تعرف بعض الأوساط العلمية نظرية اسمها ( أثر الفراشة ) يقول منطوقها " لو رفرفت فراشة بجناحيها في هونج كونج ، فذلك يمكن أن يؤثر على المناخ في لندن " ، لكن هذه الصورة التي تتنفس عبيرا شاعريا طازجا ، لتأكيد مدى التأثرات المتبادلة في آفاق وجوانب العالم المفتوح ، مهما كانت محدودة أو متناهية الصغر ، صاغها الإستراتيجيون الأمريكيون بأصابع فكرية خشنة ، تحت عنوان آخر هو ( نظرية الصدى ) تقوم على عدم الفصل بين التأثير المباشر لطلقة البندقية أو المدفع ، وبين الصدى الناتج عن العملية ، فإذا كان الصدى يستبق الطلقة ، ويتوزع في دائرة أوسع بكثير من حدودها ، فلابد في كل حالة مشابهة من النظر في الحسابات المتعلقة بتأثير الصدى في البيئة المحيطة ، قبل أن يتم قذف الطلقة من فوهة البندقية ، لكن الواضح أن الأمريكيين لم يضعوا هذه النظرية يوما موضع تطبيق ، ولهذا ظلوا في كل الحالات مشغولين بقذف الطلقة ، لا بالحسابات المعقدة لنتائج الصدى المترتب عليها ، وذلك لا يحتاج إلى تدليل ، فأثرها يبدو في كل معاركهم عبر التاريخ ، وهو يبدو مؤخرا على سبيل المثال في حسابات صدى الطلقة في العراق على تمدد الجار الإيراني ، أو حسابات صدى الطلقة في سوريا على الأوضاع الداخلية للجارين التركي واللبناني ، ذلك أنه في أحوال عديدة كثيرا ما يكون ما يتحقق من تأثير ضار وسلبي جراء صدى الطلقة أكبر بكثير مما يتحقق من تأثير نافع و إيجابي ، حتى لو نجحت في إصابة الهدف . أقول ذلك لأنني أعتقد أن صدى الطلقات الإستراتيجية الأمريكية في الإقليم أصبح أكثر فاعلية وتأثيرا من الطلقات ذاتها ، لكن تأثيرها بات يأخذ منحى متناقضا مع مسار الطلقات وأهدافها المباشرة ، وأظن أن ساعة التغيير في الإقليم ، والتي تحركت عقاربها عكس اتجاه عقارب الساعة أو عكس عقارب التاريخ فعليا ، على امتداد الفترة الماضية ، قد أخذت تتحرك رويدا في الاتجاه الآخر ، أي في اتجاه عقارب الساعة أو اتجاه عقارب التاريخ ، على نحو أدق ، وذلك قد يتطلب بالضرورة الإجابة على سؤالين : الأول : إذا صح ذلك فلماذا أصبح تأثير صدى هذه الطلقات ، أبعد مدى منها ، ومناقضا في الوقت نفسه لاتجاهها وأهدافها ، وكأن التفاعلات الجانبية في الإقليم قد سيطرت على التفاعل الرئيسي ، ودفعته في الاتجاه المعاكس . أحسب أن هناك عدة عناصر أساسية ، اندفعت تفاعلاتها المشتركة ، لتحويل عقارب ساعة التغيير في الإقليم نحو الاتجاه المعاكس ، أو نحو الاتجاه الذي يتسق مع إيقاع التاريخ : الأول : ذلك الفشل الهائل في تقدير قوة الشعب المصري ، واستبصار ذكائه الفطري ونبوغه الحضاري ، وذلك النكوص الواضح في محاولات احتوائه ، فقد كان الفهم الغالب لدى أصحاب الاستراتيجية الأمريكية ، وأدواتهم الإقليمية والمحلية ، قد حصر الشعب المصري – أولا – في أنه قد أخرج طاقته في ثورة عاصفة ، وأن رصيد هذه الطاقة قد انتهى ، وأصبح كاليورانيوم المستنفد ، قد يطلق بين آونة وأخرى بعض إشعاعات متقطعة ، لكنها قليلة الفاعلية ، محدودة التأثير ، وحصره – ثانيا – في أنه شعب طائع سهل المراس ، تقلّب بين يدي الظلم والاستغلال والبطش لقرون ممتدة في التاريخ ، ولعقود قريبة ، وأن خروجه العاصف لا يشكل إلا استثناءا عابرا ، قد يحتاج إلى عقود أخرى كي يثمر موجة ثورية جماعية ، وحصره – ثالثا – في أنه شعب يمتلئ وجدانه بالإيمان والتدين ، وأن إشعاع سلطة على وجهها بغض النظر ع سلوكها ملامح تعكس صورة من هذا الإيمان والتدين ، كفيل بأن يخادعه وأن يبقيه رهين سطوتها ، رغم اعتلال أحواله ، فغناه الروحي الشكلي سوف يغالب استلابه المادي ، وحصره – رابعا – في أن نخبه السياسية التي تقف على الضفة الأخرى ، تبدو مشتتة ومتنافرة فضلا عن أنها ليست موصولة كليا بقواعدها السياسية أو الاجتماعية في أنسجة المجتمع ، دون أن يدرك أن مقوّد القيادة والحركة قد انتقل بشكل تلقائي ، من داخل مقرات الأحزاب والقوى السياسية ، إلى الميادين المفتوحة والشوارع الرحبة . الثاني : ذلك التناقض الفاحش بين صورة الإيمان والإسلام كما يعرفها ويحسها ويتنفسها ، وبين الصورة التي عكستها الممارسة العملية لأولئك الذين قفزوا فوق مقاعد السلطة ، وهم يلفون على صدورهم اسم الإسلام العظيم ، لقد كان اندفاعه لتأييد الجماعة ووجوهها في جوهره ذو منحى أخلاقي خالص ، يقوم أساسا على مبدأ العدل والمساواة ، ولكنه سرعان ما أدرك دون جهد ، أنه استبدل بعد ثورة عظيمة بغيا أضعف ببغي أقوى ، واستغلالا أقل باستغلال أكبر ، وتبعية أضيق بتبعية أوسع ، وفشلا أدنى بفشل أعلى ، بل أنه وجد أن كيانه الوطني نفسه ، قد أصبح عرضة للتآكل ، و عرضة للتقسيم ، وقد تكاثرت عليه صنوف وألوان من التهديدات المستجدة ، ولقد كانت الفجيعة كبيرة ، لأن القياس بين ثمرة الحلم ، الذي أنضجته الثورة ، وبين حصاد الهشيم ، الذي وجه في كل الساحات ، السياسية ، والاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية ، والإنسانية ، أكثر قسوة على النفس ، من أن تتحمله دون غضب ، وأن تكتمه دون انفجار . الثالث : ذلك المنتوج الهائل ، من أنقاض الثورات ، الذي بات يعكس خللا مضاعفا ، على مستوى كافة التوازنات ، فقد كان النجاح باهرا ، في إسقاط أنظمة كانت بطبيعتها آيلة للسقوط ، لكن البدائل في المحيط الإقليمي ، الذي تحرك فيه الزلزال ، لن تلد غير تناقضات جديدة ، وانقسامات جديدة ، وفوضى شاملة ، وإذا كان الاستقرار في ليبيا أو اليمن بعيد المنال ، فإنه واقع تحت التهديد في مصر قبل تونس ، فلم تعد الانقسامات والتناقضات والحروب ، بين حدود الدول ، وإنما أصبحت داخل حدودها ، ولم يعد العدو في الخارج ، وإنما أصبح في الداخل ، ولم يعد الاستقرار هدفا تسعى إليه العقول ، وإنما أصبح هدفا تصوّب إليه البنادق . الرابع : ذلك التغيير المحسوس في موازين القوى ، بين الآلة العسكرية للنظام في سوريا ، وبين الآلة العسكرية المناهضة له ، والتي تكاد أن تكون قاعدتها الأساسية مصدرة من الخارج ، وهي تضم عشرات الآلاف من الذين زيّن لهم أن الجهاد الحقيقي في سبيل الله والإسلام يمر عبر بوابة دمشق ، لا عبر بوابة فلسطين أو القدس ، والذين يفيض عليهم مطر المال السعودي ، ليزرع حدائق الدم ، بدلا من أن يذهب ليروى صحارى الفقر . ولا سبيل إلى إنكار ، ما وقع فيه النظام من أخطاء جسيمة ، ولكن الحرب في سوريا بالتوصيف الغربي نفسه ، هي معركة طائفية سامة ، بكل المقاييس والحسابات ، أهدافها قد تمر بالنظام ، لكن نتائجها ستكون مدمرة لكيان عربي اسمه الكيان السوري ، في حالة أقرب إلى حالة تدمير العراق ، ملحقة أضرارا فادحة بالتوازنات الإقليمية ، وبالمصالح الوطنية والإستراتيجية لمصر ، بالدرجة الأولى ، ولشرق البحر الأبيض على امتداد جنوبه وتخومه ، والشاهد دون دخول في التفاصيل ، وبغض النظر عن العوامل ، المؤثرة في ميدان المعركة ، أو المواقف السياسية من حولها ، أن موازين القوى بين جبهتي الحرب في سوريا ، قد أخذت خلال الأسابيع الأخيرة تميل على نحو مؤثر ومحسوس لصالح الجيش السوري. الخامس : ذلك التشقق الذي لحق بالقناع الذي يرتديه النظام التركي ، فأظهر جانبا من ملامح وجهه الحقيقي ، بكل ما يحمله من تناقض صارخ مع الأسباب والمبررات ، التي دارت بها ماكينات الدعاية والتسويق ، مروجة له باعتباره المثال الإسلامي ، الذي يقتدى به ، والنموذج الديمقراطي الذي يحتذى . السادس : ذلك الانكفاء القطري المكتوم على الداخل ، بحكم ما يتعلق – أولا – بالسعي المحموم لحفظ حقوق توريث الحكم والثروة لأصحابهما الأصليين بعيدا عن أطماع الذين كانت أدوارهم جسرا للانغماس الكامل في الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالإقليم ، وبحكم ما يتعلق – ثانيا – بالاندفاعة القطرية على خطوط هذه الاستراتيجية ، والتي رأى الأمريكيون قبل أسابيع أن مصالح قطر الذاتية ، قد قفزت إلى خطوط تجاوزت خطوط الاستراتيجية وأضرت بها . لقد قلت في البداية ، أنه إذا صح أن عقارب ساعة التغيير في الإقليم قد تغير اتجاهها ، وتحولت إلى الاتجاه الآخر ، فإن ذلك يتطلب بالضرورة الإجابة على سؤالين ، كان أولهما يتعلق بعوامل وأسباب التحول ، أما الثاني فيتعلق بموقف أصحاب الاستراتيجية ، وهم يرون بوضوح علامات هذا التحول ، وكيف يمكنه العمل على إعادته ، إلى سيرته الأولى ، وظني أن الأمر يشبه محاولة إيقاف ترس كبير حاكم لتروس أصغر ، قبل دفعه إلى أن يأخذ اتجاها عكسيا لحركته ، ولذلك فالسبيل الوحيد لتحقيقه يبدأ بإيقافه عن الدوران ، والسبيل الوحيد لذلك أيضا ، هو استخدام القوة لحشر عامود من الصلب ، بين أسنان أحد التروس الكبيرة لإيقاف الدوران ، قبل محاولة عكس اتجاهه ، والسؤال بالتالي ، أي ترس كبير وأي عامود من الصلب ؟ ليس ثمة إجابة نهائية كاملة ، يمكن الإمساك بها ، ولكن الأمر لا يخرج في ضوء نمط مفردات الاستراتيجية الأمريكية ، عن إحداث تفجير كبير هنا أو هناك ، ولا أعتقد أن حجم هذا التفجير المطلوب ، يمكن ترجمته في إلقاء مزيد من الوقود داخل سوريا ، بمد أطياف " المجاهدين " في سوريا وفق القرار الأمريكي المعلن بمزيد من الأسلحة الثقيلة والمضادات الأرضية ، فتغيير الموازين المستجدة في سوريا وفق هذه الصيغة يحتاج إلى وقت أطول ، إلا إذا تم دمج سلاح الجو الإسرائيلي بشكل كامل في المعركة ، وهو أمر قد يحول دونه دفع روسيا بغواصتين نوويتين قرب الشواطئ السورية ، ومجموعات من الفنيين لتشغيل بطاريات دفاع جوي متطورة ، كما أنه إذا حدث سينقل المعركة إلى دائرة واسعة وإلى مستوى آخر أقرب إلى الخيار شمشون ، ولذلك فإنني أقرب إلى الظن بأن مسرح التفجير سيكون هنا ، وليس هناك . ▲▲▲ يستحق كل عامل من العوامل الخمسة السابقة ، وقفة مستقلة ، لكنني أرى أن التأثير المعنوي الكبير لحالة التشقق ، التي أصابت القناع التركي فأبدت سوءته ، جديرة بالمراجعة ، ليس بقصد رد هذا الكورس النحاسي ، الذي دأب على أن يلقي في مسامعنا أناشيد ركيكة في مديح الذات التركية ، فهو ما زال بغير استحياء يبحث عن ألوان زاوق يغطي بها سوءتها ، رغم أن أمطار الغضب في تركيا سرعان ما تمسحها ، لقد قدموا لنا تركيا على أنها صورة الحداثة الإسلامية ، ديمقراطية على النمط الغربي ، ومعجزة اقتصادية ، يتراكم نموها لينقلها من شاطئ إلى شاطئ ، ونزوعا إيديولوجيا معاديا لإسرائيل ، وسندا قويا لنهوض عربي ، وحلولا إسلامية مبتكرة للمتغيرات تزيل التناقض بين جوهر الإسلام وروح العصر ، ولم يكن في ذلك كله شئ من الصدق أو الصحة أو السلامة ، ولا أعرف ما إذا كان قد شبّه لهم ، أم أنه العمى الاستراتجي ، أم أنه التواطؤ المدفوع القيمة ، لتحقيق مآرب أخرى ، كما أنني لا أعرف ، من أي باب في أبواب الشريعة الإسلامية ، يمكن الجمع بين الإسلام وحلف الأطلنطي في وعاء واحد ، وبين الإسلام والقواعد الأجنبية في أرض واحدة ، وبين الإسلام والرأسمالية الجائرة في نسيج واحد ، وبين الإسلام والعداء للقومية العربية في قلب واحد ، وبين الإسلام والاستبداد في عقل واحد ، وبين الإسلام والانخراط في استراتيجية إمبريالية حد القبول بدور أداة طيّعة بين يديها في صدر واحد : أولا : في الإطار الاستراتيجي العام ، فإن تركيا تمتلك موقع ودور القيادة الاستراتيجية الجنوبية لحلف الأطلنطي ، وهي واحدة من مفردات الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة وللحلف ، وفي سياق تعاون استراتيجي كامل مع إسرائيل ، ومنذ أن بدأ المشروع الأمريكي الجديد ، يدخل طور التنفيذ مع تأسيس القيادة الوسطى للجيش الأمريكي ، والتي اتخذت من قطر قاعدة مركزية لها ، بدأ الدور التركي لتحويل سوريا إلى الرجل المريض ، بحيث ترث دورها ، في ضوء تعهد أمريكي بمنحها دورا قياديا في المشهد العربي ، على صعيد أنظمة الحكم الجديدة ، التي يجري تهيئة البيئة لولادتها في سوريا ولبنان والدولة الفلسطينية المفترضة ، وهي تلعب دور رأس الحربة في المشروع ، ودورها تنفيذي ميداني . لقد تحدث أردوجان مبكرا ( 3/4/2006 ) عن مشروع الشرق الأوسط الكبير وعن دور تركيا ، ولم يكن المسار العام التركي في الإقليم منذ ذلك التوقيت ، بعيدا عن عملية إعادة صياغة أوضاعه لصالح بناء هذا المشروع ، ولقد كانت الازدواجية كاملة بين القول والفعل التركيين في هذا الحيز ، فعندما أعلنت تركيا أنها تسعى إلى تخفيض الوجود العسكري الأمريكي على أراضيها ، وقررت إدارة أوباما إغلاق قاعدة أزمير على بحر إيجة توفيرا للنفقات ، سرعان ما تقدمت بطلب إلى الولاياتالمتحدة لبقاء القاعدة في حوزتها كي تستمر في الحصول على أجر استئجارها ، وعندما وافقت على نصب درع صاروخي أمريكي فوق أراضيها ، تحدث خطابها العلني على أنه موجه لحماية اليونان ورومانيا وبلغاريا ، بينما كان الدرع قد وضع مبكرا لحماية القواعد الأمريكية على أراضيها من الصواريخ السورية والإيرانية المحتملة ، ولهذا كله ، فإن الدور التركي في النهاية مجرد شكل جديد لحصان طروادة ، يحتوي حلف الأطلنطي في جوفه . ثانيا : في الإطار الاستراتيجي لعلاقة تركيا وإسرائيل ، فإن شرايين العلاقة ظلت على حالها يسري فيها الدم من ناحية إلى الأخرى وبالعكس ، ولم تكن أزمة مرمرة وقبلها مواجهة أردوجان وبيريز إلى مظهرا خارجيا ، أضيفت إليه ألوان من الخشونة ، مما قد يرى فوق الجلد ، لكنه لا يطول جسد العلاقة فلم تحدث مطلقا أي مقاطعة تجارية من جانب تركيا لإسرائيل ، بل إن أرقام التجارة بينهما قفزت خلال فترة المقاطعة إلى حدود غير مسبوقة ، بل إن أردوجان نفسه عندما أعلن تعليق العلاقة التجارية مع إسرائيل ، عاد وصحح إعلانه بقوله أن المقصود هو ما يتعلق بالتجارة العسكرية والدفاعية ، وحتى في هذا الحيز فإنه لم يكن صادقا ، ويكفي للتدليل فقط إبرام صفقة طائرات إسرائيلية للتصوير الليلي من الفضاء ومن بعد ، ولم لا ؟ ، إذا كان أحمد بوراك نجل أردوجان وصاحب شركة النقل البحري MB ، والتي تمتلك سفينتين للنقل لم تتوقف إحداهما " سفران 1" عن الإبحار بين ميناء أشدود في إسرائيل ، والموانئ التركية ذهابا وعودة ، وكانت آخر رحلاتها في يناير الماضي ، أي بفاصل أقل من ثلاثة أشهر عن مكالمة يوم 22 مارس الماضي ، بين نتنياهو وأردوجان ، والتي رعى إتمامها أوباما بنفسه ، والحقيقة أن السعي الأمريكي لإعادة العلاقة إلى واجهة المشهد ، انطوت على أهداف متعددة قد يكون في مقدمتها ، تنسيق عمليات التدخل في سوريا ، وفي أمن منطقة الركن الشمالي الشرقي من البحر الأبيض ، مع الاستجابة لمطالب تركيا بتعظيم دور ميناء جيهان كمحطة ، لتجميع جانب من منتوج الغاز الجديد في البحر الأبيض ، وكصنبور لضخه إلى أوربا خاصة وأنها تستورد 89% من حاجتها إلى الطاقة ، فيما لا تنتج محليا سوى 2% ، وكذلك استكمال محاولة سرية لإحياء مشاركة إسرائيلية تركية للعمل ضد صواريخ أرض- أرض السورية ، التي تحمل رؤوس كيماوية وبيولوجية ، خوفا من وصول النظام السوري إلى الخيار شمشون ، وتفعيل منظومة الدفاع المضادة للصواريخ التابع لحلف الناتو ، إضافة إلى ما ذكره " اليكس فيشمان " عن بناء خطوة تأسيسية للتحالف الذي أطلق عليه 4+1 ، بين أربع دول في المنطقة إضافة إلى إسرائيل ، والحقيقة أيضا أن تركيا شاركت في عدة مؤتمرات وتدريبات ومناورات خلال العامين الماضيين لحلف الناتو ، وقد كانت إسرائيل حاضرة فيها جميعها ، باعتبارها شريك أساسي للحلف . ثالثا : في الإطار الاستراتيجي لعلاقة تركيا بمصر ، فإن تركيا التي استيقظت حواسها الاستراتيجية ، تجاه الإقليم شرقا ، ظلت تاريخيا تصطف إلى جانب كافة القوى الاستعمارية التي سعت إلى منع قيام أي مركز قوة دولي حقيقي في مصر ، وفي مراحل تاريخية ممتدة ، كانت كل زيادة في قوة مصر من جهة نظر القوى المسيطرة دوليا ، تعني انخفاضا في قوة تركيا ، وخلال القرن التاسع عشر تمحورت سياسة تركيا تجاه مصر ، نحو السعي إلى تقليص رقعتها في سيناء ، ودفع خط الحدود داخلها إلى أقصى حد ، وقد اقترحت خط رفح رأس محمد مرة ، ورفح السويس مرة ، والعريش رأس محمد مرة ، وهو ما يسلب من مصر نصف مساحة سيناء ، والمدهش أن محاولة تركيا في الحرب العالمية الأولى ، عبور قناة السويس من الشرق رغم فشلها فإن منطقة تسللها كانت نفسها منطقة تسلل الإسرائيليين في حرب أكتوبر المجيدة عند سرابيوم . يقول داوود أوجلو في كتابه ( ما بعد العمق الاستراتيجي : تركيا دولة مركز ) أنه " لا يمكن لتركيا الدولة التي ظهرت على الأراضي التاريخية ، والجيوسياسية للدولة العثمانية ، والتي كان لها نصيب الأسد من ميراثها ، أن تقصر مجال تخطيطها وتفكيرها الدفاعي ، داخل حدودها القانونية فحسب " نحن إذا أمام نزعة إمبريالية ترى العالم ولاسيما الجغرافيا العثمانية السابقة وفي قلبها مصر، مجالا حيويا لتمدد نفوذها واستعادة ميراثها التاريخي كما تزعم ، رغم أنها ما تزال تعاني من أزمة هوية وأزمة معنى . رابعا : كيف تقع في تركيا التي قدموها لنا ، على أنها النموذج والمثال ، 235 مظاهرة في 67 مدينة خلال ثلاثة أيام ، لأن السياسة الاقتصادية لحزب التنمية والعدالة ، هي تطبيق مباشر لنموذج الليبرالية الجديدة ، التي وضعت اقتصاد الدولة كله على أساس آليات السوق الحر ، وفي يد مجموعة من أصحاب رجال الأعمال المقربين ، ولذلك رغم التباهي بنسبة النمو التي وصلت إلى 8% وقد انخفضت حاليا إلى 2.2% فإن عنصر توزيع الدخل ظل يعاني من فروق هائلة ، سواء بين المناطق الجغرافية ، أو بين الطبقات الاجتماعية ، وفي ظل اختلالات هيكلية ، يعاني منها الاقتصاد ، سواء على مستوى علاج العجز في ميزان المدفوعات ، الذي يتم بالاقتراض الخارجي ، أو على مستوى العجز في الميزان التجاري ، حيث أن الواردات ضعف الصادرات ، أو على مستوى البطالة ، التي قفزت إلى نسبة 8% ، وتفشت خاصة في المناطق المهمشة ، فالحديث عن المعجزة الاقتصادية التركية ، التي تم إنعاشها بضخ استثمارات خارجية تتجاوز مائة مليار دولار من الخليج وأوربا فيه كثير من تجميل صورة اقتصاد تابع ، ورأسمالية مفرطة ، وإذا كان الحديث عن الفساد ، فإن نموات الرأسمالية الجديدة في تركيا ، لا تخلو من انحياز طائفي للسلطة ، ومن فساد حزبي وشخصي ، وأردوجان نفسه مواجه ب 13 قضية فساد ، منذ أن كان عمدة لاسطنبول ، لم تصدر فيها أحكام لحصانة برلمانية ، أما الديمقراطية التي أصبحت جثة محنطة في صندوق الانتخاب ، فيكفي للحديث عنها ذلك الوضع المتدهور لحرية الصحافة ، فوفق مؤشر حرية الصحافة السنوي ، الذي تصدره منظمة صحفيون بلا حدود ، فقد احتلت تركيا المركز 154 من 179 دولة ، مما يعني أن حرية التعبير في مرتبة أدنى من الصين وإيران ، بل وأدنى من العراق وأفغانستان وزمبابوي. ▲▲▲ ما حدث ويحدث في تركيا ، ليس صخبا داخليا ، كما كتب أحدهم ، ولكنه قناع النموذج الذي يتمزق ، وتطل من فجواته الحقيقة كاملة ، بكل حاستها الاستعمارية ، واستبدادها ، ورأسماليتها القاهرة ، أنه ليس النموذج الأقرب إلى جوهر الإسلام ، ولكنه النموذج الأبعد عنه ، لأنه نموذج اصطنعه حلف الأطلنطي لنفسه .