ليست هجمة إرهابية محليّة الصنع، لا تخطيطًا ولا تسليحًا ولا أداة، وهي كذلك ليست موجة دموية عابرة، ولكنها مقدمة مرحلة جديدة في استراتيجية غربية وإقليمية مضادة لمصر. ولهذا فإن قمتها الإرهابية التي حملت كلاّ من المتفجّرات وقذفتها بالخديعة والغدر علي ثلاثة مواقع لقوات الجيش والشرطة في سيناء، ليست منفصلة بأي حال من الأحوال عن ذلك التصعيد المنظّم في أعمال الإرهاب الممتدة في شوارع القاهرة، ومحافظات مصر، زرعًا للقنابل، وقطعًا للطرق، وإحراقًا لوسائل النقل، وتدميرًا لعمارة الأرض، وكلا الأمرين ليس مقطوع الصلة بأوضاع مستجدّة في البيئة الإقليمية والدولية، تلقي بظلالها القاتمة علي قلب الإقليم وحتي تخومه البعيدة، تغيّرًا في التحالفات، وخللاً في التوازنات، وإعادة ترتيب في الأولويات. والذين لا يرون ذلك بعمق ونفاذ، لن يستطيعوا أن يواجهوه بقوة وثبات، ولن يستطيعوا أن يقبضوا علي المبادرة السياسية بين أيديهم، وإن ظلّت المبادرة الأمنية فاعلة في محيطها، ذلك أن مصر تواجه بوضوح لا لبس فيه، حلقة جديدة من حرب مضادة، تشكّل صنفًا جديدًا من الحروب، تكاد تكون قد أُعِدّت خصيصًا لها، لا تنفصل فيها أعمال الإرهاب المعنوي، إكراهًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وحشدًا لأفتك أدوات الحرب النفسية، عن أعمال الإرهاب المادية قتلاً وترويعًا وسفكًا للدماء. جبهة المواجهة - إذن – أوسع بكثير من القنابل التي يلقيها هؤلاء المارقون الجبناء عند المحطات وفي القطارات وتحت حوائط المدارس ومؤسسات الدولة، ومن الرصاصات العمياء التي تفجّر بركة من الدماء هنا وهناك. بل هي أوسع مدي من مسرح المعركة الممتدة في سيناء، فجبهة المواجهة غدت فوق إحداثيات مصر كلها، جغرافيًا وطبيعيًا، وإذا كانت علي مقاس جسدها، فإنها تريد أن تطول رأسها، وأن تزهق روحها، وأن تعتصر قلبها، والأسلحة المضادة فوق هذه الجبهة - إذن – ليست مجرّد نفر من المارقين الذين يلحقون الأذي بالمواطنين الآمنين في الشوارع، ويسعون إلي إلقاء الفزع والرعب في قلوبهم، ولا في تلك المجموعات الضالة من الليبراليين المحدثين، الذين يلوكون شعارات مبتذلة ضد الدولة والجيش والشرطة، ولا في المجموعات الإرهابية المحلية والوافدة، التي تزرع الموت بموجب ما تم وضعه في أيديها من خطط ومال وخرائط وأسلحة، وإنما هي استراتيجية مضادة متكاملة الأركان والأبعاد، متعددة الوسائل والوسائط والأدوات، وإذا كانت الحلقة السابقة من هذه الاستراتيجية المضادة قد فشلت في تركيع الدولة المصرية، وإسقاطها وتغيير هويتها، كما فشلت في خلق حالة من الاحتراب الداخلي، إيقاظًا لكل التناقضات في بيئتها الداخلية، فإن الحلقة الجديدة، ليست معنية بالدرجة الأولي بإحداث شروخ عميقة في الجبهة الداخلية، بعد أن ثبت أنها أكثر صلابة من السهام المسمومة التي قد وجّهت إليها، وليست معنية بالدرجة الأولي بإسقاط الدولة، بعد أن بدا أنه هدف صعب المنال، وإنما تحويلها من دولة مركزية قوية فاعلة، إلي دولة هامشية مستضعفة فاشلة، وفي كل الأحوال فإن الدولة هي المبتدأ والخبر، وهي المقدمة والنتيجة، وهي القصد والغاية. *** أحسب أن علينا أن ننظر بكثير من العمق إلي كثير من المصطلحات والرموز التي لا تُلقي عبثًا في الفضاء المفتوح، جنبًا إلي جنب مع المتفجرات والقنابل وأدوات الموت التي لا تلقي عبثًا علي الأرض، علينا أن نلاحظ - مثلاً – أن الموقع الإلكتروني الذي بث رسومًا متحركة للخطة التي تم بها تنفيذ العملية الإرهابية الدموية في سيناء كأنه مسقط أفقي تم تصويره من أحد الأقمار الصناعية، بتوقيع 'داعش'، وباسم 'ولاية سيناء' قد حمل اسم 'دابق'، وهو إشارة مباشرة لمعركة 'مرج دابق' التي كانت مدينة 'حلب' في سوريا هي مسرحها الجغرافي، وهي موقعة كانت حدًا فاصلاً بين مصر المنتصرة باعتبارها القوة الكبري في الإقليم، وبين مصر المنكسرة التي تحوّلت إلي مستعمرة للدولة العثمانية كنتيجة لهذه المعركة، دامت أربعة قرون أذاق العثمانيون مصر خلالها كل صنوف الهوان والسقوط والانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولذلك فإن استقراء رموز التاريخ في الاسم المنتقي، والموقعة المشهورة، مشبّع بدلالات لا ينبغي أن تغيب ، فالمستهدف في الحالتين هو قوّة مصر العسكرية، أولاً وأخيرًا، والهدف في الحالتين هو كسر إرادة مصر وتركيعها، وفرض الهزيمة عليها، وتحويلها من أُمّة إلي أَمَة، والمعركة في الحالتين ليس مسرحها الداخل الوطني فحسب، وإنما امتداد مسرح الإقليم كله بالدور المصري التاريخي في بيئته المفتوحة، والعدو في الحالتين هو تركيا الاستعمارية التي غطّت أطماعها وتمدّدها بقناع زائف للخلافة الإسلامية في الموقعة الأولي، والتي تغطّي وجهها بقناع أكثر زيفًا، لإسلام لا إسلام فيه، لكن الجديد الذي ينبغي أن يكون أكثر وضوحًا، أنها لا تمثّل الآن نفسها وحدها، وإنما تمثّل إضافة إلي ذلك القيادة الجنوبيةالشرقية لحلف الأطلنطي، وتتمثَّل مخططاته واستراتيجيته للتمدّد جنوبًا، لكن المفارقة أن مصر لم تُهزم في المعركة الأولي علي أبوابها، وإنما هُزمت قرب هضبة الأناضول، بينما المطلوب الآن أن تلحق الهزيمة بمصر في عمقها وقلبها، كما أن الهزيمة قد تحقّقت في المعركة الأولي خلال صدام عسكري مباشر، بفعل فجوة التكنولوجيا، بين قوات 'الغوري' التي كانت تحارب بنمط حروب الفرسان، بينما كانت الأسلحة النارية مُشرَعة في أيدي العثمانيين، وهي فجوة لم تعد قائمة، ولهذا تكتسب الحرب أدوات أخري، هي أعمال الإرهاب المخطّط والمنظّم، فضلاً عن أنه إذا كان السيد أردوغان يتصوّر نفسه في الحلم أو في الواقع 'سليم الأول'، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليس 'الغوري'. ثم إن تركيا ليست حليفة فقط لجماعة الإخوان المسلمين، الذين يؤدون دورهم كأداة طيِّعة بين أدوات هذه الاستراتيجية المضادة، وإنما هي في علاقة عضويَّة مع تنظيم الدولة الإسلامية، وإذا كانت داعش تختفي خلف 'دابق'، فإن تركيا تختفي خلف داعش، ولكنها تعلن عن وجودها وحضورها ومعها حلف الأطلنطي بالدلالة والرمز، فقاعدة قيادة عمليات داعش، ليست علي الحدود التركية في الشمال السوري، وليست في قلب العراق، وإنما داخل الحدود التركية، وتخطيط العمليات، وتوجيهها، ومتابعتها شأنها شأن شبكة اتصالات داعش الدولية، تستقر آمنة في قلب تركيا، وهي موجودة في أحد المعسكرات الثلاثة التي تمثِّل قواعد خلفية لداعش للتدريب، والتخطيط، وقيادة العمليات في الإقليم، وأقرب الظن أنها موجودة في أهم هذه القواعد، في مدينة 'أوزمانيا'، وهي تقع علي مرمي حجر من القاعدة العسكرية الأمريكية التركية المشتركة في 'عدنان'، والتي تبدو أن أدواتها وأجهزتها، تقوم بتنظيم تعاون ناجح مع القاعدة الحليفة المجاورة التي تحتلّها قيادة داعش، أما القاعدتين الأخريّين للدولة الإسلامية الحليفة لتركيا وحلف الأطلنطي، فإحداهما موجودة في جنوب غرب تركيا، والثانية وسط الأناضول، وتحديدًا في مدينة 'كرمان'. كما أن تنظيم 'القاعدة' بدوره ليس بعيدًا عن هذا الحلف غير المُعلن، وإذا لم تكن قواعده للتدريب مرصودة داخل تركيا، فإن له علي الأقل مساكن آمنة في جنوبها. *** أرجوكم أن تُعيدوا قراءة الوقائع التي استبقت الأعمال الإرهابية الأخيرة التي شهدتها مصر خلال الأسبوع الأخير، وأن تضمّوا في خيط واحد، رؤوسها الكبيرة ليبدو لكم واضحًا، أن ما حدث ليس عشوائيًا وليس عابرًا، وإنما هو نتيجة لمقدِّمات قادت إليه، مثلما هو مقدمة لنتائج سوف يقود إليها. كان واضحًا - أولاً – أن سعي الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي تشكيل تحالف في مواجهة داعش، ثم شروعها ومعها بعض شركاء التحالف في عمليات لقصف داعش، في سورياوالعراق من الجو ليس هدفه تدمير داعش، وإنما إعادة تشكيل خارطة جديدة للإرهاب علي المستوي الإقليمي، تم بمقتضاه دفع بعض عناصره إلي داخل دول جوار مصر، وبناء قواعد لها، جنوبًا وغربًا، لتشكّل نقاط وثوب إلي داخل مصر برًا وبحرًا. وكان واضحًا - ثانيًا – أن السعي إلي إعلان مصالحة من جانب قطر تحديدًا مع مصر، كان شأنه شأن ذلك الهدوء المريب علي جبهة سيناء وفي الداخل لعدّة أسابيع، فلم يكن كلاهما أكثر من غطاء زمني لإعادة صياغة الاستراتيجية المضادة لمصر، والإعداد والتجهيز لمرحلة جديدة من أشكال الجريمة المنظمة فوق إحداثيات المسرح المصري مباشرةً، وتعميق أبعاد وأدوات النظرية المضادة نفسها: 'شد الأطراف واحتقان القلب'، وأذكر أنني كتبت مقالين متتاليين في هذا التوقيت، كان عنوان كل منهما موحيًا برؤية أخري، وهما علي وجه التحديد: 'هدنة موقوتة، وتصعيد محسوب'، و'غموض في النوايا'. وأما الهدنة الموقوتة، فقد انفجرت كما كان متوقعًا. وأما التصعيد المحسوب، فهو حاضر للعيان، وأما الغموض في النوايا، فقد كان بدوره شعارًا تقنَّع به السعي إلي الوصول لمرحلة البدء في إحداث تفجير كبير. وكان واضحًا - ثالثًا – أن سلطات في دول إقليمية بعينها باتت تري أن خطر داعش أقرب إليها من حبل الوريد، وأن تغيير نمط تحالفها علي هذا الأساس ينبغي أن يحظي بأولوية مطلقة، وأنها بالتالي بسبب ما تراه تهديدات بازغة جديدة علي حدودها، ينبغي أن تعيد صياغة مواقفها من جماعة الإخوان المسلمين، فهي يمكن أن تكون شريكة في مواجهة هذه التهديدات البازغة علي جانب، كما يمكن أن تكون غلافًا ناعمًا يحيط بها، ويقلل احتكاك داعش بها، ويجعله أكثر ليونة ويسرًا، ومن باب أولي أن تعمِّق علاقتها مع تركياوقطر، ثم كان ذلك كله أكثر توافقًا مع استراتيجية الولاياتالمتحدة، التي كانت بالتأكيد أهم دوافعه. وكان واضحاً - رابعًا – أن ثمّة قلقًا مضاعفًا من تماسك مصر، وعودتها إلي الإمساك ولو جزئيًا بدفع دفّة المتغيرات في الإقليم في الاتجاه الصحيح، سواء علي مستوي إعادة بناء علاقاتها الدولية والإقليمية، أو علي مستوي مواقفها المعلَنة من كل الصور التي تمثِّل تهديدًا للأمن القومي العربي، وإذا كان ذلك من شأنه أن يمثل عنصرًا لا يحظي بالقبول من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها الدوليين والإقليميين، فإنه بدوره يمثل عنصرًا محبطًا لقوي إقليمية أخري، تري أن الدور المصري المتعاظم، يمكن أن يكون حائط صد، أمام أمواج طموحها، للوصول إلي شاطئ المكانة الإقليمية الأولي، رغم اضطراب البحر، وشدَّة العواصف. *** تتنكّب مصر الطريق فوق هذا الجسر الصعب إذا فقدت ثقتها بنفسها، ويقينها بقدرتها علي أن تفرض إرادتها علي واقعها ومحيطها، وتنهار من تحت أرجلها سلالم ذلك الممر العلوي الذي صنعته ثورتها العظيمة، نحو سماوات أحلامها المرصَّعة بالنجوم، إذا انطفأت في روحها تلك الشُعلة المتأجّجة إيمانًا بالذات، وإدراكًا لمكامن القوة والقدرة، إذ لا شيء في ميزان القوي يتناسب مع الروح المعنوية للشعب، فهي الثقل الأكبر في كفّة الميزان. غير أن الروح المعنوية ليست نشيدًا حماسيًا في المذياع، ولا خطابًا ورديًا عبر الشاشات، ولا أقراصًا للتفاؤل توزّعها الحكومات مع الصحف اليومية. كما أنها ليست وعودًا مبذولة بالاستقرار والرخاء. وإنما هي منسوب الرضا العام الذي يجري طليقًا في الشوارع والحارات والحقول، وفي هذه الدائرة تحديدًا، يتراكم أكثر ما تنتجه هذه الحكومة من سلبيات، وهو إطفاء الروح المعنوية للشعب، فليس المشكلة أن الضعف بادٍ، والقرارات مرتبكة، وفوضي السوق ناشبة، والرؤية محدودة، والاقتصاد مستنزف، والفقر والجوع يتكاثران في الأركان، والنظام الاقتصادي لازال مرآة للنظام السابق، ولكن في مردود حاصل ضرب كل ذلك علي الناس، والذي لا يخرج عن كونه حقنًا منظمًا للشعب بالإحباط وفقدان اليقين. لقد قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، إنه مستعد لأن يقف ضد الدنيا كلها إذا كان المصريون معه، وهو صادق باليقين فيما يقول، كما أن المصريين باليقين معه، ولكنهم يقفون علي الضفة الأخري من هذه الحكومة، توجهًا ومنهجًا في كافة مناحي العمل الوطني، فليس المطلوب الآن تحديدًا تخفيض التناقضات مع الخارج، علي حساب تصعيد التناقضات في الداخل، وإنما المطلوب تمتين الداخل وتقوية مناعته الوطنية، وهو ما ينبغي أن يكون قبل كل حساب، وفوق أي حساب!.