ماذا حدث للمصريين؟! ذلك الشعب الذي طالما تغني به الشعراء ونظمت القصائد في وصف خصاله وصفاته وتسامحه وتآلفه، ما هذا الكم من الحقد والضغينة والكراهية التي يتخندق وراءها بعض الفصائل!!، فيصبون جام غضبهم علي معارضيهم، البذاءة في الألفاظ والفحش في القول أصبح هدفًا يتقاتل هؤلاء في قذف من يخالفونهم الرأي به، ليس ذلك فحسب بل إن الاعتداء بالضرب وإحداث العاهات الجسدية، حتي القتل العمد أصبح –ويا للعجب وسيلة للتعبير عن الرأي وتلقين الآخر درسا لا يجب أن ينساه.. هل هذه هي مصر الآمنة المستقرة التي ذكرها المولي عز وجل في كتابه العزيز بقوله تعالي: }ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين{ وهل هذا هو شعب مصر؟ ماذا حدث؟ لقد عكست الأحداث الدامية التي شهدها الشارع المصري علي مدي العام ونصف العام التي أعقبت ثورة يناير حالة من الاحتقان والعنف، فمن أحداث شارعي محمد محمود ومجلس الوزراء وقصر العيني وحرق المجمع العلمي إلي ماسبيرو والاتحادية، كان الدم هو العنوان الأبرز، شهداء ومصابين ومشاهد أدمت قلوبنا جميعا، فكم من مرة تعلقت أبصارنا علي مشاهد الدم وهو يراق علي الهواء بأيدي غادرة لا ترعي حرمة لدم أو لدين، وكم من مرة عشنا سواء من كانوا مشاركين في الحدث أو كانوا يشاهدونه عبر شاشات التلفاز في أجواء حرب حقيقية وكأن ساحات الحروب قد انتقلت إلي بيوتنا مباشرة؟ هل كتب علينا الكمد والقهر والمآتم الجماعية؟ حماك لله يامصر من كل يد عابثة وآثمة تحاول الفرقة وتشق الصف لا لهدف إلا لمكاسب شخصية، لقد أفسدت لعبة السياسة المجتمع وصار الاختلاف في الرأي يفسد للود ليس قضية بل قضايا أخري حتي بين أفراد الأسرة الواحدة، الإخوة أصبحوا متنافرين بفعل التحزب لهذا أو ذاك، ولايجب أن نخدع أنفسنا ونقول إن هذه ظاهرة صحية لأنها ليست كذلك، فنحن مازلنا حديثي العهد علي الاختلاف السياسي ولم نصل بعد لدرجة النضج التي تؤهلنا لدرجة أن ننحي مشاعرنا الإنسانية بعيدًا عن السياسة، ومن ثم طال الاحتقان البيوت المصرية التي كانت تقدس صلة الرحم، وأقول إن ذلك هو ما استجد علينا، دخلت إلي نفوسنا معان جديدة ومتغيرات حادة فأحدثت تحولا واضحا حتي إن كان نسبيا ومتفاوتا، إلا أنه حرك في النهر مياها كثيرة، تلك المياه التي انعكست بصورة أو بأخري علي المشهد السياسي. هل كنا نتصور أن يأتي اليوم الذي تمتد فيه يد أخ تحمل سلاح الغدر إلي أخيه في الوطن، كنا في زمن مضي نحسب أن ذلك فقط مقصور علي محترفي القتل والمجرمين ومآلهم في نهاية الأمر إلي السجون حتي يلقوا حسابهم نتيجة جريمتهم الشنعاء، ولكن الآن الأرواح تزهق بغير حق ومازالت الأيدي الآثمة حرة طليقة والسبب في كل وقت هو غياب الأدلة. لقد سقط عدد لا يستهان به من خيرة شباب مصر منذ قيام الثورة حتي الآن، ولا ندري إلي متي يظل نزيف الدم ومتي ينتهي، في كل مرة نفجع وتعتصر قلوبنا ألمًا علي الشهداء والمصابين، والأفدح أننا حتي لا نعرف الجاني ولا تطاله يد العدالة حتي يشفي غليل أمهات وعائلات ثكلي لفقد فلذات أكبادهن، الشيء المخيف في المشهد الدموي الذي أصبح يتكرر وعلي فترات قريبة، إننا كدنا أن نعتاد المأساة والدليل علي ذلك أن حادث قطار أسيوط الذي راح ضحيته خمسون طفلا بريئا الذي حول قري بأكملها إلي حالة من المأتم الجماعي، رأينا في مساء اليوم نفسه الحزين قطاعًا من أبناء الوطن يسيرون بسياراتهم مبتهجين في الشوارع بفوز فريق في مباراة كرة قدم، هل هذه قوة أم ضعف أم ازدواجية تحتاج لعمل أطباء علم النفس؟ آخر المشاهد المأساوية في زمن الفتنة التي نقول 'لعن لله من أيقظها' هي أحداث قصر الاتحادية والتي وصل عدد الشهداء فيها إلي عشرة بعد وفاة الزميل 'الحسيني أبوضيف' متأثرًا بطلقة في المخ طبقًا لإحصاءات وزارة الصحة، وكأن سفك الدماء وإراقتها أصبح شيئا عاديا، كيف وصل المعتدون إلي هذه الدرجة من الكراهية العمياء التي حولتهم إلي حفنة من الأشرار استباحوا دم النفس التي حرمها سبحانه وتعالي.. يقول تعالي: }ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا{ صدق الله العظيم. الروح التي خلقها سبحانه وتعالي وكرمها وحرم قتلها بغض النظر عن كونه مسلمًا أو مسيحيًا أو أي ديانة أخري خلقت لعمارة الأرض، وطالما أوصي رسول الله 'ص' بالأقباط خيرًا فقال عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك 'إذا ملكتم القبط فأحسنوا إليهم، فإن لهم ذمة، وإن لهم رحما'، وكان عليه الصلاة والسلام يمشي في جنازة اليهودي، فقيل له إنها جنازة يهودي، فقال'أليست نفسا'، هذه هي أخلاق رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولكننا الآن نجد انحرافا بثوابت الأخلاق الإسلامية إلي منزلق خطير يكاد يعصف بالمجتمع ويهدد كيانه. ما رأيناه يوم الجمعة الماضي من أحداث عنف أمام مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية علي خلفية دعوة الشيخ المحلاوي بالتصويت بنعم علي الدستور يعكس - بحق - حالة العداء بين أبناء الوطن، تلك الحالة التي أصبح فيها الترصد هو 'سيد الموقف' ليس مهمًا إراقة الدماء بين الإخوة التي أصبحت من أسهل ما يكون، ولعل كمية الأسلحة التي نراها في أي اشتباكات تؤكد أن الحوار لم يعد الوسيلة وأن صوت السلاح هو الصوت الأعلي والناطق الرسمي للطرف الأقوي. مشاهد الدم المتكررة والأحداث الدامية التي تمر علي وطننا بوطأة تدفعنا إلي تأمل المشهد والتمعن فيه قبل فوات الآوان، فالدم المصري لم يعد خطًا أحمر كما كان علي مر العصور ولكنه أريق واستباح ولا نعلم إلي أي مدي يمكن أن تصل بنا الأمور إذا استمر الحال علي هذا الوضع. نائب رئيس جامعة الأزهر سابقًا الدكتور طه أبوكريشة يقول عن حرمة استباحة الدم، إن الله سبحانه وتعالي حرم قتل النفس فقال في كتابه العزيز }كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين.. { وقوله تعالي }من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فإنما قتل الناس جميعا{ ويقول النبي 'ص': 'كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه' وقال في حجة الوداع 'أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، آلا هل بلغت اللهم فاشهد'.وكذلك بيَّن النبي أن النفس المؤمنة حرمتها عند لله أكثر من حرمة البيت الحرام، وكل هذه القواعد والأصول الموجودة في القرآن الكريم وفي سنة رسوله 'ص' تعتبر بيانا واضحا أنه لا يحل لمسلم أن يقتل مسلما، ولا أن يعتدي عليه بأي لون من ألوان الاعتداء حتي لو كان الاعتداء بمجرد النظرة المزعجة أو المخيفة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: 'من نظر إلي أخيه نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة' ومن أجل ذلك دعا الإسلام إلي ضرورة أن يراعي الجميع مبدأ المسالمة، فالمسلم الحقيقي كما عرفه النبي 'ص' من سلم المسلمون من لسانه ويده، ويقول عليه الصلاة والسلام 'المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يقتل أخاه المسلم' ذلك لأن حرمة الدماء والمحافظة علي الحياة الإنسانية مبدأ وضرورة من الضرورات أو الحقوق الخمسة وهي حرمة الدين والنفس والعرض والنسل والعقل، فهذه مبادئ وقواعد ثابتة في كتاب الله تعالي وفي سنة رسوله وعلي المسلمين في كل زمان ومكان أن يطبقوا هذه المبادئ حتي يكونوا جديرين بأن يكونوا فعلا خير أمة أخرجت للناس وان هذا الدين جاء رحمة للعالمين كما قال تعالي }وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{صدق الله العظيم. وعن أثر ما يحدث علي المجتمع يري أن هذا يقدم لنا دليلا واضحا علي أن الناس ابتعدوا مسافات طويلة عن مبادئ دينهم القويم حتي ظهرت هذه الصورة التي هي مناقضة تمام المناقضة لما يأمرنا به ديننا الحنيف، فإذا كنا نريد أن نمتثل لديننا امتثالا حقيقيا، فإن ذلك لن يكون إلا من خلال التطبيق العملي لما جاء في تعاليم ديننا ومن هنا فإن ديننا يقول لنا الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فلابد من اجتماع الأمرين سلامة الباطن مع سلامة الظاهر، وما يحدث الآن من انقسامات واستباحة للدماء إنه يجعل الشعور بعدم الأمان يتسرب إلي النفوس ويجعل كل إنسان لا يأمن علي نفسه لا في بيته ولا في عمله ولا في الطريق الذي يسير فيه ومن هنا لا يستطيع الإنسان أن يقوم برسالته التي خلق من أجلها وهي إعمار هذه الأرض إلي جانب عبادته لله عز وجل. ويطالب أبوكريشة الجميع بأن يقوم بدوره لدرء هذه المخاطر التي تهدد استقرار المجتمع، فالمدرسة والجامعة والأسرة ودعاة الدين ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية كلها يجب أن تؤدي دورًا في نبذ العنف بين المواطنين، لأننا جميعًا في سفينة واحدة وكلنا راع ومسئول عن رعيته.