التحالف التركي- السوري الأخير حدث كبير بكالمقاييس، وهو آخر مؤشر علي الدور المتعاظم لتركيا أردوجان (العدالة والتنمية) في تغيير خريطة المنطقة لصالح مشروع النهضة العربية الإسلامية وهو دليل جديد علي ذكاء السياسة السورية، وتمسكها بمواقفها الاستقلالية.. ولا أدري لماذا قال الأستاذ هيكل إن سوريا تهرب من التاريخ إلي الجغرافية، وكان حريا به أن يقول إنها تلوذ بالحزام الإسلامي بقدر ما يتخلي التجمع العربي عن مواقعه الاستقلالية، وكيف يسوي بين هذه الخطوة التاريخية في الشراكة السورية- التركية، بالموقف السعودي المندثر بتجمع الخليج، والموقف المصري القابع خلف سيناء! (حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل لقناة الجزيرة الأخير). لماذا يسوي هيكل بين الصامدين والمستقلين من ناحية والمنبطحين العرب من ناحية أخري. والحقيقة فإن الموقف التركي يحتاج لوقفة تأمل عميق واستراتيجي.. ومنذ فوز حزب العدالة والتنمية كتبت متوقعًا كل هذا الذي يجري في السياسة التركية الداخلية والخارجية (راجع مجلة منبر الشرق) توقعت أن هذا الحزب سيقود بذكاء تركيا نحو العودة لحضنها العربي- الإسلامي الحضاري، ولدورها القيادي المتميز وطالبت بالصبر والانتظار، فحدث أكثر مما كنت أتوقع. وقد كنت أتحدث بدرجة عالية من اليقين علي أساس معرفتي الشخصية ببعض قيادات وكوادر حزب العدالة والتنمية، بالإضافة لمتابعتي لتطورات الملف التركي، وذكرت أن التوجه للاتحاد الأوروبي هو في الأصل توجه تكتيكي لمحاصرة العسكر ومخاطر الانقلاب العسكري، وأن حزب العدالة والتنمية يدرك أن دخوله للاتحاد الأوروبي مسألة بالغة الصعوبة. والواقع أن هذا العهد التركي، يسعي تدريجيا لاستعادة الدور الإقليمي والدولي لتركيا فيما أصبح يسمي الآن "العثمانية الجديدة"!، وهو يسير في الاتجاه ضمن محورين أو دائرتين: تفصيل الدور التركي في المنطقة العربية الشرقية أو ما يسمي الشرق الأوسط محور فلسطين- العراق- سوريا- إيران. ودائرة أوسع هي الدائرة الطورانية (القومية التركية) التي تمتد من البوسنة غربًا حتي غرب الصين شرقا مرورًا بالجمهوريات الآسيوية ذات الأصل التركي. علي صعيد المحور الأول: وجدنا السياسة التركية رغم أنها أسيرة علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني، وعضوية حلف الناتو (الأطلنطي) اتجهت للمزيد من الاستقلالية تجاه قضايا المنطقة، بالمقارنة مع دولة من ذات الوزن كان من المفترض أن تقوم هي بهذا الدور (مصر). وقد اتضح هذا منذ البدء برفض دخول القوات الأمريكية لاحتلال العراق عن طريق الأراضي التركية، أو استخدام القاعدة الأمريكية (أندرليك) في تركيا في قصف العراق. بينما قدمت مصر الرسمية كل التسهيلات الممكنة لغزو العراق! وفي العدوان الصهيوني الإجرامي علي غزة برز الدور التركي- المتعاطف مع غزة والمدين للعدوان وتعددت الوفود الشعبية والإعلامية التركية لزيارة غزة، ولا شك أن المظاهرات التركية المؤيدة لغزة كانت عارمة ولكن حزب العدالة والتنمية ليس بعيدًا عن هذه التظاهرات . ورأينا كيف تصدي أردوجان بشجاعة وكرامة وإباء لبيريز رئيس الكيان الصهيوني، وانسحابه من منتدي ديفوس. وكان اختيار أوغلو وزير الخارجية (وهو مفكر استراتيجي له كتابات في إحياء الدور التركي) علامة فارقة ورأينا تواصل تحسن العلاقات بين تركيا وسوريا وإيران، ورأينا تفرد أردوجان في العالم الإسلامي بالتضامن مع مسلمي الصين (وهم من أصل تركي في معظمهم) وإدانته للقمع الوحشي الذي تعرضوا له مؤخرًا، ورأينا الخطوة الشجاعة في محاولة إنهاء العداوة التاريخية مع الأرمن وجمهورية أرمينيا، مع ربط ذلك بمشكلة إقليم ناجورني كاراباخ وهو الإقليم الذي احتلته أرمينيا من أراضي أذربيجان. وتتعامل تركيا مع حكومة الأمر الواقع في العراق، ولعبت دورًا في حوار بين بعض فصائل المقاومة والحكومة العراقية، ونظرًا للجوار ومشكلة الأكراد علي حدود تركيا- العراق، فإن المصالح التركية تقتضي مد الحبال مع الحكومة العراقية بل حاولت التوسط بين العراق وسوريا (والأصل أن تقوم مصر بهذا الدور!!) ،وفي إطار هذا الإدراك لأهمية العراق الدولة الجارة، تأتي زيارة أردوجان مؤخرًا لبغداد مفهومة، في إطار ترتيب أوراق تركيا في كل المجال المحيط بها دون أن تؤيد الاحتلال الأمريكي للعراق، وعلي أرض تركيا جرت مفاوضات غير مباشرة بين سوريا والكيان الصهيوني حول مسألة الجولان المحتلة. وهكذا في كل قضايا المنطقة وجدنا تركيا حاضرة. إلا أن تركيا تبدو علي أعقاب تحول نوعي في علاقتها مع الكيان الصهيوني، بعد العدوان علي غزة. فقد انسحبت سوريا من التفاوض غير المباشر. وواصلت العلاقات التركية- الإسرائيلية طريق التدهور، وفي المقابل تحولت العلاقات التركية- السورية إلي علاقات استراتيجية، ستفيد البلدين بلا شك وتدعم مواقعها الاستقلالية. فإلغاء التأشيرة لمواطني البلدين خطوة تاريخية بكل المقاييس، وستفتح إمكانيات البلدين علي بعضهم البعض. وذلك مع إصرار تركيا علي تحسين العلاقات مع إيران (ومن ذلك صفقة الحصول علي الغاز الإيراني) حتي أصبح الحديث عن محور سوري تركي- إيراني مسألة مطروحة، وتعيد رسم خريطة المنطقة، وتحاصر الحلف الصهيوني- الأمريكي (أردوجان يزور طهران بعد بغداد أين مصر؟!) الاتفاق التاريخي بين سوريا وتركيا يتجاوز إلغاء تأشيرات الدخول بين مواطني البلدين رغم أهمية ذلك في حد ذاته، ويتضمن 34 اتفاقا للتعاون في جميع المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية، في إطار مجلس استراتيجي مشترك. وعلق علي ذلك أحمد داود أوغلو المفكر ووزير الخارجية التركي قائلا: (أنا مرتاح وسعيد لما قمنا به لأطفالنا وأحفادنا ما قمنا به سيشكل ذكري كبيرة علي مدي عشرات السنين لأنه أدي إلي إنهاء الانفصال المصطنع بين مدننا وشعبينا. إننا نقطع الطريق إلي المستقبل المشترك يدًا بيد بحيث نحول منطقتنا إلي حوض استراتيجي مشترك) ورأي داود أوغلو في العلاقات السورية- التركية "نموذجًا" لباقي دول الشرق الأوسط لأن هذه العلاقة "لم تبق في إطار القول، بل بدأ إيجاد آليات للتعاون" علي أساس الإفادة من "ديناميات الشعوب في التعاون الإقليمي والعناق بين التاريخ والجغرافيا" والمزاوجة بين "العمق الاستراتيجي والعمق الأخلاقي والتاريخي" للمنطقة. ولاحظ هنا أن علاقات مصر وسوريا وصلت إلي مرحلة القطيعة، لأول مرة منذ عشرات السنين، وبينما حدثت مصالحة سورية سعودية، وصلت إلي حد زيارة العاهل السعودي لدمشق، فإن مصر مبارك تتفرج علي هذا المشهد الإقليمي بحاله من التبلد المخيف، وتسعي "للانفتاح" علي أوروبا من خلال أصغر دولة فيها (سلوفينيا) من العجائب هذا المشهد الموازي (زيارة مبارك لسلوفينيا وكرواتيا والمجر!) والوجه الآخر لهذا التحالف التركي- السوري الذي وصل إلي المجالات العسكرية، حيث جرت بالفعل مناورات عسكرية سورية تركية ومن المتوقع حدوث مناورة أخري في القريب العاجل. بالإضافة للتعاون في مجال التصنيع الحربي. الوجه الآخر لهذا التحالف هو التدهور المستمر للعلاقات التركية الإسرائيلية الذي وصل إلي نقطة دراماتيكية عندما ألغيت تركيا مناورات عسكرية مع الكيان الصهيوني. وكان قد سبق ذلك أن أوقفت تركيا التعاون في عدد من القضايا الحساسة مع إسرائيل في مجالات الاستخبارات، وألغيت صفقات أمنية مع الصناعات العسكرية الإسرائيلية مثل صفقة الأقمار الاصطناعية. ومن جهتها بررت إسرائيل العلاقات الأمنية خشية وصول تكنولوجية إسرائيلية متطورة لأياد غير سليمة (يديعوت أحرنوت- الصهيونية) في إشارة لسوريا وإيران. وأشارت الصحف التركية إلي توقف إسرائيل عن تسليم طائرات بدون طيار لتركيا وهي صفقة قيمتها 180 مليون دولار. كذلك أوقفت إسرائيل العديد من رحلات الأفواج السياحية لتركيا. بينما أعلنت تركيا صراحة علي لسان أردوجان وأوغلو أن إنهاء التوتر في العلاقات بين تركيا وإسرائيل يتوقف علي إنهاء حصار غزة. (أين مصر؟!).