مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025 في القاهرة وعدد من المحافظات    أسعار الأسماك والخضروات والدواجن اليوم 29 ديسمبر 2025    جيش الاحتلال يقصف مناطق في غزة بالمدفعية والطيران    تحرك شاحنات قافلة المساعدات 104 تمهيدًا لدخولها من مصر إلى غزة    كوبانج الكورية الجنوبية تكشف عن خطة تعويضات بعد اختراق البيانات    مواعيد القطارات المتجهة إلى الوجهين القبلي والبحري من أسوان اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025    فخري الفقي: كل انخفاض 1% في سعر الفائدة يخفض فوائد الدين 45 مليار جنيه    إعلان نتيجة الحصر العددي لانتخابات مجلس النواب بالدائرة الأولى في البحيرة    متحدث الوزراء: الحكومة تحاول تقديم أفضل الخدمات لمحدودي ومتوسطي الدخل وفق الموارد المتاحة    وزير الإعلام الصومالي: اعتراف إسرائيل بأرض الصومال انتهاك لسيادتنا.. وسنلجأ للأمم المتحدة    الصين تعلن بدء تدريبات بالذخيرة الحية حول جزيرة تايوان    بعد لقاء ترامب وزيلينسكي، ارتفاع أسعار النفط في ظل تصاعد التوتر بالشرق الأوسط    رئيس اتحاد المستأجرين: عقودنا رضائية.. وقدمنا 36 طعنا بعدم دستورية قانون الإيجار القديم    أوصاني بحذف أغانيه.. شحتة كاريكا يكشف اللحظات الأخيرة في حياة الراحل أحمد دقدق    طارق الشناوي: المباشرة أفقدت فيلم «الملحد» متعته ولم يُعوِّض الإبداع ضعف السيناريو    مقتل 16 شخصا في حريق دار مسنين بإندونيسيا    أحمد عبد الله محمود يكشف ملامح شخصيته في «علي كلاي»    وداع موجع في كواليس التصوير... حمزة العيلي يفقد جده والحزن يرافقه في «حكاية نرجس»    هل تتزوج لطيفة في 2026؟.. توقعات «بسنت يوسف» تثير الجدل    عمرو يوسف يكشف تفاصيل صداقته القوية ب عمرو دياب    بالرقص والهتاف.. احتفالات واسعة في طهطا عقب إعلان فرز اللجان الانتخابية    مباحث العبور تستمع لأقوال شهود العيان لكشف ملابسات حريق مخزن كراتين البيض    نتيجة الحصر العددى للأصوات بالدائرة الثامنة دار السلام سوهاج    الدفاع الروسية تعلن إسقاط 21 مسيرة أوكرانية خلال ثلاث ساعات    حسام حسن يستقر على رباعي دفاع منتخب مصر أمام أنجولا    اليوم، الاجتماع الأخير للجنة الرئيسية لتطوير الإعلام بعد انتهاء مهامها    كشف ملابسات تعليق بشأن سرقة دراجة نارية لطفل بدمياط    كشف ملابسات مشاجرة بين أنصار مرشحين بدار السلام في سوهاج    يحيى حسن: التحولات البسيطة تفكك ألغاز التاريخ بين الواقع والافتراض    فوضى السوشيال ميديا    البوصلة والربان!    الفرق بين الحزم والقسوة في التعامل مع الأبناء    ترامب: اتفقنا على 95% من ملفات التسوية في أوكرانيا    النيابة الإدارية تنعى مستشارة لقيت مصرعها أثناء عودتها من الإشراف على الانتخابات    ما هو فضل الدعاء وقت الفجر؟    طفرة غير مسبوقة بالمنيا.. استرداد 24 ألف فدان وإيرادات التقنين تقفز ل2 مليار جنيه    مشروبات تهدئ المعدة بعد الإفراط بالأكل    طاهر أبو زيد: مكاسب حسام حسن مع المنتخب إنجاز رغم الظروف.. والمرحلة المقبلة أصعب    كأس عاصمة مصر - أحمد عبد الله يدير لقاء الأهلي ضد المقاولون العرب تحكيميا    الجزائر يتصدر المجموعة الخامسة ب6 نقاط ليحسم تأهله رسميا لدور 16 بأمم أفريقيا    BeOn تحصل على استثمار استراتيجي بالدولار لدعم التوسع الإقليمي وتطوير حلول CRM الذكية    الداخلية السورية: احتجاجات الساحل نتيجة دعوات انفصالية    وزير الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ نحو مليون و960 ألف وحدة سكنية متنوعة    اشتعال المنافسة، كوت ديفوار والكاميرون يكتفيان بالتعادل الإيجابي في أمم أفريقيا 2025    على رأسهم مصر.. 3 منتخبات حسمت تأهلها رسميا بعد الجولة الثانية لمجموعات أمم أفريقيا 2025    أمم إفريقيا – تعرف على جميع مواعيد مباريات الجولة الثالثة    حسم التأهل مبكرًا.. مصر ونيجيريا والجزائر إلى دور ال16 من أمم أفريقيا 2025    مصرع طفلين في تصادم بالفرافرة    محافظ الفيوم يتابع غلق لجان التصويت في اليوم الثاني لانتخابات النواب بالدائرتين الأولى والرابعة    الصحة تكشف أبرز خدمات مركز طب الأسنان التخصصي بزهراء مدينة نصر    عاجل- رئيس الوزراء يستقبل المدير العام للمركز الأفريقي لمكافحة الأمراض ويؤكد دعم مصر لاستضافة الآلية الأفريقية للشراء الموحد    الأزهر للفتوي: ادعاء معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل ممارسات تخالف صحيح الدين    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    وزارة الداخلية تضبط 4 أشخاص جمعوا بطاقات الناخبين    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصريون يهشمون زجاج الاستراتيجية الأمريكية
نشر في البديل يوم 18 - 07 - 2013

يدرك العالم أجمع ربما قبل أن ندرك نحن ، أن المصريين شعبا وجيشا قد فجّروا مفاجأة استراتيجية عظمى ، تنصب نتائجها كالشلالات الهادرة في مجرى التاريخ ، كواحدة من ظواهر صناعة التحولات الكبرى ، التي ستغطي تفاعلاتها العميقة تضاريس زمن طويل قادم ، وبيئة دولية ممتدة واسعة .
بل إن طاقة التغيير الهائلة التي أنتجتها ومن ثم فعل التأثير الواسع المترتب عليها ، لا يقل قيمة وعائدا في منظور التحولات الاستراتيجية الكبرى ، عن أي من المبارزات التاريخية والحروب الكونية ، التي تعد على أصابع اليد الواحدة ، فوق مجرى التاريخ الإنساني ، وإذا كان الأمر في حدوده الوطنية ، يبدو ضربا من المعجزات على غرار انتصار أكتوبر العظيم ، فهو ليس معجزة القوة بالدرجة الأولى ، ولكنه معجزة الحضارة في الحالتين ، ومعجزة الإرادة مرة باسم إرادة القتال ، ومرة باسم إرادة التغيير ، وكلتاهما من منجم إنساني واحد ، وحتى في إطار هذه الحدود الوطنية الخالصة ، فإن المقاربة بين انتصار أكتوبر وانتصار ثورة 30 يونيو ، قد تطرح من بعض الزوايا تماثلا مذهلا ، فقد تبادل الجيش الوطني والشعب العظيم المواقع ، مرة هنا ، ومرة هناك ، فإذا كانت جبهة المواجهة المباشرة في حرب أكتوبر هي القوات المسلحة ، بينما كان الشعب عمقا حيا وسندا صلبا ، فقد شكل الشعب في هذه المرة جبهة المواجهة المباشرة ، بينما جاء دور الجيش عمقا حيا وسندا صلبا لها ، فنتائج حرب أكتوبر هي محصلة انتصار الشعب بالجيش ، ونتائج ثورة 30 يونيو هي محصلة انتصار الجيش بالشعب ، وفي الحالتين فإنه انتصارهما معا ، وفي الحالتين فإن الوشائج والصلات ممتدة بينهما ، كأنهار المياه الجوفية في عمق التربة الوطنية .
▲▲▲
من هذا المنظور الواسع ينبغي النظر إلى ما حدث يوم 30 يونيو ، والأيام التالية عليه ، وجسور الأيام الممتدة أمامه في مرمى البصر ، وفي هذا المنظور الواسع ينبغي قراءة وتفسير المواقف المحيطة بالمشهد ، وتلك التي تلقي في جوانبه ما بوسعها من إرهاب وقتل وتفجير :
أولا : لقد أنجز المصريون شعبا وجيشا عملا هائلا بكافة المقاييس الحضارية والتاريخية والاستراتيجية ، ولقد خرج العمل والفعل إلى حيز الوجود ، وليس بمقدور أحد مهما كان ، أو قوة مهما بلغت ، أن توقف نتائجه ، أو تدفعه دفعا إلى الوراء ، فقد خرجت الرصاصة من فوهة البندقية ، وإذا كان على المصريين جميعا أن يتمسكوا بإنجازهم ، وأن يقوموا بحمايته ، فإن عليهم في الوقت ذاته ألا يسمحوا لأحد بأن يفسد فرحتهم ، وزهوهم ، وصمودهم الصلب ، وصعودهم الغالب ، إن الروح المعنوية الهائلة التي ترفرف في فضاء مصر كأنها نسر يغطي بأجنحته سمواتها العالية ، عليها أن تظل في مكانها كما هي في قلوبهم ، دائمة الإشراق كأنها شمس منتصف النهار ، لا تطفئها بعض الغيوم العابرة السوداء ، ولا تغطيها بعض عواصف الأتربة والغبار .
ثانيا : إن أسوأ ما يمكن أن تقع فيه الرؤية المصرية من خطأ في مواجهة سهام الاتهامات المسمومة الكاذبة ، التي تنهال عليها من ترسانة الإعلام الأمريكي خاصة ، والغربي عامة ، وكذلك من أفواه الإدارة الأمريكية ، أن تتمحور جهودها نحو صياغة موقف دفاعي عن نفسها فتتوافق ضمنيا مع محاولات دفعها إلى الجلوس فوق مقعد المتهم ، فليس ثمة اتهام واحد معلق فوق رأس مصر ، أو فوق رأس جيشها ، فالرد المصري في كل الحالات لا ينبغي أن يكون دفاعا في مواجهة هجوم ، وإنما ردا على هجوم بهجوم مضاد ، يوضح الأدوار والأطماع ، ويفضح جيوش الخداع والتضليل ، فليس هناك في زوايا المشهد كله ، ما يبدو ملتبسا أو غامضا ، إلا إذا كان المطلوب ساعتها من الجيش المصري بعقيدته الوطنية الخالصة ، أن يواصل الجلوس هادئا يفرك أصابعه على الجانب الآخر من التل ، مكتفيا برؤية سيوف الجماعة والمتحالفين معها ، وهي تلغ كالفئران في برك دماء ملايين المصريين الغاضبين السلميين المسالمين ، نساءا وشيوخا وشبابا .
ثالثا : عند النظر في تحول موقف الجيش نحو الانحياز العملي لمطالب عشرات الملايين من المصريين الذين شكلوا طبقة حية غطت شوارع القاهرة والمحافظات ، وتمدد نبضها حتى شقوق الحواري الخلفية ، ومداخل القرى المنسية ، ينبغي التوقف أمام العناصر التالية :
1. إن هذه الملايين المسالمة السلمية ، قد مثلت كتلتها البشرية البدن المصري كاملا ، وأنها في الوقت نفسه من منظور الرؤية المباشرة ، كانت واقعة تحت تهديد مباشر لإزاحتها حيث كانت ، باستخدام القوة الغاشمة ، فإذا كانت المعلومات حول ذلك قد توفرت على جانب ، فقد كان الإحساس بها غريزيا متوفر في الشارع ، وهذا ما جعل نداءه يخرج قويا عاليا لا يطلب غير الحماية ، ولم يكن بمقدور الجيش وهو يسمع نداء الاستغاثة وطلب الحماية ، ويرى بعينيه نذير التهديد والخطر ، أن يصم أذنيه ويغلق عينيه .
2. إن الحفاظ على تماسك ووحدة بنية الجيش المصري ذاته ، كان من بين العوامل الأساسية في اتخاذ قرار الانحياز إلى الشعب ، على نحو عملي في تلك الظروف الضاغطة ، فبنية الجيش المصري في ذاتها مرآة عاكسة لبنية الشعب المصري ، فهي تمثل خريطة مصر الجغرافية دون استبعاد ، وخريطتها الاجتماعية والاقتصادية دون انحياز ، وخريطتها الفكرية والعقائدية دون تمييز ، وهو بالتالي قوام جيش منتخب انتخابا طبيعيا بمعيار واحد هو العدل في ضريبة الدم ، وهو أمر قد لا يفهمه الجنرالات الأمريكيون ، باعتبار أن الجيش الأمريكي يمثل بنية متطوعة بالأجر على نحو كامل ، ولذلك عندما اتسعت قاعدة العزوف عن التطوع في أعقاب الخسائر التي لحقت بالجيش الأمريكي في معارك العراق وأفغانستان ، اتخذت هيئة الأركان الأمريكية مجتمعة قرارا لتوسيع قاعدة التطوع بالسماح للشواذ والمثليين الجنسيين بالانخراط في صفوف الجيش بعد أكثر من ثلاثة عقود من المنع القاطع .
3. لقد لعب عنصر القيادة دورا كبيرا في دفع الأمور في اتجاهها المرجو ، سواء أكنا نتحدث عن القيادة على رأس السلطة السياسية يف ذلك التوقيت ، متمثلة في الدكتور محمد مرسي ، أو القيادة العسكرية متمثلة في الفريق أول عبد الفتاح السيسي ، وللتوضيح فقط وإجلاء أهمية عنصر القيادة ، الذي لا ننظر غالبا إليه بما يستحقه من اهتمام ، في دولة مركزية الطابع تاريخيا كمصر ، فقد أجرى فقهاء الاستراتيجية الفرنسيين دراسة تفصيلية للمعارك التي قادها الجيش الفرنسي وعلى رأسه نابليون بونابارت ، في إطار مقارنة لمعارك مماثلة كانت تتمتع بقيادة مختلفة ، ثم خلصوا غلى نتيجة محددة هي أن وجود نابليون بونابارت على رأس الجيش في أي من هذه المعارك شكل وزنا إضافيا لقوة الجيش يساوي إضافة 40 ألف جندي إلى قواته الضاربة ، ولما كان تعداد الجيوش في هذه المعارك يتراوح بين 100 ألف إلى 150 ألف جندي ، فمعنى ذلك أن القيادة تشكل من 25% إلى 40% من قوة الجيش ، أو من قدرة المؤسسة ، وأن هذه النسبة قد تكون بالإضافة أو الحذف ، وإذا كانت قيادة السلطة السابقة قد واصلت داخل حدود مغلقة تماما مباراتها الصفرية الضيقة الأفق ، فقد كان من حسن طالع مصر أن توفرت لجيشها قيادة نافذة الرؤية استراتيجيا ، ولكنها في الوقت نفسه تكاد أن تكون تمثيلا حيا لمقولة أفلاطون الخالدة : " إن الحكمة السياسية هي أم الحكمة العسكرية "
رابعا : لا مراء عندي أن الشرطة المصرية لم تعد كما يقال إلى حضن الشعب ، فالمعنى الأكثر عمقا لحضور الشرطة في المشهد الراهن أنها عادت إلى حضن تاريخها الوطني ، الذي أرض ممتدة بلا فواصل ، لقد ولد الجيش والشرطة مرتين في وعاء تاريخي واحد ، مرة عندما ابتنت مصر أول أمة وأول دولة في التاريخ ، ورأت في الأمن الداخلي والأمن الخارجي وحدة واحدة لا تنفصل ، ومرة أخرى مع المشروع القومي لمحمد علي ، حيث لم يكن ثمة تمييز بين الجيش والشرطة إلا في حدود المهمة المباشرة الذي ينتقل القادة والأفراد بين أمن الداخل وحروب الخارج في إطارها ، ولم يحدث الفصل بينهما إلا مع تقرير ( دوفرين ) الذي أوصى بفصل الشرطة عن الجيش مبررا ذلك بالعمل على منع سريان الروح الوطنية من الجيش إلى الشرطة ، ومع ذلك فقد ظلت الروح الوطنية متأججة في قلب الشرطة على امتداد معارك مصر الكبرى وحتى العبور العظيم ، وفي قلب المحنة الأخيرة على امتداد عام مفعم بالتحديات كان طبيعيا أن تصعد عصارة الوطنية المصرية إلى شجرة الشرطة ، فتطرد عتمة عابرة إلى حيث أرادت أن تصطف مجددا ، إلى جوار شعبها تحت شمس الحرية .
خامسا : لقد تعرضت في الأسابيع الماضية مرارا بنوعين من الأصوات التي حاولت أن تحقن الرأي العام المصري بقناعة قالت أنها تخلقت في دائرة الإدارة الأمريكية ، وكنت أراها كاذبة ، كان الصنف الأول يقتصر على صوت واحد هو صوت الدكتور سعد الدين إبراهيم ، الذي أخذ يوزع بإسراف شديد خطابا متكررا على وسائل الإعلام المختلفة يؤكد فيه أن الإدارة الأمريكية قد أدركت عقم تجربة الإخوان ، وأنها جاهزة بحكم نزوعها الديمقراطي إلى الاعتراف بإزاحتهم عندما تخرج جموع المصريين لطلب ذلك ، وكان الصنف الثاني لمجموعة من أصوات المرتحلين بين مصر وأمريكا ، من بعض السياسيين والإعلاميين ، والذين ما انفكوا في أعقاب كل ندوة أو لقاء في واشنطن أن يعيدوا على مسامعنا أن الأجهزة الأمريكية من البنتاجون إلى المخابرات المركزية غاضبة من سلوك الإخوان ، وشبه رافضة لبقائهم ، وأن الإدارة الأمريكية تعيد قراءة مشهد وجودهم على رأس السلطة في مصر بشكل نقدي ، ولم يكن في ذلك كله شئ من الحقيقة وإنما ظلا لتكنولوجيا صناعة الوهم ، غير أن الأمر لا يعنيني الآن إلا في حدود الأصوات ذاتها التي تبشرنا الآن بأن أمريكا سرعان ما تعود إلى سيرتها الأولى مع مصر ، لأن مصالحها في مصر أكبر من تتجاهلها أو تتجاوزها ، والأمر عندي ليس بسيطا ، وليس مؤقتا ، على هذا النحو ، كما أنه ليس متصلا بالمادة 61 من القانون الأمريكي الذي يحتم إيقاف المعونة في حالة انقلاب الجيش وانقضاضه على السلطة ، وإذا كانت أقمار التجسس الأمريكية المسلطة على الفضاء المصري تستطيع أن تبث لهذه الإدارة صورا تتضمن أرقام السيارات العابرة فوق الجسور في القاهرة وكافة المدن المصرية ، فإن التعلل بعد التحقق من طبيعة ما حدث في مصر ، وهو ثورة شعبية بكل المقاييس الإنسانية والتاريخية ، هو محض افتراء ، على غرار التعلل بصندوق الديمقراطية المغلق ، في مواجهة صندوق الشعب المفتوح من كافة جوانبه ، بل إن التعلل بالنزوع الأمريكي إلى الديمقراطية لا يخرج عن التوصيف السابق ، فبمقدورنا أن نقدم قائمة طويلة بأعمال العنف والانقلابات العسكرية التي دبرتها ومولتها كافة الإدارات الأمريكية السابقة ، مما يقطع بأن حديث الديمقراطية وحقوق الإنسان هو بدوره جزء أصيل في لعبة الخداع الاستراتيجي .
لذلك فإن أولئك الذين ينفون أو يقللون من التأثيرات المحتملة ، التي يمكن أن تسعى إلى إحداثها الاستراتيجيات الغربية المضادة لهذا النهوض المصري ، لا يقدرون حجم الخسائر التي لحقت بقلب الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة والغرب ، ولا يقدرون حجم التكلفة الباهظة التي دفعتها أمريكا ، لتثبيت هذه الاستراتيجية وتفعيلها وصيانة أدواتها ، ولذلك أيضا فإن جانبا من المفاجأة الاستراتيجية العظمى التي صاغها الشعب والجيش المصريين ، أنها في لحظة اتسمت بالشجاعة والمبادءة والحسم داست على قلب هذه الاستراتيجية وهشمت قاعدتها الاساسية في مصر ، كأنها مسطح من الزجاج ، ولم يكن الرئيس بوتين باسلا أو كريما وهو يقف ليحيي الشعب المصري الذي ألقى دروسه على مسامع الجميع ، أو وهو يعرض عليه ما يشاء من مساعدات ، فالواقع أنه كان يرى بعيدا من فوق شرفة عالية طبيعة الفعل الهائل الذي صنعه الشعب المصري وجيشه وحجم تأثيره الغالب ، الذي تتصل أمواجه الدافقة ، ودواماته العاصفة إلى ما وراء البحار والمحيطات .
▲▲▲
تبدو دائرة العثمانيين الجدد في تركيا هي الأكثر وضوحا في توترها وعصبيتها وانشدادها ، ولا تثريب عليها فلن تذرو رياح الثورة المصرية أحلام الإمبراطورية ، وما تحسبه ميراثها ومتاعها في الإقليم فحسب ، ولكنها ستمارس بشكل جانبي وعلى نحو تلقائي ضغطا شديدا على مركز هذه الدائرة ، ومن حيث أرادت تركيا وحزبها الحاكم في الأصح ، المساهمة في إعادة تشكيل البيئة الداخلية المصرية ، في إطار طموح قاهر لتمدد نفوذها شرقي البحر المتوسط ، فإن المتغيرات المستجدة في البيئة الداخلية المصرية ، ستكون مؤهلة بإشعاعها المجرد للمساهمة في إعادة تشكيل البيئة الداخلية لتركيا ، ومع أن السيد أوباما بدا اقل توترا لكنه أختار أكثر من مرة ، ان يعبر عن قلقه العميق تجاه ما يحدث في مصر ، خاصة بعد أن اكتملت دائرة التغيير ،وقد انتقلت كلماته بحروفها ، وجرت على لسان الأمي العام لحلف الأطلنطي ، ثم انتقلت بدلالاتها وجرت على لسان الجنرال " مارتن ديمبسي " رئيس قيادة الأركان الأمريكية المشتركة ، ثم كان خبز القلق عند الأول والأخير مغموسا في طبق المساعدات الأمريكية ، ولا أعرف ما إذا كان قد مر في مخيلة السيد أوباما وهو يهدئ من قلقه العميق ، صور الدم الذي يمارس الإخوان سفكه في شوارع مصر ، ولكنني أحسب أن الجنرال ديمبسي استعاد وهو يعبر عن قلقه العميق ، حديثا تليفزيونيا أجراه في مارس من العام الماضي ، كان حرصه بالغا خلاله علة أن يقدم شرحا أكثر تفصيلا للمرحلة الأولى في خطوط الاستراتيجية الأمريكية على المستوى الإقليمي ، وإذا لم يكن قد استعاده فبمقدورنا أن نستعيده بكلماته على النحو التالي :
1. ستصبح مصر أكثر أهمية للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بعد سقوط بشار ، وتشكيل حكومة سنية في سوريا .
2. سيكون ذلك اكتمال قوس سني ، يقف في مواجهة العالم الشيعي بقيادة إيران .
3. سيتكون هذا القوس من سوريا - مصر - ليبيا - تونس - المغرب .
4. سيكون هذا القوس مدعوما من دول الخليج ، رغم حساسيتها لجماعة الإخوان المسلمين .
قبلها بشهر واحد كان " هينري كيسنجر " صاحب نظرية ( لا عولمة دون عسكرة ) والتي مثلت جانبا من الأساس الفكري لتحولات الاستراتيجية الأمريكية في القرن الجديد يحدد لصحيفة " ديلي سكيب " الخطوط الأساسية لتحول أكثر جدة وحدة ووضوحا ، يتلخص في ضرورة السيطرة على سبع دول في الشرق الأوسط ، نظرا لأهميتها الاستراتيجية ، وأن ذلك يعني أن نصف الشرق الأوسط سيكون لإسرائيل ، كما يعني أنه لم تتبقى إلا خطوة واحدة لضرب إيران ، وأنه عندما تستيقظ روسيا والصين من غفوتيهما سيكون الانفجار والحرب الكبرى ، لقد تمت التغطية على كلام كيسنجر بعد ذلك بالقول أنه كلام ساخر لصحيفة ساخرة ، وكان من الواجب أن يضاف غلى ذلك القول ، أنه ليس موجها إلى جمهور عربي ، يبدو أكثر سخرية .
▲▲▲
بصدد الفتنة الإخوانية المسلحة ، التي تتحرك بالحديد والنار في جنبات مصر وشوارعها مستهدفة ملأ بركة واسعة بدم المصريين ينبغي أن يكون واضحا أن القصد على غير ما يشاع ليس هو استعادة ملك هوى ، فقد تهشم العرش شظايا ، كما أن القصد على غير ما يقال ليس تحسين شروط التفاوض لتجنب أحكام قضائية مستحقة بالسجن على الرؤوس ، أو بالعزل على غيرهم ، فسفك مزيد من الدماء يثقل العقوبات ولا يفك أغلالها ، وإنما القصد واقع بالاتفاق في سعي أمريكي لاستعادة السيطرة باستخدام القوة ، إذا نجحت فتنة الدم والذبح ، في أن تفسح مساحة تقفز عليها الاحذية الأمريكية الثقيلة .
تم النشر بالتعاون مع مركز يافا للدراسات والأبحاث القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.