سياسيون عن ورقة الدكتور محمد غنيم.. قلاش: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد.. النقاش: تحتاج حياة سياسية حقيقية.. وحزب العدل: نتمنى من الحكومة الجديدة تنفيذها في أقرب وقت    المقاولون العرب تنتهي من طريق وكوبري ساكا لإنقاذ سكان أوغندا من الفيضانات    أسعار الذهب صباح اليوم السبت 27 أبريل 2024    بمشاركة 3 آلاف فرع ومنفذ، استمرار فعاليات مبادرة "كلنا واحد" لتوفير السلع بأسعار مخفضة    الكهرباء تحدد 3 أسباب لرفض كارت العدادات مسبقة الدفع الشحن من ماكينات الدفع الإلكتروني    أوكرانيا تعلن تصديها لصواريخ روسية، وموسكو: أسقطنا 66 مسيرة    جيش الاحتلال الإسرائيلي يشن 25 غارة جوية على غزة خلال اليوم الماضي    10 معلومات عن أهمية الزيارة التاريخية المرتقبة للرئيس السيسي إلى تركيا    مواصلة الاحتجاجات في جامعة كولومبيا للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة|شاهد    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    مسئول أمريكي كبير يزور لبنان.. تفاصيل    موعد مباراة بلدية المحلة وزد في الدوري المصري والقناة الناقلة    موقف محمد صلاح، تشكيل ليفربول المتوقع أمام وست هام في الدوري الإنجليزي    خروج جميع مصابي حادث حريق سوء الأحوال الجوية في الأقصر    تجديد حبس تشكيل عصابى تخصص في سرقة أجزاء من السيارات بالعجوزة    الإنترنت المظلم| كارثة اسمها "دارك ويب" بعد جريمة شبرا الخيمة البشعة.. ماذا حدث؟    تنطلق الليلة.. تفاصيل الدورة 39 من مهرجان المسرح العالمي    «شيخ أزهري اتهمها بالزنا».. انهيار ميار الببلاوي في بث مباشر    علي جمعة: الشكر يوجب على المسلم حسن السلوك مع الله    هتنام بسرعة| 4 آيات حل رباني لمن لا يستطيع النوم ليلاً.. داوم عليها    انخفاض أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل    بعد قليل.. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    اليوم.. الجنايات تنظر محاكمة متهمي "خليه المرج"    بورصة الذهب تنهي تعاملاتها الأسبوعية بخسائر تتجاوز 50 دولارًا | تقرير    تشكيل ليفربول المتوقع أمام وست هام.. صلاح ونونيز يقودان الهجوم    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. السبت 27 أبريل    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    دينا فؤاد: مسلسل "الإختيار" الأقرب إلى قلبي.. وتكريم الرئيس السيسي "أجمل لحظات حياتي"    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 27 أبريل 2024    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    تحرير 17 ألف مخالفة مرورية متنوعة على الطرق السريعة خلال 24 ساعة    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجياد السوداء
وقائع انتحار كاتب مصري في المنفي
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 02 - 2015


هذا هو الفصل الأخير في مذكراتي فاليوم سأنهي حياتي.
لم أنم منذ يومين. أشعر برأسي ينتفخ كالبالون. أنا ثمل وأصابع يدي لا تحتكم علي القلم كما اعتدت. بل القلم هو الذي يوجهها. يأخذها حيثما يريد. يملي عليها ما تكتبه في هذه المفكرة التي تضم يومياتي. يملي عليها ما يجب أن يكتب فالنهاية قد حلت ولا أملك إزاء ذلك شيئا. إن لم أكن ثملا قد لا أستطيع أن أقدم علي هذه الخطوة التي أريدها وأخشي ألا أتممها إن كنت في كامل وعيي. ليس جبنا ولا ترددا ولكن لأن الوعي يفرض علي المرء أن يفكر أو يعيد التفكير وأنا قد فكرت بما فيه الكفاية وجاءت الآن لحظة الإقدام.
لقد ابتلعت الآن في هذه الليلة الباردة من شهر ديسمبر عشر حبات منومة.
تيقال إن تأثير المنوم يتضاعف مع الكحول. 26 حبة هي ما وجدته بالزجاجة التي كنت قد استخدمت 4 حبات منها بمجرد أن صرفها لي الطبيب أول أمس بسبب ذلك الأرق اللعين الذي يلازمني. سأبتلعها كلها ولكن ليس دفعة واحدة حتي أتمكن من استكمال كتابة هذا الفصل الختامي. بإمكاني بالطبع أن أتقيأها ولا أتناول بقية الحبوب إذا أردت لكني لا أريد. إني أسير قدما إلي مصير لا رجعة فيه. سأبتلع الحبات كلها. حبات السكينة والراحة الأبدية. إني ذاهب للموت بخطي ثابتة لا تردد فيها. فكرت أن أنهي حياتي في ذكري نفس اليوم الذي خرجت فيه الي الدنيا. يوم عيد ميلادي الذي لم يبق عليه إلا أيام لكني لا أستطيع الانتظار أكثر من ذلك. ولا يوم واحد. ولا ساعة واحدة. لقد حانت اللحظة وعلي الآن أن أرحل.
قد يتساءل البعض لماذا أحرص علي تدوين هذه اللحظة في مذكراتي؟ كيف يقرر الإنسان أن يخطو الي الحياة الأخري ويكون في نفس الوقت حريصا علي إستكمال ما بدأه في حياته الحالية؟ لكنها مذكراتي التي تتضمن أحداث حياتي وهذا هو أهم أحداثها علي الإطلاق فكيف لا أضمنه إياها؟ علي أن أكمل قصة حياتي حتي الفصل الأخير. لقد تعلمت من قراءاتي أن هناك فصيلا من البشر هوايتهم استكمال حياة الكتاب الراحلين فهم يهوون ملء الفراغات التي يتركها الكاتب وراءه فيقولون مثلا أنه انتحر لأن مرضا خبيثا أصابه أو أنه عشق النساء بحثا عن حنان الأم الذي أفتقده في الصغر. أما أنا فلا أريد أن تكون حياتي مثل سؤال إملأ الفراغات الذي يرد في امتحانات الصبية. أنا لست أكبر كتاب بلدي فلا أنا العقاد ولا طه حسين ولا توفيق الحكيم لكني استطعت أن أحقق نجاحا أدبيا هنا في لندن بالرواية الوحيدة التي أصدرتها والتي ترجمت الي عدة لغات أخري فأصبح أسمي الآن معروفا في العالم وخبر إنتحاري سيكون بالطبع موضع اهتمام الأوساط الأدبية فلماذا اترك مكانه شاغرا في مذكراتي هذه وكأن الموت داهمني فجأة؟ كأن ملاك الموت هو الذي اختار موعد رحيلي ولم أختره أنا؟ سأكمل قصتي بنفسي بلا فراغات يملأها من يأتي بعدي. كم كنت أود أن أكمل أيضا الرواية الجديدة التي بدأتها لكني للأسف سأتركها مع هذه المذكرات مخطوطا غير كامل كالجنين المبتسر. الآن أستطيع بهدوء أن أبتلع مزيدا من الحبات..اثنان..أربع..ست..ثماني..تسع حبات صببتها من الزجاجة وابتلعتها بمزيد من الشراب.
أربعون شتاء باردا مثل هذا الشتاء مضوا منذ ولدت في ليلة ممطرة بمدينة الأسكندرية لواحدة من أكبر العائلات القبطية في مصر. ظلت أمي تصرخ وظلت الأمطار تهطل ولم يأتِ الطبيب إلي أن لفظتني من جسدها دون مساعدة فتوقف صراخها وبدأ صراخي أنا صراخي المكتوم الذي دام طويلا والذي سينتهي في هذه الليلة التي أشعر فيها بالبرودة كما شعرت حتما في تلك الليلة الممطرة منذ أربعين عاما.
توفي والدي وأنا طفل فلم أعرفه وتزوجت أمي من آخر وأنا في الثامنة من عمري فحرمت منها هي الأخري. خرجت من حياتي ولم أعد أعرف عنها شيئا. بدأت عائلتها في الأسكندرية وعائلة والدي في القاهرة تتبادلاني كقطعة الأثاث التي لا يريدها أحد ثم أودعوني أخيرا لدي خالتي نادرة التي كانت تقيم وحدها بعد رحيل زوجها وهجرة ابنها الوحيد لكنها لم تتحملني طويلا فأدخلتني القسم الداخلي بمدرسة فيكتوريا كوليدج وفيها تزاملت مع الحسين بن طلال الذي أصبح فيما بعد ملكا للأردن وعدنان خاشوقجي ويوسف شاهين وعمر الشريف وغيرهم وقد جسدت المدرسة تناقضا رئيسيا في حياتي التي كان مقدرا لها ألا تقوم إلا علي التناقضات. فقد تلقيت التعليم الإنجليزي في أفضل صوره فقرأت مسرحيات شكسبير وروايات ديكنز وتشارلوت برونتي وتوماس هاردي لكني كرهت الإنجليز وكنت أخرج مع زملائي في المظاهرات ونهتف ضدهم مطالبين بالجلاء.
مستر جريفيث أستاذ الأدب الانجلبزي كان مدرسي المفضل وكان يثني دائما علي تفوقي في اللغة الإنجليزية وعلي حسي الأدبي المرهف لكنه كان يؤنبني كلما عرف بخروجي مع من كان يسميهم الدهماء في تلك المظاهرات التي كان يصفها بالفوضوية. وكان في كل مرة يقول لي: انتبه إلي دراستك يا ولد ودعك من السياسة وإلا ستشتت نفسك ولن تصل إلي شيء لا في الدراسة ولا في السياسة.
ثم انتقلت الي فرع المدرسة ذاتها في القاهرة بعد أن سافرت الخالة نادرة إلي إبنها في سويسرا وتركت البلاد بغير رجعة. كنت أبيت بالمدرسة ستة أيام في الأسبوع وفي اليوم السابع كان الطلبة جميعا يذهبون الي ذويهم ليمضوا معهم عطلة نهاية الأسبوع لكني كنت أبقي بالمدرسة مع الطلبة الوافدين والذين لم يكن لديهم أقارب يذهبون اليهم في مصر. وفي إحدي هذه المرات جلسنا في عطلة نهاية الأسبوع عند حلبة الملاكمة نخطط لقضاء عطلة نهاية الأسبوع التالي في الإسماعيلية لنشارك في المظاهرات التي كنا نسمع أنها تجري هناك ضد قوات الاحتلال. وحين جاءت العطلة كنا نقف جميعنا أمام ثكنات الجيش الانجليزي بالإسماعيلية نهتف بانجليزيتنا الراقية أن إخرجوا من بلادنا ونقذف الجنود من بعيد بالحصي وبالتراب فنراهم صامتين لا يتحركون بوجوههم القاحلة كأنهم تماثيل شمع في متحف مدام توسو ثم عدنا في اليوم التالي الي فصولنا بالمدرسة نقرأ روائع الأدب
الانجلبزي ندرس تاريخ بريطانيا العظمي.
ومازلت أذكر تلك المظاهرة الشهيرة التي قتل فيها سليم زكي باشا حكمدار القاهرة المعروف بولائه للإنجليز. كنت قد تخرجت من المدرسة والتحقت بكلية الطب التي لم أمكث بها طويلا وكانت مفاوضات الهدنة بعد حرب فلسطين هي موضوع الغضب الشعبي في ذلك الوقت. كان اليوم هو 4 ديسمبر 1948. أذكره جيدا ففيه رأيت الموت رأي العين لأول مرة. تجمعنا في فناء الكلية وقبل أن نخرج فوجئنا بسليم زكي يأتي علي رأس قواته المدججة بالسلاح والتي أخذت تضرب الطلبة بوحشية. وما هي إلا دقائق حتي وجدت عمر زميلي في الدراسة وأعز أصدقائي آنذاك يسقط إلي جواري مدرجا في دمائه. صرخت وأخذته بين ذراعي في الوقت الذي بدأ الطلبة يقذفون قوات الأمن بالحجارة وبزجاجات المولوتوف. وبينما أنا أحتضن عمر الذي كان قد فارق الحياة سمعت الطلبة يصرخون فجأة معلنين سقوط سليم زكي الذي كانت قد جرت عدة محاولات سابقه لاغتياله لكني كنت أسيرا لصدمتي في مصرع صديقي الذي أدركت أنني فقدته إلي الأبد كما فقدت أبي الذي لم أعرف شكله وكما فقدت أمي التي نسيت شكلها.
وحين قامت ثورة 1952 تحمست لها في البداية وتنامي هذا الحماس بالتدريج دون أن يصل إلي التأييد الكامل. لقد سعدت البلد كلها بعزل الملك وبإلغاء الملكية وأنا شخصيا من دون عائلتي سعدت بقانون الإصلاح الزراعي فقد كنت أشاهد أفراد العائلة من ملاك الأراضي الشاسعة وهم يعتصرون الفلاحين الي آخر مليم. كنت أذهب الي أقاربي لأطلب المال من أجل الدراسة أو الملابس أو المصروفات اليومية. ولم أكن أعرف لماذا أحتاج لطلب المال منهم بينما أبناء أخوالي وأعمامي لا يحتاجون لطلبه من أحد. كنت أذهب الي خالتي الكبري فردوس هانم في الأسكندرية لأطلب مصروفي الشهري فأنتظر دوري مع الفلاحين المستأجرين الآتين من الصعيد. كانت خالتي دوسة تفرح بقدومي فتأخذني بين ذراعيها وتقبلني وتسألني بالفرنسية وبالإنجليزية عن دراساتي وعن صحتي لكني مثل الفلاحين كنت أخضع لنفس أسلوب المحاسبة بالقرش وبالمليم. وكم غمرتني سعادة خبيثة وأنا جالس الي جوار عمي عدلي بك في القاهرة أشاهده وهو يوقع إقرارات التنازل عن أطيان أسرته الزائدة عن المئتي فدان التي وضعها قانون الإصلاح الزراعي كحد أقصي للملكية الزراعية أقول هذا وأنا أشعر بقدر من تأنيب الضمير. لكن ماذا أفعل؟ كنت شحاذا ينتمي لعائلة من الأغنياء.
ثم جاءت حرب السويس التي جسدت كل ما اتسمت بها السياسة الخارجية البريطانية من مكر وخسة فزادت من كراهيتي للإنجليز لكنها لم تقذف بي في أحضان ثورة البكباشية التي كانت تحكم البلاد فانضممت مع بعض الأصدقاء إلي الحزب الشيوعي حيث الفكر الواضح والعقيدة المحددة. أو هكذا بدا لي الوضع آنذاك وقبل أن أترك الحزب بعد ذلك لنفس السبب أي لجمود الفكر ودوجماتيكيته. هل هذا تناقض آخر في حياتي كما قال لي عمي رؤوف؟ لا أعرف. ما أعرفه هو أنني كنت أجد نفسي وأنا وسط أعضاء الحزب. كنا نتحدث نفس اللغة ونطالب بحقوق العمال والفلاحين بينما بدا لنا ضباط الثورة المثال الحي للبرجوازية الصغيرة التي تعطل قدوم الثورة الحقيقية.
في أحد الأيام استدعاني عمي رؤوف الذي كنت أشعر أنه يكن لي بعض العاطفة. كان بيته يقع أمام حديقة الحيوان بالجيزة. وبعد السلام والأحضان المعتادة والسؤال عن أحوالي أخذني من يدي كالطفل وخرجنا من البيت دون أن يقول لي إلي أين نحن ذاهبان. عبرنا الشارع إلي الحديقة ثم وجدته يشتري تذكرتي دخول وقرطاس فول سوداني ويدخل بي إلي الحديقة.
عند جبلاية القرود قال لي: هنا نستطيع أن نتحدث براحتنا. أخذ يقذف بالفول السوداني الي القردة وهو يقول: إن بيتي مراقب طبعا مثل جميع البيوت الآن في مصر لكني متأكد أنهم لايراقبون القرود. أردت أن أقول له أنهم بالتأكيد لا يراقبون القرود وأنه لم يكن هناك داعٍ لخروجنا من البيت لكنه أفرغ في راحة يدي بعض الفول أشار لي أن أشاركه في إطعام القرود ثم قال هامسا: إن لدي معلومات مؤكدة بأنك أنت أيضا تحت المراقبة. قلت بغير اكتراث: هذا يعني أنني لست قردا. لكن عمي رؤوف لم يكن يتمتع بروح الدعابة. قال: لا انت لست قردا. أنت جحش! ثم فجأة غير اللغة الفرنسية التي كان يحدثني بها وقال بالانجليزية: You are nothing but a stupid ass مالك ومال السياسة؟ إن كل من دخل السياسة من أفراد العائلة تعرض للأذي وجدك الذي قتل هو خير مثال ثم ما هي حكاية الشيوعية هذه؟ ليس في عائلتنا شيوعي واحد أنت إبن ناس ولست إبن فلاح ولا إبن عامل فمالك بهذه الأشياء.
لم يكن عمي رؤوف ينتظر مني أية إجابات علي الأسئلة التي طرحها. قال: خذ. ودس في يدي ورقة بعشرة جنيهات استرلينية وورقة أخري بعشرة جنيهات مصرية بعد أن تلفت حوله بحرص. ثم قال بلهجة آمرة: تذهب من هنا مباشرة إلي محطة الجيزة وتأخذ القطار إلي الأسكندرية. خالتك دوسة ستشتري لك تذكرة الطائرة الي لندن فغدا إما تكون في لندن أو في السجن. عليك أن تختار.
انتهي عمي رؤوف من الكلام ولم يبق معه من الفول السوداني إلا حبة واحدة فأكلها واستدار عائدا الي بيته ووجدت نفسي وحيدا امام القرود. أخذوا ينظرون إلي بما بدا لي أنه شفقة ثم انصرفوا عني الواحد تلو الآخر.
رأسي تدور ومازالت هناك سبع حبات تحدق في من داخل الزجاجة. فلتذهب مع الحبات العشرون..لا التسعة عشر التي سبقتها...أربع..ست..سبع حبات..كم أصبح طعمه مرا هذا الشراب!
كانت لندن غائمة كئيبة. لم تكن تلك أول زيارة أقوم بها لعاصمة الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لكني لم الحظ هذا الضباب من قبل. أو ربما لم أكترث له. أين هي تلك الشمس التي لا تغيب؟ بحثت عنها في كل مكان طوال سنوات إقامتي فلم أجدها. انتظرتها في جميع فصول السنة لكنها لم .
عملت بالترجمة. ليس من العربية إلي الانجليزية فقد كانت لغتي العربية ضعيفة وإنما من الفرنسية الي الانجليزية والعكس. لم أكن اتحدث إلا العامية المصرية التي التقطتها من الشارع ففي البيت أو في بيوت العائلة التي كنت أزورها أو أبيت بها كنا نتحدث الفرنسية أو الانجليزية وفي معظم الأحيان خليط من الإثنين أما في المدرسة فلم نكن ندرس اللغة العربية إلا في حصة واحدة في الأسبوع وهي لم تكن مادة رسوب علي أية حال فلم نكن نهتم بها وكان الويل لنا إن أمسك بنا أحد المدرسين الإنجليز ونحن نتحدث العربية. كنا عندئذ نتلقي محاضرة حفظناها من كثرة ما سمعناها مؤداها أن أباءنا يتكبدون تلك المصروفات المدرسية الباهظة كي نتعلم الإنجليزية ثم يكون العقاب ألا نخرج إلي الفسحة وإنما نبقي في الفصل لنكتب بالانجليزية مائة مرة: لا يجب أن أتحدث العربية في المدرسة. كان ضعفي في اللغة العربية يؤرقني فأنا مصري أحب مصر رغم كل ما بها من بلاوي لكني لا أستطيع أن أعبر عن نفسي بلغتها الأصلية. قرأت طه حسين بالفرنسية وتوفيق الحكيم بالانجليزية وحين جاء وقت الكتابة كتبت بلغة الآخرين. لغة من كانت آمالي الوطنية في الصبي تتركز علي الخلاص من احتلالهم. وها أنا الآن أجد نفسي مضطرا للعيش في بلاد هؤلاء. ومع ذلك علي أن أعترف إمعانا في التناقض أنني أرتاح للعيش في إنجلترا فأنا أعرف الإنجليز جيدا. أعرف طبائعهم مثلما أعرف لغتهم. أعرف تاريخهم مثلما أعرف أدبهم فسنوات الدراسة بفيكتوريا كوليدج لم تذهب سدي. لقد جعلتنا نتشبه بالإنجليز الذين كنا ندرس تاريخهم تحت مسمي الحضارة البريطانية فأصبحنا نسعي جميعا لان نصبح جزءا من هذه الحضارة فنعيش في لندن ونتزوج إنجليزيات.
كانت مسز آن ويلسون تعمل محررة بدار النشر التي أعمل بها مترجما. كانت تراجع المادة المعدة للنشر فتطلب تعديلات بالاختصار أو الإضافة أو بتغيير الأسلوب لذا كان عملي متصلا بها اتصالا مباشرا مما أدي إلي توثيق علاقتنا التي سرعان ما تطورت من الزمالة الي الصداقة ثم تحولت الي علاقة عاطفية متأججة فانتقلت من الغرفة التي
كنت أسكن بها في إيرلز كورت إلي شقتها بمنطقة تشيلسي الراقية. كنت أطارحها الغرام يوميا. كنا نغرق في دوامة حسية تأخذنا إلي أعماق سحيقة لم يعرفها أي منا من قبل. تكثيرا ما كنت أسأل نفسي: هل أحب هذه المرأة التي تكبرني في السن أم أنه مجرد اشتهاء جنسي؟ في بعض الأوقات كنت أتطلع إلي انتهاء ساعات العمل حتي أختلي بها في الفراش. وفي أوقات أخري كنت لا أطيق الاقتراب منها. كنا نشرب سويا حتي الثمالة لكنها لم تكن تحب التدخين فكنت أتعلل في بعض الأوقات بأنني سأخرج للتدخين وأترك البيت حتي لا أضطر لمضاجعتها.
ومع انخراطي في الحياة في لندن أخذ المشهد المصري يتراجع بالتدريج وإن ظل قابعا في وجداني يلح علي بين الحين والحين وعندما بدأت أكتب روايتي وجدتني أكتبها عن مصر وليس عن لندن وعن الحياة التي عشتها في مصر وليس عن تلك التي عرفتها في لندن ولم أكن قد كتبت إلا فصولها الأولي حين جاء القدر يدق بابي مرة أخري ليأمرني بمغادرة البلاد. لم يكن في المشهد هذه المرة عمي رؤوف ولا كانت هناك قرود. لم تكن هناك عواطف ولا روح دعابة وإنما كانت هناك الحقائق الجامدة التي تداهمنا بلا رحمة. فقد انتهت صلاحية جواز سفري ورفضت السفارة المصرية تجديده طالبة مني أن أعود إلي مصر. بإمكاننا أن نعطيك بطاقة مرور تسافر بها لكن الحصول علي الجواز الجديد لن يكون إلا من مصلحة الجوازات في مصر. هكذا قال الموظف الذي قابلني بنظارته الطبية السميكة وكرشه الذي تدلي أمامه كأنه في أحد المصالح الحكومية في مصر لم يبرحها. كانت تلك أول وآخر زيارة قمت بها للسفارة.
في اليوم التالي كنت في وزارة الداخلية البريطانية أستعلم عن إجراءات تمديد الإقامة إلي أن تحل مشكلتي لكن الموظف الانجلبزي ذو الأوداج المنتفخة والتي تفجرت فيها شعيرات الدماء الحمراء الصغيرة لم يكن اكثر تعاونا من زميله الأسمر ذو الوجه الممتقع في السفارة المصرية.
كان علي أن أغادر البلاد. لكن إلي أين؟ لن أذهب إلي السجن الذي أفلت منه في مصر.
بعد بضعة أسابيع وجدت نفسي في مدينة هامبورج بشمال ألمانيا عاملا بالميناء. لم أعرف مثل هذا الصقيع من قبل ولا عرفت هذه المهانة. لم يكن لدي وسيلة للتدفئة في غرفتي الحقيرة الواقعة في بدروم تحت الأرض في بناية تقع بالقرب من ميناء السفن. بعد عدة ليالٍ من التجمد في البرد القارص وعدم القدرة علي النوم تمكنت من سرقة التيار الكهربائي من الحجرة الملاصقة لي عن طريق سلك رفيع أوصلته بدفاية صغيرة كانت تعمل بعض الأيام وتضرب عن العمل أياما أخري وحين تيسر حالي قليلا بعد ذلك وأصبحت قادرًا علي دفع ثمن استهلاك الكهرباء طرقت باب جاري واعتذرت له عما قمت به تحت وطأه الاحتياج مبديا استعدادي لدفع قيمة ما استهلكته من كهرباء فاستدعي لي علي الفور الشرطة الألمانية وما أدراك ما الشرطة الألمانية.
في ألمانيا لم يكن لي أصدقاء. وبعد انقضاء ساعات العمل لم يكن لدي ما افعله. كنت بين الحين والآخر أذهب إلي شارع ريبربان الذي كانت واجهات محلاته لا تعرض الملابس أو الكتب أو الأدوات المنزلية وإنما اللحم النسائي. في كل فترينة كانت تجلس إمرأة مرتدية أقل ملابس ممكنة. كانت هناك الشقراء والسمراء وذات الشعر الأحمر والأسود. كانت هناك الرفيعة والسمينة والطويلة والقصيرة. وكنت أختار من تعجبني فأدخل اليها لأفرغ فيها غريزتي. لكن هذه الزيارات كانت تكلفني الكثير وحين كنت أضطر للذهاب كنت أقتطع ذلك من ثمن غذائي فلم تكن مواردي تسمح بتلبية غريزتين في نفس الوقت. إلي أن عرفت هيدفيك التي رغم أنها كانت في الأربعينات من عمرها إلا أنها وفرت علي ثمن زياراتي إلي ريبربان. لكنها لم تكن تملأ الفراغ الذي كنت أعاني منه في حياتي. الفراغ النفسي الذي لا يمكن أن يملأه صخب النشاط الحسي للجسد. ذلك الثقب الأسود الهائل الذي يبتلع كل شيء . كنت أضاجعها ثم أعود إلي وحدتي في تلك الزنزانة الكئيبة التي كنت أقيم بها والتي ربما كان السجن في مصر أقل وحشة منها.
وسط تلك الظروف أخذت أواصل كتابة روايتي. كنت أبعث بها فصلا فصلا الي آن في لندن لتراجعها. وحين حلت مشكلة إقامتي سارعت بالعودة مرة أخري الي لندن استعدادا لصدورها في كتاب. كانت المقدمات تنبئ بالخير فكل من قرأ الرواية من النقاد قبل النشر أثني عليها لكني لم أكن أتصور انها ستحقق هذا القدر من النجاح وأن المجتمع الأدبي الانجلبزي سيستقبلها بهذا الترحاب. صحيح أنني كتبتها بلغتهم لكن موضوعها كان مصريا خالصا وشخصياتها مصرية وأحداثها تقع في مصر. كانت تتضمن تنقدا للحكم العسكري لكنها كانت تتضمن أيضا نقدا للاحتلال البريطاني.
تصورت أن هذه أخيرا هي بداية الحياة التي كنت اتطلع إليها. سأكون كاتبا ناجحا تنشر كتبه بكل اللغات. ومع النجاح الأدبي جاء أيضا اليسر المالي فبدأت أسدد ديوني حتي تلك التي تراكمت علي أثناء إقامتي في ألمانيا. وبدأت لأول مرة أشعر ببعض الاستقرار في حياتي. عدت للإقامة مع آن في شقتها وواصلنا علاقتنا بنفس عنفوانها السابق وكأن السنة التي أمضيتها في ألمانيا لم تكن إلا سفرة عابرة في عطلة نهاية الأسبوع.
الشراب يزداد مرارة. أم هذا طعم الموت الذي أتجرعه مع كل كأس أشربها. أشعر بصداع قاتل يدق رأسي كالمطرقة. لكني سأتخلص منه وأتخلص من الأرق وأتخلص من هذه الحياة التي لا قيمة لها...أشعر أيضا بالخدر يتسلل خلسة الي أطرافي. ياللتناقض. رأسي بها صداع وأطرافي تكاد تكون مخدرة. فليمهلني القدر بضع دقائق فقط كي اكمل قصتي التي لم يبق منها إلا القليل.
كانت حياتي كالسماء في موسم الخماسين في بلاديلا زرقة فيها ولا صفاء والاحداث السعيدة تمر بها كالسحب البيضاء الهشة التي تدفعها الريح المحملة بالأتربة الصفراء فلا تبقي في مكانها طويلا. وإنما تختفي بسرعة ويعود الإنسان يسأل نفسه: ما معني حياتي؟ إن حياة الإنسان لا يمكن أن تكمن في إصدار رواية ناجحة. لست أعرف إن كنت أستطيع التعبير عن المعني الذي أقصده...رأسي تدور ولا أستطيع التركيز..من أنا؟..أنا مصري لا أجيد لغتي. أنا وطني لا أشعر بالانتماء الكامل الي بلدي. أنا معدم في عائلة من الأغنياء. أنا مسيحي في مجتمع الغالبية العظمي منه تدين بدين آخر. دخلت كلية الطب لكني خرجت منها. انضممت إلي الحزب الشيوعي لكني استقلت منه. وها أنا الآن غريب في المجتمع الذي نفيت إليه. إنسان نرجسي متعال يسجل تفاصيل حياته في مذكرات لم ينشرها لكنه في نفس الوقت يشعر بدونية شديدة جعلت الخجل أهم صفات شخصيته. مخلوق دميم يشبه التيس بلحية ذقنه السوداء الصغيرة. يعشق إمرأة تكبره بسنوات لكنه أيضا يبغضها..فماذا أكون؟..أأنا هذا أم ذاك؟..من أنا؟..ما قيمة حياتي؟..وماذا سيحدث لو أنني غبت عن هذه الدنيا التي سأخرج منها بعد لحظات؟ لا شيء. لأني لا شيء..بل أنا الشيء ونقيضه. الأضداد تتجاذبني في جميع الاتجاهات حتي تكاد تقطعني إربا.
تراءي أمامي الآن في هذه اللحظة الفريدة بين الحياة والموت جياد سوداء عملاقة. إنها الجياد التي كانوا يربطوها في الأطراف الأربع للشخص المدان والمطلوب إعدامه بأفظع الوسائل ثم يضربونها بالسياط فينطلق كل منها في اتجاه معاكس للآخر حتي تتقطع أوصال الرجل. كانت وسيلة الإعدام هذه تُمارس في القرون الوسطي لكن حين تم اغتيال هنري الرابع ملك فرنسا عام 1610 جري إعدام قاتله بالطريقة نفسها ليكون أخر من نفذ فيه مثل هذا الحكم البشع. ها هي الجياد ماثلة أمامي الآن تذكرتي بأنها عاشت معي منذ لحظة مولدي. ظلت طوال عمري تجذبني بقوة في اتجاهات عكسية دون أن تقطعني وتنهي عذابي؟ ها أنا أراها الآن لأول مرة. جياد سوداء متوحشة تضرب الأرض بحوافرها وتتأهب أخيرا للإنطلاق. سيكون بإمكانها الآن أن تركض كما تشاء وسأشعر أخيرا بالسكينة التي لم أعرفها طوال حياتي.
لم أعد أقوي علي الامساك بالقلم..دوامة هائلة تبتلعني..الجياد تجري..الجياد سوداء..الدوامة سوداء..كل شيء.. أسود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.