به عن مساره أو طوعته لحساب آخرين، وهو أيضاً شعلة ضوء يمكنها أن تنير لي ولغيري طريقاً معتماً.. فأيهما أنا؟ لست نبياً لأزعم أنني صاحب رسالة، فأنا مثلك لا يوحى إليً بل أنطق عن هوي شخصي، ولست شجاعاً لأزعم أنني قادر على مجابهة نظام يمكنه بإشارة أن يبطش بأمثالي من الحاقدين على نجاحاته، وأن يجعلني في لحظة غضب، عبرة لأي شخص تسول له نفسه أن يقذفه بحجر.. فهل أرمي الحجر في وجه الطغاة أم أسقطه من يدي إيثاراً للسلامة؟ قلت لنفسي: لماذا لا استمع لنصيحة صديقي وأكف عن تقلد دور البطولة؟ لماذا أصر علي الوقوف في وجه قطار منطلق بسرعة جنونية، قطار لن يرحم ضعفي أو يلتفت حتى إلى مناشداتي وتحذيراتي له بالتمهل قبل السقوط في الهاوية؟. اعترف لك بأني خائف، بل أرتعد خوفاً، لا أخشى تقييد الحرية أو التنكيل كما تظن، ولكني خائف أن يأتي يوم تتسع فيه الهوة بين ما أؤمن به وبين ما أكتبه، أن أضطر لارتداء أقنعة الكذب والتزييف فأدافع عن أشياء أمقتها، أو أهاجم أشياء أحترمها، أن أضطر يوماً أن أشيح بوجهي بعيداً عن سياسات أراها تكرس للظلم والفساد والاستبداد، طلباً للنجاة، أو إنقاذاً لشخصي من مصير الهلاك. كنت أحد الحالمين بنظام قطع على نفسه وعداً بأن يحمي ويصون ويوحد، ثم ما لبثت أن صرت معارضاً عندما وجدته يفرق ويفرط، يكذب حتى من دون أن يعبأ بوضع المساحيق لتجميل صورته، فلست أنا من نكص بوعوده، لست أنا من خان الأمانة وارتد، بل ما زلت علي عهدنا القديم، أحفظ عن ظهر قلب جملته التي بكيت من فرط ما تمنيتها وصدقتها: "بكره تشوفوا مصر". سيدي، لست أكثر شرفاً أو وطنية منك، ولا أدعوك لأن تؤازرني أو تنحاز لقناعاتي، ولكني أناشدك ألا تكون سيفاً مسلطاً على عنقي، فلست عدوك، ولا أناصب النظام العداء، فلا غاية لي إلا الحد الأدنى من العدل والمساواة، القدر القليل من الكرامة والصدق، ولتعلم أننا أصحاب فضل على الجميع، أنا وأنت ملاك هذا الوطن، ولن نرضى أبداً بقسمة السادة والعبيد، فلا تقبل بأن يعايرنا أو يساومنا أحد على الأمن مقابل الخنوع. قد لا أكون على الطريق الصواب، ولكني على الأقل أسير وفقاً لما ارتضيته لنفسي، قانعاً غير مرتعش، محبط قليلاً ولكنني أملك طاقة أمل، واثق بأنه سيأتي اليوم الذي أردد فيه من جديد بفخر وعزة هتافي المفضل "ارفع راسك فوق أنت مصري". أوجه الشكر لصديقي على دعوته الرقيقة، ولكني فقط استأذنه إرجائها لأجل غير مسمى، أرجوه أن يحتمل قليلاً كتاباتي في السياسة، وأعاهده بأنني سأتوقف تلقائياً وطوعاً عندما أشعر أننا في الطريق لأن نكون "قد الدنيا"، ولن أكتب وقتها في الفن والأدب فحسب، بل سأكون أحد دعاة المسخرة و"الهلس" إن أراد…!