جاءت زيارة رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان إلى مصر تكريسا لحالة الحراك الإقليمى التى بدأتها أنقرة خلال السنوات القليلة الماضية.. والتى أسفرت عن نسج شبكة من العلاقات والنفوذ فى دول المشرق العربى وتسعى الآن إلى الوصول إلى المغرب العربى من خلال مواقفها المعلنة وتحديدا منذ لحظة بدء الثورات فى تونس ومصر وليبيا، وتأسيسا على تطورات الأحداث التى جرت مسبقا وتجرى حاليا يبدو واضحا أن السياسة الخارجية التركية لديها استراتيجية متكاملة لاستعادة الدور التركى القائد فى منطقة الشرق الأوسط، ويستند تنامى الدور التركى إلى نظرية العمق الاستراتيجى التى تعتبر أن موقع تركيا وتاريخها يجعلانها مستعدة إلى التحرك الإيجابى فى جميع الاتجاهات وخصوصا جوارها الجغرافى للحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها، ولهذا عملت السياسة التركية خلال السنوات الأخيرة على تصفير مشاكلها مع دول الجوار خاصة أرمينيا وإيران لتبدأ حقبة تاريخية جديدة بعد عقود طويلة من القطيعة لمنطقة الشرق الأوسط وقضاياها.. ظلت تركيا خلالها تتصرف كدولة هامشية أو طرفية فى منظومة المعسكر الغربى وحلف شمال الأطلنطى. تركيا وجدت الطريق مفتوحا أمامها خلال العقد الأخير خاصة فى ظل الانقسام العربى وغياب التنسيق وتعطيل آليات العمل العربى المشترك الذى أسهم فى وجود حالة من الفراغ، بل غياب كامل للمشروع العربى، الأمر الذى فتح المجال أمام قوى إقليمية أخرى لتبرز دورها وتلعب أدوارا مهمة فى المنطقة العربية وتمتلك أدوارا محورية مثل إيران فيما اكتفت الدول العربية بلعب أدوار هامشية أو ثانوية فى جميع قضايا المنطقة. ولقد جاء حزب العدالة والتنمية الذى يحكم تركيا منذ عام 2002 فى ظل حالة فراغ كبير تسود المنطقة بعد انهيار حالة التفكك والتردى والانهيار الكامل للنظام الإقليمى العربى بعد الاحتلال الأمريكى للعراق.. ولهذا يمكن القول أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم فى تركيا شكل نقطة تحول مفصلية فى السياسة التركية، وكان رفض البرلمان التركى نشر القوات الأمريكية فى أراضى الدولة أثناء الحرب على العراق بداية تلك الإرهاصات، وسعى الحزب إلى تقديم نفسه لدول المنطقة على أنه حزب إسلامى ليبرالى فاعل ومؤثر ومشارك وصاحب رؤية ومشروع، ولهذا حظيت تركيا خلال السنوات الأخيرة بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة تبدى إعجابها بالنموذج التركى الذى نجح فى حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمى للسلطة، وكذلك ارتأت دوائر عربية أن موقع تركيا والذاكرة التاريخية المشتركة تفتح الباب أمام دول المنطقة للتعاطى مع الحكومة التركية باعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذى يمنحها مكانا جديدا ودورا مهما فى لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية. وعلى الرغم من دأب تركيا على تأسيس مجلس أعلى للتنسيق الاستراتيجى مع كثير من البلدان مثل اليونان وسوريا والعراق ومؤخرا مصر، فإن الموقف التركى فى العديد من القضايا يبدو متناقضا فهو يشارك فى الحرب على أفغانستان ويمتنع عن المشاركة فى العراق ويطالب بالانفتاح على الغرب رغم معارضة الغرب له ويسارع بالانفتاح نحو الأمة العربية ويقف مساندا لإيران فى معركة المشروع النووى السلمى إلا أنه يتعارض معها فى العراق ويرفض تحركها باتجاه البحرين ويظهر أنه معادٍ لإسرائيل فى الخطاب السياسى، إلا أنه كان منسقا للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل ويشارك اليونيفيل فى حماية الجبهة الشمالية لدولة إسرائيل ويحرك سفنه البحرية العسكرية مع حلف الأطلنطى نحو ليبيا ولم يحرك سفنه للدفاع عن سفينة مرمرة التى هاجمتها إسرائيل ويشارك العالم فى الحرب على الإرهاب ويعتقل عددا من الإسلاميين مع أنه يتبنى الفكر الإسلامى فى إطار المشروع العلمانى، والسؤال الذى يطرح نفسه: ما حقيقة الدور التركى فى المنطقة؟ وهل يصب فى اتجاه مناصرة العرب؟ أم جسر يخدم تركيا فى الولوج للاتحاد الأوروبى؟ وهل تشجع الولاياتالمتحدة تركيا على لعب هذا الدور؟ يرى بعض المحللين العرب أن الدور التركى فى حقيقته لا يعدو أن يكون دورا تآمريا على الأمة العربية تحت غطاء إسلامى ويدللون على ذلك موقف تركيا الداعم والمؤيد للثورات العربية فى مصر وتونس وليبيا والتجاهل التام لما يحدث فى اليمن لاعتبارات تتعلق بالمصالح التركية مع دول الخليج العربى، وكذلك موقفها من الأحداث التى وقعت فى البحرين مؤخرا، وظهرت السياسة التركية هى مغمضة العينين عن الاحتجاجات فى الدولتين، ولذلك فإن الدور التركى لن يستمر طويلا خاصة أن ثمة ثورة عالمية على المستوى الداخلى للنظم الحاكمة تظهر جلية فى المنطقة العربية وتستعد لتطال دول العالم ولن تكون دولة واحدة بمعزل عنها، وأقصى ما يمكن أن تصنعه السياسة التركية خلال تلك الحقبة لعب دور مقنن ومتفق عليه ومتسق اتساقا كاملا مع الرؤية الأمريكية والغربية للمنطقة، ولهذا ربما تكون تركيا الوسيط المتميز لجميع الملفات الإقليمية الشائكة خاصة فى ظل الممانعة الشديدة للمشروع الإيرانى من قبل أمريكا والغرب. والنقطة الثانية أن تركيا وإن باتت دولة محورية فى تلك الأيام فى كل قضايا الشرق الأوسط والمنطقة المحيطة بها واتباعها سياسة إنهاء الاشتباكات مع الجيران ومبدأ سياسة السلام الاستباقية التى تقتضى المبادرة والسعى إلى حل المشكلات إلا أن دور مصر خاصة بعد ثورة يناير يعطى انطباعا أن مصر ستعود من جديد خلال المرحلة المقبلة لتكون محورا لسياسة الشرق الأوسط، ومرجع ذلك التأثير المتوقع للثورة المصرية على بقية العالم العربى، وكذلك علاقة مصر بإسرائيل وأمريكا، إلا أن الكاتب التركى محمد أيوب كتب فى صحيفة بصرة تركيا يقول: «من غير المرجح أن يكون للثورة المصرية تأثير كبير على المشهد السياسى والاستراتيجى فى الشرق الأوسط على المديين القصير والمتوسط، ويعزو ذلك إلى انشغال مصر لفترة طويلة فى ترتيب أوضاعها الداخلية وتحديد العلاقة بين العناصر المدنية والعسكرية فى النظام السياسى الجديد، كما أن الثورة المصرية لن يكون لها تأثير على العلاقة المصرية - الإسرائيلية والأمريكية، وذلك لإعلان مصر بشكل لا لبس فيه احترامها جميع المعاهدات الدولية بما فيها معاهدة السلام، كما أن مصر لا تريد علاقات متوترة مع إسرائيل ولهذا فإنه من غير المرجح أن يحدث تحول جذرى فى هيكل القوى الداخلى أو فى السياسة الخارجية المصرية إلا على المدى البعيد إذا ما استطاعت السلطة المدنية توجيه الحياة السياسية والاقتصادية بعيدا عن سيطرة الجيش، ويشير أيوب إلى أن تركيا احتاجت لستة عقود كاملة للتأكيد على قدر معقول من السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، ومع ذلك فإن هذه العملية لم تكتمل بعد، ولهذا فإن مركز الثقل السياسى فى المنطقة انتقل من قلب المنطقة العربية «مصر وسوريا والعراق» إلى الأطراف ممثلة فى تركيا وإيران لتتضافر عدة عوامل إقليمية ودولية فى تنامى القوة الصلبة لإيران والقوة الناعمة لتركيا وكلتا الدولتين تتمتعان بعلاقات مع أطراف عربية عديدة، كما أنهما تتمتعان بقدرات عسكرية جيدة، كما أن القوة الناعمة لتركيا تستند بالأساس إلى شرعية نظامها السياسى وقادته فى الداخل التركى وجاذبية هذا النموذج لمواطنى الشرق الأوسط وسعيهم لتقليده، أما القوة الصلبة لإيران فتنبع من قبول شرائح واسعة من شعوب المنطقة لأهداف سياستها الخارجية وتحديدا مقاومة الهيمنة الدولية والتأكيد على استقلاليتها فى الشئون الدولية كلاعب مستقل مستعد لدفع ثمن تحديه للقوى المهيمنة على هيكل النظام الاقتصادى والأمنى الدولى. هذا الطرح من قبل الكاتب التركى ينضوى على إغفال حقائق ومعطيات سياسية أهمها أن تركيا وإن كانت تناصر الحق العربى فى مواجهة إسرائيل وتدخلها المباشر لدى إسرائيل لإنهاء الحرب على حماس إلا أن ذلك ليس إيمانا منها بالحقوق العربية المشروعة فهى الدولة صاحبة العلاقات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع إسرائيل لعقود عديدة كما أن القاصى والدانى يدرك أن التشدد الأخير من جانب تركيا فى مواجهة إسرائيل ليس رفض إسرائيل الاعتذار عن قتل الأتراك على السفينة مرمرة، بل يأتى ردا على إسرائيل التى تدعم حزب العمال الكردستانى فى تركيا المناوئ للدولة التركية والمطالب بحكم ذاتى على الأقل وهو ما تعتبره تركيا خطا أحمر. كما أن التقارب التركى الخليجى لا يأتى ضمن إطار الدفاع عن الخليج وأمنه بل يصب فى اتجاه الحصول على المزيد من الفرص الاستثمارية والمزايا الاقتصادية وفتح أسواق للمنتجات التركية فى دول الخليج ونقل نفط الخليج العربى إلى أوروبا عبر موانيها. وقبل هذا وذاك فإن المشروع التركى يدور بالأساس فى إطار المصالح الأمريكية والأوروبية فى المنطقة ولهذا وبعيدا عما يروج له الساسة الأتراك فتركيا عضو بالأطلسى وعينها على الاتحاد الأوروبى باعتبارها أنها لم توقف مفاوضات الانخراط فى الاتحاد على الرغم من التغيير الطارئ على سياستها، كما أن هناك دعما أمريكيا للدور التركى الجديد وهو ما أكد عليه الرئيس أوباما الذى قال «الاتحاد الأوروبى بدأ يقبل أكثر فأكثر بالسياسة التركية فالدول الأوروبية وافقت على أن يكون الأمين العام المساعد للأطلسى تركيا عقب الموقف الصارم الذى اتخذه أردوغان من بيريز خلال مؤتمر «دافوس» وأردف «الأكيد أن الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة أصبحا مقتنعين بقيمة الدور التركى فى الشرق الأوسط». ولهذا لا يمكن القول بأن هناك مشروعا تركيا لقيادة الشرق الأوسط، بل الصحيح أن هناك رؤية أمريكية وأوروبية محددة سلفا للشرق الأوسط ودور تركيا ينحصر فى تنفيذ هذه الرؤية وفق الشروط الأمريكية ومعطيات المنطقة المتغيرة سياسيا وبسرعة كبيرة. والواقع أن تلك الأوضاع تمثل عبئا كبيرا على الدول العربية، خاصة مصر والسعودية فلا يتصور أحد خلال تلك المرحلة الدقيقة التى يمر بها عالمنا العربى أن يكون مركز الثقل فى أنقرة وطهران وتستمر العواصم العربية مفعولا بها وليست فاعلا أو حتى شريكا فى صناعة قرار أو رسم «سياسة حكيمة» لإعادة منظومة العمل العربى المشترك إلى الطريق الصحيح.. وتستعيد الذاكرة ما قاله رجب أردوغان عقب نجاح حزبه فى الانتخابات أن نجاحه هو «نجاح لغزة والبوسنة».. وهذا يعيد إلى الأذهان حدود الدولة العثمانية التى حكمت واستبدت العرب لمئات السنين لكن الآن يريد الأتراك قيادة العرب والهيمنة عليهم لخدمة مصالح صغيرة لتركيا، ولكنها كبيرة للغرب وأمريكا وربما إسرائيل! أما الحديث عن دور تركيا الفاعل فى حل معضلة الشرق الأوسط ألا وهى القضية الفلسطينية خاصة أن لها علاقات متوازنة بين فتح وحماس وتقف على مسافة واحدة وهى كما هو معلوم الدولة الشرق أوسطية التى تفهم العقلية الإسرائيلية وتستطيع التعامل معها وذلك لقدم العلاقات بين الطرفين، إلا أن المعولين كثيرا على هذا الدور التركى لإحلال سلام بين العرب والإسرائيليين على سبيل المثال يغفلون أشياء جوهرية عديدة منها أن التحرك التركى فى غزة تحديدا لا يمكن له أن يتجاوز مثلا الدور المصرى، وقد اعترفت أنقرة بذلك على لسان داوود أوغلو «إن الدور التركى يمكن له أن يكون مساعدا أو مكملا، لكن لن يحل محل الدور المصرى وثانيها أن دولة لن تذهب فى دعمها للقضية الفلسطينية أبعد مما تتيحه الشرعية الدولية والأهم أن تركيا تفتقد فى أى دور وسيط إلى الأوراق الضاغطة التى تمكنها من إنجاح أى وساطة سواء بين سوريا وإسرائيل أو بين فلسطين وإسرائيل أو حتى حماية أى اتفاق تم التوصل إليه كذلك فإن تركيا يمكن أن تتعرض لضغوط من جانب الغرب وإسرائيل للتخلى عن سياسات الانحياز للفلسطينيين وقد بدا ذلك من خلال تحرك قوى الداخل التركى لإزعاج سلطة العدالة والتنمية بل تهديدها بحظر الحزب عبر المحكمة الدستورية. ولكل ما سبق ذكره فإن الدور التركى «الوسيط» فى التقريب بين العرب وإسرائيل يظل رهينا بالضوابط الأمريكية والأوروبية التى لا يمكن لتركيا تجاوزها فى وساطتها. ومن ثم فإن الدور المصرى المستقبلى فى عملية سلام بالشرق الأوسط سيكون له ثقله على عكس ما يروجه البعض حول الثقل الإيرانى أو التركى فى المنطقة!