تشابكت خيوط الأحداث في منطقة الشرق الأوسط علي أرضية التصعيد في عدة اتجاهات : فقد تصاعد الخلاف التركي الإسرائيلي، وقررت تركيا طرد السفير الإسرائيلي في أنقرة، وتجميد جميع الاتفاقات العسكرية مع إسرائيل، وخفضت العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلي مستوي السكرتير الثاني، بالإضافة إلي عدة إجراءات أخري تزمع تركيا تنفيذها، وذلك علي أثر صدور تقرير الأممالمتحدة بشأن الهجوم الإسرائيلي علي أسطول المساعدات إلي غزة في 2010، واعتبار التقرير أن الحصار الإسرائيلي علي غزة قانوني، ورفض إسرائيل الاعتذار الرسمي عن سقوط ضحايا أتراك بسبب الهجوم. وعلي أثر الاحتكاكات بين اسرائيل وتركيا، فإن التوتر بين الجانبين دفع عدة دوائر إقليمية وعالمية لتوقع تحول هذا الاحتكاك إلي مواجهة عسكرية بين سلاحي البحر في البلدين، بعد أن عززت تركيا وإسرائيل من وجودهما العسكري البحري في البحر المتوسط. كذلك لفت الانتباه إعلان تركيا في وقت متزامن مع هذه الأحداث أنها قررت استضافة نظام رادار للإنذار المبكر يتبع حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ويبدأ تشغيله هذا العام للمساعدة علي رصد التهديدات الصاروخية القادمة من خارج أوروبا، وتحديدا من إيران، علي أن يتحد سيل المعلومات من أنظمة الرادار الجديد في تركيا مع أنظمة رادارالأسطول الأمريكي المزود بالصواريخ الباليستية. كذلك واكب هذه الأحداث، ارتفاع صوت تركيا إقليميا وعالميا، والترتيب لزيارة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لمصر وليبيا وتونس، وهي بلدان الثورات العربية الناجحة، ووضع زيارة غزة علي أجندة الجولة التاريخية لأردوغان. يأتي هذا، فيما تتصاعد في إيران الاتهامات ضد تركيا باستخدامها تطورات "الربيع العربي" لنشر نمط "الإسلام الليبرالي" في بقاع العالم، بمساعدة الولاياتالمتحدة والدول الغربية، لإيجاد ما تطلق عليه طهران " نماذج منافسة " للثورة الإسلامية في إيران. وتبدي عدة أوساط في إيران قلقها من تزايد الدور التركي في العالم الإسلامي، والدعم الغربي لتركيا لمواجهة "الدور والمصالح الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط. تركيا.. القوة الصاعدة قد يبدو أن "الغضب" التركي والمواقف والسياسة التركية الحالية تجاه إسرائيل مرجعها الرئيسي مشاعر "الكرامة الوطنية التركية" والرغبة في الرد علي إحساس الهزيمة والتخاذل والضعف التي أعقبت حادث الاعتداء الإسرائيلي علي أسطول المساعدات الإنسانية لغزة "الحرية" في 31 مايو في العام الماضي مما أودي بحياة تسعة أشخاص بين ضحايا ونشطاء آخرين كانوا علي متن الأسطول. غير أن النظرة المتعمقة للموقف التركي تنبئ بأنه ليس وليد لحظة غضب سياسية، ولكنه موقف مدروس ومرتب بناء علي أهداف محددة ومتسقة ومضمرة في بنية السياسة الخارجية التركية في غضون المرحلة الراهنة. فبالنظر إلي علاقة الصداقة التي جمعت بين تركيا وإسرائيل علي مدي عدة عقود، وتشعُب هذه العلاقات سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فإنه لابد من التساؤل كيف تصل هذه العلاقة بين الحليفين إلي درجة أن تهدد تركيا بدعم أسر القتلي لمقاضاة إسرائيل، ومطالبة المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في الحصار الإسرائيلي لغزة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلي محاصرة مسئولين وصانعي قرارات إسرائيليين رفيعي المستوي ومنعهم من السفر، إضافة إلي سعي أنقرة إلي نقل مسألة حصار غزة إلي الساحة الدولية، ما يحمل في طياته المزيد من التنديد بالمواقف الإسرائيلية وحكومة نتنياهو التي ترفض دفع التعويضات، وترفض الاعتذار والتكفير عن أخطائها. وبموازاة هذه السياسة التركية تجاه إسرائيل، فإن تركيا تؤكد مناصرة القضية الفلسطينية، وحضور أردوغان اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك لتأييد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ويؤكد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو " حق طبيعي للفلسطينيين، وهو دين يجب أن يدفعه العالم للشعب الفلسطيني ". ويمكننا في هذا السياق إلقاء الضوء علي خلفيات أخري للموقف التركي من خلال استعادة كلمات وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في أعقاب طرد تركيا للسفير الإسرائيلي، وتخفيض مستوي العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، وإلغاء اتفاقاتهما العسكرية، حيث أكد أوغلو أن " الأمر ليس قضية تركيا وإسرائيل، ولكنه يتركز أساسا في قضية إسرائيل والمجتمع الدولي، والقانون الدولي، والضمير العالمي "، ما ينبئ باتجاه غالب في تركيا حاليا لحشد أكبر موجة ممكنة من النقد الدولي ضد السياسات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه، كسب أكبر درجة ممكنة من التأييد الدولي واسع النطاق للسياسة التركية، وهنا نتذكر اتهامات أردوغان لإسرائيل أنها، تفتقد الأخلاق، حتي في مجال التبادل التجاري. . ولمزيد من الوضوح في هذا الاتجاه، يمكن الإشارة إلي مواصلة وزير الخارجية التركي تحذيره بأن السلطات الإسرائيلية ستؤدي إلي إثارة الاستياء الشديد لدي القوي الجديدة الناشئة في البلدان العربية في ظل الربيع العربي، إذا ما استمرت إسرائيل في اتباع سياستها الحالية، متناسية أن الأنظمة التسلطية التي كانت تدعم سياستها في النظم العربية الاستبدادية، قد سقطت وأصبحت من ذكريات الماضي. بالإضافة إلي ذلك، فإن تركيا تلاحق السياسات الإسرائيلية بالنقد في عدة اتجاهات، ففي ديسمبر الماضي قدمت تركيا احتجاجا علي اتفاق إسرائيل وقبرص حول رسم الحدود البحرية بينهما تمهيدا لبدء التنقيب عن الغاز في البحر، واعترضت تركيا علي هذا الترسيم الذي تم بعد اكتشاف حقلي غاز تقدر طاقتيهما بما يتراوح بين 8 16 مليار متر مكعب لأنها تعتبر أن الحكومة القبرصية المعترف بها دوليا، والتي لا تعترف بها أنقرة لا يمكن أن تتكلم باسم جزيرة قبرص المنقسمة بين قبارصة أتراك وقبارصة يونانيين منذ عام 1974،وطبعا، يناقض هذا الموقف التركي من إسرائيل تاريخ العلاقات بين البلدين، والذي وصل في 1996 إلي عقد اتفاق يشمل جوانب عسكرية، بما في ذلك إجراء المناورات العسكرية البحرية المشتركة. وقد يمكن بدرجة ما الاعتراف بوجاهة التحليل الذي يربط بين موقف تركيا من إسرائيل والدوافع الانتخابية الداخلية في تركيا واكتساب الشعبية عن طريق مواجهة الصلف والغرور الإسرائيلي. كذلك لابد هنا من تذكر أن الإجراءات التركية لم تؤد إلي توصيل العلاقات التركية الإسرائيلية إلي طريق مسدود كليا، ففي البداية لم يجر التطرق إلي علاقات التبادل التجاري المستمرة بين الجانبين، كذلك تأثرت العلاقات في المجال السياحي بينهما بصورة محدودة ، الأمر الذي علق عليه مسئول الخارجية الإسرائيلية بأن "تركيا تركت مستوي معينا من العلاقات مع إسرائيل تتيح فرصة مراجعتها مستقبلا وإعادة العلاقات إلي وضعها الطبيعي" غير أن أردوغان عاد وتشدد ضد إسرائيل، وأقدم علي تعليق العلاقات العسكرية والتجارية والصناعات الدفاعية بالكامل بين تركيا وإسرائيل. ولم يخفف من لهجة التشدد التركية إعلان مسئول تجاري تركي أن المقاطعة لن تشمل تجارة القطاع الخاص (ويذكر أن تركيا تعتبر الدولة الرابعة بعد الولاياتالمتحدة والسلطة الفلسطينية وهولندا في حجم تجارتها مع إسرائيل)، وقد بدأ مسئولون إسرائيليون في الإعلان عن خسائر إسرائيلية مؤثرة جراء المقاطعة التركية . ومع ذلك، فإنه عند هذا المستوي من التحليل العميق للموقف التركي القوي تجاه إسرائيل، فإنه يصعب الفصل التام بين التوجه التركي الواضح لتعزيز دورها الإقليمي، وتوسيع شبكة ارتباطاتها بالأطراف الإقليمية، واستثمار الفرصة الذهبية المتاحة حاليا والتي تغري تركيا بممارسة دور " الزعامة الإقليمية "، ومحاولة ملء الفراغ (سياسيا واستراتيجيا) في الإقليم العربي، وصولا إلي مستوي استعادة " الحلم العثماني "، وبين التساؤل الجوهري المطروح حاليا علي الساحة بخصوص العنصر (الجديد) الذي فرض نفسه في المنطقة العربية وهو " عنصر هبة الشعوب العربية "والذي قلب كل الموازين السابقة ، وأطاح بجميع الحسابات المستقرة، وأسقط العروش وخلط جميع الأوراق، وصولا إلي طرح قضية علي جانب كبير من الأهمية مؤداها: ما الدور المتوقع للرأي العام العربي، والانتفاضات الشعبية، وثورات الحرية والديمقراطية في إعادة صياغة التوازنات السياسية والاستراتيجية في المنطقة العربية والشرق الأوسط؟ وهل يكون اكتساب تركيا لأرضية سياسية جديدة " إقليميا " مارا بالشارع العربي الذي تتبلور لديه في الآونة الراهنة دوافع واتجاهات حقوقية وتحررية جديدة تجاه إسرائيل وسياساتها القمعية والعدوانية التي طالما تحملتها الشعوب العربية تحت وطأة أجهزة الاستبداد العربية، بما في ذلك إعادة النظر في كل العلاقات المستقرة إقليميا وعالميا، والاتفاقات السابقة التي أبرمت في ظل الأنظمة البائدة؟ حافة الحرب.. والدبلوماسية في ضوء التصعيد، جاءت التساؤلات : هل ستتولي السفن التركية مهمة الرقابة علي القطع البحرية الإسرائيلية ؟ وهل يعني ذلك مواجهة وشيكة بين تركيا وإسرائيل ؟ لقد عززسلاح البحرية التركي من وجوده في منطقة شرق المتوسط من خلال دوريات منتظمة في المياه الدولية، وأكدت مصادر رسمية في أنقرة أنه سيتم اتخاذ تدابير لتطبيق استراتيجية أكثر تشددا في المتوسط، وأن إسرائيل لن تستطيع بعد الآن مواصلة " البلطجة البحرية "، وستقوم سفن حربية تركية بمرافقة سفن المساعدات التي ستنقل إلي غزة، والإشراف علي حرية الملاحة في المنطقة الواقعة بين جزيرة قبرص وشواطئ إسرائيل. وفي السياق، بدا واضحا أن تركيا ماضية في خط التصعيد، وتكررت تصريحات المسئولين الأتراك لوسائل الإعلام العالمية بأن تركيا تمتلك أطول السواحل علي البحر المتوسط، وترفض رفضا قاطعا تصرفات إسرائيل من منطلق أن المتوسط مجرد " بحيرة إسرائيلية "، وفيما كانت تركيا تؤكد عزمها علي اتخاذ المزيد من التدابير، كانت تتوالي تصريحات المسئولين في تل أبيب بأن إسرائيل لم ولن تعتذر لتركيا بدعوي أن إسرائيل كانت في موقف الدفاع عن النفس حينما شنت هجومها علي سفن المساعدات إلي غزة. وفي ضوء هذا التصعيد غير المسبوق اتجاه " إسرائيل " بدت تركيا، من وجهة نظر دوائر عديدة، الدولة الوحيدة التي تملك حاليا القدرة علي " معاقبة " الدولة العبرية علي تصرفاتها، وأنها الطرف الذي يقوم حاليا بالفعل، وليس رد الفعل، وتوقعت مصادر تركية بأن تهديدات أنقرة تعني أن السفن الحربية الإسرائيلية والتركية يمكن أن تتواجه علي الطرق البحرية التجارية بين خليج الإسكندرونة جنوب تركيا وقناة السويس، وأن تركيا في حال قررت إرسال سفن حربية لمواكبة سفن تركية تنقل المساعدات إلي غزة، تكون قد دفعت باتجاه ( مواجهة عسكرية) بحرية بين البلدين. وفيما يبدو أن مناخ التصعيد لا يقتصر علي تركيا، فقد حذر الجنرال الإسرائيلي إيال أيزنبرج قائد قيادة الجبهة الداخلية في الجيش الإسرائيلي من احتمال نشوب حرب إقليمية في منطقة الشرق الأوسط قد تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، وقد أثارت هذه التصريحات ضجة في إسرائيل، خاصة وأنها تأتي علي خلفية التغيرات في العالم العربي، وتدهور العلاقات بين تركيا وإسرائيل، والتكهنات بنشوب مواجهة عسكرية بحرية بين الجانبين. لكن يبدو أن السياسة التركية بوجه عام ماضية نحو التصعيد في أكثر من اتجاه في المرحلة الراهنة، حتي علقت دوائر عديدة بأننا نعيش حاليا في ظل "الزمن التركي" بامتياز. فعلي الصعيد الدولي، لم تبال تركيا الرسمية وصاحبة ثاني أكبر الجيوش في شمال الأطلنطي، بالاحتجاجات الروسية بشأن موافقتها علي بدء تشغيل نظام رادار للإنذار المبكر التابع لحلف الأطلنطي علي أراضي تركيا مع نهاية العام الحالي، كذلك وافقت الحكومة التركية علي نشر قطع من الدرع الصاروخي للحلف علي أراضيها بالرغم من التحذيرات الروسية بهذا الصدد. وبناء علي هذه الخطوات، يقال إن السياسة التركية التي تتحول حاليا إلي المرحلة "العالمية " تُجري التوازنات الدقيقة التي تضمن نجاح سياستها الخارجية، فالتصعيد تجاه إسرائيل، الطفل الأمريكي المدلل الذي يحميه الغرب كله، يتوازي مع خطوات جوهرية تضمن التوافق مع المشروع الدفاعي الغربي بما لا يترك فرصة للتشكيك في الأهداف السياسية لأنقرة. ويبدو أن هذه التطورات "أربكت" الجانب الإسرائيلي الذي راح يوزع الاتهامات حتي ضد الولاياتالمتحدة متهما واشنطن بأنها أعطت تركيا "الضوء الأخضر" للتشدد تجاه إسرائيل، وقبضت الثمن بموافقة تركيا علي المشاركة في منظومة الدرع الصاروخية. وانطلاقا من السياسة التركية مجددا، وفي ضوء التوجهات التصعيدية أيضا، تثير دوائر عديدة توقعات بمواجهة وشيكة علي الجبهة التركية السورية، مع استمرار نظام بشار الأسد في تجاهل نداءات تركيا بوقف العنف الدموي ضد الشعب السوري، وتشي كلمات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان باعتزام أنقرة عدم السكوت علي ما يجري، مؤكدا أن تركيا ستقف في صف الشعب وليس النظام في سوريا، وأن صبر تركيا قد نفد، كما يجري أردوغان اجتماعات متوالية مع القادة الأمنيين الأتراك، ويحذر كثيرون من نقطة اللارجعة في العلاقات السورية التركية، وقد سبق أن أكد الرئيس التركي أن ما يجري في سوريا هو شأن داخلي في تركيا، فتركيا وسوريا تتشاركان في حدود تزيد علي 850 كيلو مترا. وهناك احتمالات بأن تتدخل تركيا عسكريا في سوريا، وقد يكون ذلك تحت مظلة حلف الناتو وهي عضو أساسي في الحلف، ويتوقع لهذه الخطوة أن تحظي باستحسان لدي الرأي العام العربي والرأي العام الدولي نظرا للمجازر التي يرتكبها نظام بشار الأسد ضد المطالبين بالحرية والكرامة ومظاهرات الغضب الشعبي التي تطالب بإسقاط النظام. إيران.. القوة الحائرة لم يكن في حسابات السياسة الإيرانية بحال من الأحوال هذه التحولات الدراماتيكية العميقة في الدور التركي الإقليمي والعالمي الذي يكتسب مزيدا من القوة والتعزيز والمكانة يوما بعد يوم، فحتي وقت قريب، كان عنصر " المنافسة " بين تركيا وإيران يجري علي النطاق الإقليمي ويسير في الحدود المرسومة، ووفقا للخطوات المتوقعة، وتحت السيطرة، وطبعا كانت إيران مع الحليف السوري، والأطراف التابعة الفرعية (حزب الله وحماس) يستأثرون بما يطلق عليه "جناح الممانعة" الذي يرعي المقاومة، ويرفعون عنوان «الوقوف بالمرصاد» لمصالح الغرب وأمريكا وإسرائيل وأطماعهم في المنطقة. ولكن مع التحولات الجارية في السياسة التركية، واتجاه أنقرة لذكاء القوة، وتنويع استخدام الأدوات السياسية والدبلوماسية إقليميا وعالميا، والوقوف القوي أمام إسرائيل وممارساتها العدائية، فإن طهران تبدو كطرف حائر، عليه أن يعيد ترتيب أوراقه وإعادة النظر في حساباته، ليس فقط تجاه الخصوم والأعداء، وإنما أيضا تجاه الحلفاء والأصدقاء. كذلك، لم يكن في حسابات طهران بحال من الأحوال، أن تندلع ثورات " الربيع العربي" لينطلق مارد الطوفان الشعبي العربي الهادر الذي تصوره الجميع في عداد الأموات، ولتهب الشعوب العربية للمطالبة بحقوقها في مواجهة أصنام الاستبداد وأزلام الغرب وأتباعه، وقد حاولت إيران ركوب الموجة واستثمار الموقف الاستثنائي، والادعاء بأن الثورات العربية ما هي إلا النسخ الجديدة من ثورتها، وأنها " الصحوة الإسلامية " بوحي من هذه الثورة، الأمر الذي لم تستطع إثباته والمضي في التمسك به نظرا للاختلاف الجذري بين التيار الشعبي العربي الحقوقي الذي يستلهم مطالب الجماعة الوطنية في الإطار السياسي المتحرر ، والمختلف عما تسميه إيران " الثورة الإسلامية " بالرغم من اتساع المد الثوري العربي لاشتمال ورعاية جميع التيارات علي اختلاف توجهاتها. وعند نموذج الثورة السورية تحديدا، انقلبت المقاييس الإيرانية رأسا علي عقب، وضاعت المصداقية الإيرانية، وانحازت إيران الرسمية بكل قوتها ناحية النظام السوري ضد الشعب السوري، باعتبار أن انهيار هذا النظام سيعني كارثة للمشروع الإيراني الإقليمي بكل المقاييس، واتسعت شقة الاختلاف بين موقف كل من تركيا وإيران بعد أن حزمت أنقرة أمرها بدعم مطالب الشعب السوري في مواجهة نظام بشار الأسد، وعندما اكتسبت تركيا تأييد وإعجاب الشارع العربي، تصاعدت اتهامات طهران لتركيا بأنها تنتهز فرصة الثورة السورية لفرض هيمنتها واستعادة حلمها بالسيطرة العثمانية (مجددا) علي العالم العربي. والحقيقة أن إيران تقف الآن حائرة تجاه الثورة السورية والثورات العربية عموما، فهل تؤيد الأنظمة أم تدعم مطالب الشعوب ؟ خاصة أن الداخل الإيراني ليس بعيدا عن حلم استعادة طاقته الثورية التي أجهضت في عام 2009 بعد انتخابات الرئاسة التي اتهمت بالتزوير الفاضح، كذلك أعلنت تنسيقيات الحركة الخضراء الإصلاحية في إيران تأييدها للمطالب الديمقراطية للشعب السوري ، ودعت الشعب الإيراني لتأييد مطالب الثوار في الحرية واستعادة حقوقهم المسلوبة، وهناك انتخابات تشريعية علي الأبواب في إيران في مارس القادم. لذلك، بدت مؤشرات في إيران علي بداية التخطيط لمرحلة ما بعد الأسد، وتؤكد عدة مصادر علي اتصالات غير مباشرة بين إيرانيين وأطراف سورية يحتمل أن تكون ضمن بدائل النظام السوري، وتفكير وجدل في دوائر إيرانية عمن عساه أن يكون البديل القادم في دمشق ؟ وما إذا كان بشار الأسد قد استنفد الغرض منه (إيرانيا) في المرحلة الحالية ؟ أما علي صعيد الاتصالات الإقليمية الجارية حاليا لمحاولة فك قيود الخيوط المتشابكة، فإنها تجري علي عدة مستويات، فهناك مثلا الدور القطري للوساطة بين دمشقوواشنطن، وهناك الدور القطري / السعودي مرورا بالطرف الإيراني لمحاولة حل المشكلة السورية ، وهناك العرض الإقليمي المعروض علي سوريا (برعاية أمريكية) لتوسيع قاعدة الحكم في سوريا، وضم علمانيين وإصلاحيين وإسلاميين، كشركاء في الحكم، ويبدو أن بعض هذه " التفاهمات " المغرضة لم ترض الطرف التركي، فما كان منه إلا أن قلب المائدة علي رؤوس الجميع من خلال تصعيد رعايته للمعارضة السورية، وتشجيعها علي إعلان مجلسها الانتقالي الذي اعتبر ورقة تركية مربحة خلطت جميع الأوراق الأخري، وضربت كل التحركات الراهنة بدرجة ما . وعلي مستوي آخر، تجري المعارضة السورية اتصالات مع دبلوماسيين إيرانيين في محاولة لحث طهران علي تغيير موقفها الداعم لنظام الأسد، لأنها بذلك تخاطر بعلاقاتها مع الشعب السوري، علما بأنه الأبقي، فيما بدت مؤشرات أخري علي تحول المعارضة السورية إلي (مصر) لتنطلق منها، باعتبارها صاحبة ثورة رائدة أسقطت نظاما من أعتي الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. وفي المحصلة، يبدو الطرف الإيراني حاليا «مضروبا» في الصميم ويحاول ترميم سياساته التي كانت متألقة في مرحلة سابقة، فقبول تركيا نشر الدرع الصاروخي في أراضيها اعتبرته إيران ضربة موجهة إليها مباشرة، لذلك قررت إيران بدء مناورات لقواتها الجوية لمدة 10 أيام في شمال غرب البلاد في استعراض واضح لقوتها العسكرية تحسبا لضربة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية. كذلك يقلق طهران إقدام الولاياتالمتحدة علي تمديد اتفاقاتها الدفاعية مع البحرين سرا، والتي تسمح للجيش الأمريكي بقواعد عسكرية ونشر معدات عسكرية وحماية الممرات الملاحية، والتي تصل مدتها إلي عام 2016، ويقصد بها أساسا مراقبة إيران. هذا، بالإضافة إلي اتجاه رؤساء أركان التعاون الخليجي لإبقاء قوات درع الجزيرة في البحرين. أما بالنسبة لتطورات الملف النووي الإيراني فإنه يلاحظ أنه عندما عرضت إيران مؤخرا السماح بما أطلقت عليه " الرقابة الكاملة " للوكالة الدولية للطاقة الذرية علي برنامجها النووي، لمدة خمس سنوات، مقابل رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها ، فإن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي اعتبرا ذلك غير كاف، ولا يفي بالتزامات إيران الدولية، ولايمكن بدء مفاوضات مرضية مع إيران بناء علي ذلك. وتدل الشواهد علي أن واشنطن والغرب ليسا في عجلة من أمرهما بالنسبة للحسم مع إيران علي خلفية برنامجها النووي في المرحلة الراهنة، حيث ينتظر الجميع النتائج والآثار التي ستترتب علي تسونامي الديمقراطية، وثورات الحرية في العالم العربي، وذلك في ضوء توقعات بأن التغيرات التي ستنجم عن هذه الثورات يمكن أن تؤدي إلي تغيرات سياسية وجيوسياسية كبيرة، ويمكن أن تغير الكثير من المعادلات والتوازنات الراهنة في منطقة الشرق الأوسط. النموذجان يقوم التنافس بين النموذجين التركي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الحالية علي محورين رئيسيين : المحور الأول هو مدي تمثيل كل منهما للإسلام " الحقيقي " وفقا لما يراه كل من النموذجين. والمحور الثاني يرتكز علي مدي مناصرة القضية الفلسطينية، واعتبارها مرتكزا للسياسة الخارجية لكل من البلدين. وبالنسبة للمحور الأول، تطرح تركيا نموذجها في ظل زعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحكم حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية علي أساس أنه نموذج يقوم علي الإسلام العلماني، والتعددية السياسية والحزبية، والنظام الاقتصادي الحر، والانفتاح السياسي والاقتصادي علي العالم، والنظرة إلي العلاقات مع الغرب والولاياتالمتحدة علي أساس عملي وواقعي، وبما يحقق المصالح العليا لتركيا. وهذا الطرح للنموذج التركي ينطوي علي حقائق يثبتها الواقع والممارسات العملية، فهناك خروج بالنموذج التركي إلي الأفق العالمي، بحيث تبدو السياسة الخارجية لتركيا وكأنها تعيد اكتشاف الإسلام أمام العالم، وذلك علي خلاف الصورة الأولي التي رسمها مؤسس الدولة كمال أتاتورك كإسلام عقلاني وطني، وليس عالميا. واتساقا مع ذلك، يقوم الخطاب التركي/ الأردوغاني علي تصوير تركيا باعتبارها صوت المضطهدين في العالم، وتتكرر في خطابات الرموز الدينية التركية مبادئ ومهمات أساسية في مقدمتها اضطلاع تركيا بخدمة المسلمين في العالم الإسلامي، وكما يقول نيكولاس بيرش المختص بالشئون التركية السعي إلي "عولمة الإسلام الرسمي التركي"، وهكذا تتوازي في تركيا الحديثة صورة "الإسلام الجديد" مع أسس وأهداف السياسة الخارجية لتركيا، ويحقق هذا النهج نقلات ناجحة وجذابة، وكما نري بعد انتصار الثورة المصرية، تتجه رموز إخوانية لزيارة تركيا، ويثني زعيم النهضة التونسي راشد الغنوشي علي نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في عقد الزواج الناجح بين الإسلام والديمقراطية علي الطريقة التركية، وهو ما سوف تطبقه التجربة التونسية . وهذا النموذج ل "الإسلام الجديد" في تركيا يحظي بمباركة وتأييد غربي واسع النطاق، وهذا هو السبب في الاتهامات الإيرانية التي تطلق عليه اسم "الإسلام الأمريكي" الذي يسعي لاستثمار "الصحوة الإسلامية العربية" للترويج لنموذج مناهض للثورة الإسلامية الإيرانية. وعموما، فإنه يصعب استبعاد الأهداف الغربية التي تساعد تركيا علي أن تكون أحد عناصر الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وأن تكون بمثابة "قوة موازية" لمواجهة المشروع الإيراني في المنطقة. من ناحية أخري، فإنه لا يمكن أيضا التغاضي عن الطبيعة الدينية للنظام السياسي في إيران، ونفوذ رجال الدين الصريح في هذا النموذج، وما تثيره الأبعاد الدينية في السياسة الخارجية الإيرانية إقليميا ودوليا، واعتقاد الإيرانيين أن نموذج الثورة الإسلامية هو أساس "الريادة الإقليمية" التي يتمتعون بها، بالإضافة إلي زعامة المقاومة ضد إسرائيل والدفاع عن الحقوق الفلسطينية. فضلا عن ذلك، فإيران تعتبر نفسها زعيمة "العالم الشيعي"، ويدافع المرشد الأعلي علي خامنئي عن نظام الأسد بأن سوريا وإيران لابد أن تردا علي التهديد التركي بتعزيز تحالفهما مع المحور الشيعي في العراق ولبنان. ويمكن القول بكثير من الثقة إن ثورات الربيع العربي ألقت بظلالها علي التنافس التقليدي بين نموذجي تركيا وإيران، وهنا لابد من الإشارة إلي أن هذه الثورات لم تكن بزعامة «الإسلاميين العرب» بالدرجة الأولي، وأنهم شاركوا فيها لاحقا، وتعلق علي ذلك كاترينا دالاكورا خبيرة العلاقات الدولية في كلية لندن للعلوم الاقتصادية بأن " النموذج الديني الإيراني ليس هو النموذج المرغوب عربيا، بل إنه أصبح خارج المنافسة، ليحل محله النموذج التركي، باعتباره النموذج الأفضل الذي حقق لتركيا دورا سياسيا عالميا، ونهضة اقتصادية جعلت من تركيا إحدي الدول المتقدمة عالميا".