عيار 21 بكام.. استقرار سعر الذهب الاثنين 20 مايو 2024    سعر الدولار اليوم في البنوك ومكاتب الصرافة    تراجع الفائض التجاري لماليزيا خلال أبريل الماضي    البنك المركزي الصيني يضخ ملياري يوان في النظام المصرفي    التليفزيون الإيرانى يعلن مصرع الرئيس إبراهيم رئيسى ورفاقه فى تحطم مروحية    رحل مع رئيسي.. من هو عبداللهيان عميد الدبلوماسية الإيرانية؟    جوميز: هذا هو سر الفوز بالكونفدرالية.. ومباراة الأهلي والترجي لا تشغلني    طلاب الشهادة الإعدادية في الدقهلية يؤدون اليوم امتحان العلوم والكمبيوتر    اليوم.. محاكمة طبيب نساء شهير لاتهامه بإجراء عمليات إجهاض داخل عيادته بالجيزة    نجمات العالم في حفل غداء Kering Women in Motion بمهرجان كان (فيديو)    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 20 مايو    اليوم| استئناف المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبدالغفور على حكم حبسه    أسعار اللحوم والدواجن والبيض اليوم 20 مايو    عمر كمال الشناوي: مقارنتي بجدي «ظالمة»    أول صورة لحطام مروحية الرئيس الإيراني    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: اليمين المتطرف بإسرائيل يدعم نتنياهو لاستمرار الحرب    فلسطين.. شهداء وحرجى في سلسلة غارات إسرائيلية على قطاع غزة    ما حكم سرقة الأفكار والإبداع؟.. «الإفتاء» تجيب    خلال أيام.. موعد إعلان نتيجة الصف السادس الابتدائي الترم الثاني (الرابط والخطوات)    معوض: نتيجة الذهاب سبب تتويج الزمالك بالكونفدرالية    محمد عادل إمام يروج لفيلم «اللعب مع العيال»    مصدر أمني يكشف تفاصيل أول محضر شرطة ضد 6 لاعبين من الزمالك بعد واقعة الكونفدرالية (القصة الكاملة)    محمد صلاح: سعيد بتتويج الزمالك بالكونفدرالية.. وقولت للحاضرين الأبيض حسم اللقب بعد هدف حمدي    سقطت أم أُسقطت؟.. عمرو أديب: علامات استفهام حول حادث طائرة الرئيس الإيراني    اتحاد الصناعات: وثيقة سياسة الملكية ستحول الدولة من مشغل ومنافس إلى منظم ومراقب للاقتصاد    الهلال الأحمر الإيراني: فرق الإنقاذ تتوجه لمكان يوجد فيه رائحة وقود    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: دور مصر بشأن السلام في المنطقة يثمنه العالم    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    دعاء الحر الشديد كما ورد عن النبي.. اللهم أجرنا من النار    طريقة عمل الشكشوكة بالبيض، أسرع وأوفر عشاء    بسبب أزمة نفسية.. دفن جثة سوداني قفز من الطابق الثالث بالشيخ زايد    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    أول رد رسمي من الزمالك على التهنئة المقدمة من الأهلي    اليوم.. علي معلول يخضع لعملية جراحية في وتر أكيليس    استشهاد رائد الحوسبة العربية الحاج "صادق الشرقاوي "بمعتقله نتيجة القتل الطبي    قبل إغلاقها.. منح دراسية في الخارج للطلاب المصريين في اليابان وألمانيا 2024    الإعلامية ريهام عياد تعلن طلاقها    لبيب: نملك جهاز فني على مستوى عال.. ونعمل مخلصين لإسعاد جماهير الزمالك    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    جريمة بشعة تهز المنيا.. العثور على جثة فتاة محروقة في مقابر الشيخ عطا ببني مزار    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحن والعالم والاستراتيجيات البديلة..
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 17 - 03 - 2014


تخطيط السياسة الخارجية من منظور الأمن القومي
إذا كان الهدف هو تقديم رؤية تطول فلسفة هذه السياسة الخارجية في ضوء متغيرات عاصفة، وتهديدات مستجدة، فإن هذه الرؤية مطالبة بأن تُخضع نفسها إلي عدد من المحددات، حتي لا يصبح الأمر مجرد سباحة حرة في بحر بلا ضفاف، وفي أفق غائم، وقد يكون في مقدمة هذه المحددات:
أولا: أن الحديث عن السياسة الخارجية هو في قلبه حديث عن السياسة الداخلية، فالسياسة الخارجية في الحقيقة لا تخرج عن كونها فائض القوة الداخلية، وهو ما يترتب عليه بالضرورة أن تكون عقيدة السياسة الخارجية، ليست مقدمة ولكنها نتيجة، ولذلك فإن تخطيط السياسة الخارجية أو بناء قواعد تستند إليها في هذه الظروف لا يمكن أن يكون منفصلا عن بناء استراتيجية وطنية شاملة، تكون السياسة الخارجية في إطارها، بمثابة تفاعل الجسد الوطني مع البيئة المحيطة به إقليميًا ودوليًا
ثانيا: أن حديثا في السياسة الخارجية يحاول تلمس المداخل الفكرية لصنعها، هو في جوهره حديث في الأمن القومي، ولذلك فإنه يستوجب بالضرورة الارتكاز علي مفاهيم وقواعد هذا الأمن، كما يستوجب بالضرورة التوقف أمام المتغيرات العاصفة في البيئة من حوله، وأمام أشكال وأنماط مستحدثة من التهديدات التي تحيط به، والتي يصدّر بعضها نفسه إلي الداخل الوطني، مع اتساع منصات الاختراق الأجنبي، وتعدد أساليبه وأدواته ووسائطه، كما أنه يستوجب تحليل العلاقة بين مفاهيم هذا الأمن القومي، وبين تطور الاستراتيجيات الكبري والمضادة في المنطقة.
ثالثا: أن حديثا في السياسة الخارجية، لن يكون جادا أو نافعا أو مصيبا، إذا لم يتجاوز آفتين فكريتين صبغتا كثيرا من مناهج التفكير التي لا تزال تتنفس في الفضاء الوطني، الأولي هي التفكير خارج سياق الزمن التاريخي، والثانية هي التفكير خارج نطاق الجغرافيا السياسية، وإذا كانت الأولي تعني استبعاد الذاكرة التاريخية، وفي القلب منها الذاكرة الاستراتيجية والعسكرية، رغم ما برهنت عليه ثورتا 25 يناير و 30 يونية من أنها تتنفس حية في الفضاء الشعبي، فإن الثانية تكرّس منهجا مأزوما لطلب النجاة، بالعودة إلي استراتيجية التكيّف الهيكلي مع الغرب، والتي ثبت أنها لا تمثل حلا، ولا تقدم مخرجا، بقدر ما تمثل نكوصًا تابعًا، وإجهاضا لحقوق وطنية مستحقة، كما تقود إلي إشاعة مزيد من الوهن الوطني، ومزيد من الفرص المتاحة أمام جرثومة التفكك لتعصف بالكيان الوطني ذاته، وفي كل الأحوال فإن أوضح صيغ هذا المنهج المأزوم يمكن أن تتحدد فيما يلي:
1- تخفيض درجة الإحساس الوطني بالخطر.
2- تقزيم مفهوم الأمن القومي في حدود محفورة عسكريًا وليست محصنة استراتيجيًا.
3- تحويل المؤسسة العسكرية ومنظومات القوة في الدولة إلي بنية مكروهة في حد ذاتها.
4- غضّ البصر عن التهديدات الاستراتيجية المستجدة التي تترتب علي متغيرات تتسم بالعنف والحدة، تعيد تشكيل البيئة الاستراتيجية علي المستويين الداخلي والإقليمي.
5- الحضّ علي استراتيجية الملاينة والمصالحة وتزيينها والترويج لها، ونبذ استراتيجية المقاومة والاستقلال الوطني والتحقير من شأنها.
رابعا: أن توحيد المعايير وضبطها في فلسفة هذه السياسية الخارجية وتوجهاتها أصبح أمرا ملحا، فليس واقعيا ولا منطقيا – علي سبيل المثال – أن تظل تلك القناعة قائمة بوجود مساحات تمييز بين العقيدة السياسية للولايات المتحدة وتطبيقاتها تجاه مصر والإقليم، وبين عقيدة أوربا الغربية، وبالتالي تظل النظرة إلي الأخيرة، وتصنيف مواقفها في خانة مختلفة، وأن ينعكس ذلك عمليا علي طبيعة العلاقات معها.
إن أنظار بعضنا مازالت معلقة بتلك اللحظة التي تلت تفكك الإمبراطورية السوفيتية، عندما أخذت تتبلور لدي أوربا نزعة استقلالية واضحة، أدت ساعتها إلي ظهور تشققات في هيكل حلف الناتو، بعد غياب العنصر الرئيس الذي كان يطوّق هذه الخلافات، وقد تمثّلت هذه النزعة في اتجاه أوربا إلي بناء قوة عسكرية ذاتية، كما بدت مظاهرها في عصيان أوروبي لمشروع بناء نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي، غير أن هذه التشققات وغيرها سرعان ما التأمت مع انطلاق الطلقة الأولي في حرب الخليج، لأنه من الثابت بالتجربة الطويلة في العلاقات الأمريكية الأوربية، أن أوربا تكون أكثر انصياعا إلي نزعتها الاستقلالية عن الولايات المتحدة، خاصة ألمانيا وفرنسا في ظل أوضاع دولية تتسم بالتهدئة والتعاون والاستقرار، ولكنها تصبح أكثر انقيادا وتبعية لها عندما يصبح خيار استخدام القوة والتصعيد العسكري حاضرا وحاسما في مبادئ الاستراتيجية الأمريكية، فضلا عن ذلك فإن أوربا لم تنجح في بناء استراتيجية كونية خاصة بها، ولا تزال تعيش علي ما تتلقاه من زاد استراتيجي يتم إنضاجه وتصديره إليها من هيئات التخطيط الاستراتيجي ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة.
وعلي سبيل المثال فإن موازنة مؤسسة التحليلات الدفاعية في الولايات المتحدة، تقترب من رقم ثمانية مليارات دولار، بينما تبدو الصورة مختلفة في أوربا، فمفوضية الشئون الاستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية تضم أشخاصا يُعدّون بالعشرات وميزانية لا تتجاوز خمسة ملايين يورو، والأمر نفسه يطول مؤسسة استكهولم في السويد، والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا الذي لا يضم أكثر من 50 باحثا بميزانية لا تتجاوز عشرة ملايين استرليني.
وفضلا عن ذلك كله، فإن المشهد الراهن في تطبيقات الاستراتيجية الأمريكية، يعطي قناعة عميقة بأن أكبر المنتفعين بالاستعمار الجديد اليوم هم بقايا الاستعمار القديم أنفسهم، فقد جددت الامبريالية الجديدة التي انحطت إلي طور متخلف في التاريخ، مطامع الاستعمار القديم وأعادت حاسته الاستعمارية إلي اليقظة والتربص والوثوب.
خامسا: قد يمكن تصنيف ما نواجهه من أعمال مضادة في أنها تعبير عن سياسة خارجية للغرب بالفعل، ولكنه يصعب تصنيفها في أنها من أعمال الدبلوماسية، وهي الصيغة العلنية والمباشرة للتعبير عن السياسة الخارجية، وحتي في هذا الحّيز الدبلوماسي الخالص فإننا أمام صيغ يغلب عليها طابع الإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلا عن أن الظاهر نفسه من هذا الحّيز محدود للغاية ويُشكل شرفة علوية لبنية تحتية أكبر مساحة، وأكثر اتساعًا وأبعد عمقًا، وأشد تأثيرًا، تندرج فعليًا في أعمال المخابرات المضادة والحروب الخفية.
ولعله من الواضح أن العمل الذي يجري سواء باستخدام الدبلوماسية، شأنه شأن العمل الذي يجري عبر وسائل الإعلام المشتراة أو المستأجرة، شأنه شأن العمل الذي يجري في الفضاء أو البحار، تتحدد توجهاته وأساليبه ومواقفه بما يتلقاه من نتائج أعمال أخري تتم فوق الأرض، تضطلع بها أجهزة استخبارات متعددة الوجوه والهويات.
لقد لجأت بريطانيا في منتصف التسعينيات إلي الخروج علي قانون المخابرات الذي يحتم الحصول علي موافقة كتابية مسبقة من رأس السلطة التنفيذية، في جميع عمليات التصفية الجسدية، وذلك بتشكيل وحدات خاصة من ضباط سابقين يمكنها أن تؤدي المهام القذرة، دون توثيق ودون صلة بالجهاز الأم، وقد التقطت الولايات المتحدة الفكرة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، فشجعت علي قيام أجهزة مخابرات معاونة خاصة، تتلقي تمويلا من الدولة، وتعمل منفردة في إطار استراتيجيتها الأمنية والعسكرية، وقد بلغ التوسع في ذلك علي امتداد السنوات السابقة علي ثورة 25 يناير مدي كبيرا، حتي بلغ عدد منظمات المخابرات الخاصة في الولايات المتحدة 2163 منظمة من بينها 1913 منظمة تعمل في حقل واحد، وتحت لافتة ملتبسة هي الإرهاب، أي أن عملها يمتد بالضرورة إلي قلب المنطقة ووحداتها السياسية
وتخومها، وتحت سواتر مختلفة، وعندما صدرت عن الإدارة الأمريكية في فبراير من عام 2010 وثيقة المراجعة الدفاعية الرباعية، لاحظ الذين قرءوها أنها خلت من مبدأ الضربات الإجهاضية، واعتبر بعضهم ذلك علامة علي تجاوز إرث استخدام القوة الذي تركته الإدارة الأمريكية السابقة، بينما كانت الوثيقة تتضمن صيغة عسكرية استخبارية جديدة لاستخدام القوة لا من الفضاء ولكن من الأرض، وليس من خارج الحدود الوطنية وإنما من داخلها، في شكل تنظيم تعاون بين المخابرات المركزية والبنتاجون، للقيام بعمليات تشمل جميع بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا بما فيها البلدان الحليفة والصديقة والتي ليست في حالة حرب مع أمريكا، والمدهش أن الأمر التنفيذي لاعتماد هذه الصيغة تم توقيعه قبل صدور الوثيقة ذاتها بشهور، وبالتحديد في 30 سبتمبر 2009 وعندما سأل أحد قيادات المخابرات المركزية عن حجم هذه العمليات، واحتمال حدوث منافسة أو خلافات بين وحدات المخابرات المركزية ووحدات البنتاجون قال، بالحرف الواحد: 'إن هناك من العمل ما يكفي ليوزع علي الجميع'.
ولقد كان جهاز الموساد الإسرائيلي أسبق من ذلك في توسيع مسرح عملياته وأدواته، وأساليبه الميدانية، وقد تم ذلك بالتزامن مع تعيين مائير داجان رئيسا له، والإسرائيليون أنفسهم هم الذين تحدثوا عن الانتقال من علميات القتل الجماعي في الضفة الغربية وقطاع غزة إلي عمليات قتل انتقائي في دول عربية وإقليمية، بل سمح لفرق الموت الإسرائيلية أن تدخل إلي دول صديقة، وحصل عملاء الموساد علي تصريح بقتل من يتم تصنيفه علي انه يشكل خطرًا علي إسرائيل، وقد أنشئت لذلك وحدة إسرائيلية خاصة هي وحدة 'السونكي' التي انبثقت عن وحدة أكبر خاصة بالعمليات السرية للموساد وهي وحدة 'ميتسادا'.
وإذا كان البعض قد صنف السياسة الخارجية لإسرائيل بأنها أحد فروع التخطيط العسكري الاستراتيجي، فإن هذا التصنيف لم يعد قاصرًا علي إسرائيل وحدها.
إن هذا كله يعزز التأكيد علي ثلاث حقائق لابد من وضعها في اعتبار أي تخطيط للسياسة الخارجية:
الأولي: أن انقلابا قد حدث في مبدأ 'كلاوزفيتز' الشهير عن الحرب والسياسة، فلم تعد الحرب امتدادا للسياسة بوسائل أخري كما قال، وإنما أصبحت السياسة امتدادا للحرب بوسائل أخري.
والثانية: أننا نعيش حالة تتداخل فيها العوامل الداخلية والعوامل الخارجية علي نحو غير مسبوق، وبالتالي فإن مفهومي الأمن الداخلي والأمن الخارجي أصبحا مترابطين بشكل فريد.
الثالثة: أن ما تواجهه مصر ويواجهه الإقليم ليس أكثر ولا أقل من صنف جديد من الحروب، نعم إننا نواجه حربًا مضادة بالمعني الشامل لكلمة الحرب، ومن المنطقي أن إدارة الحرب أوسع بكثير من إدارة القتال، ومن المنطقي أيضا أن السياسية الخارجية تدخل في صلب هذه الإدارة.
إن هناك بعد ذلك أسئلة أساسية ذات صلة مباشرة بالموضوع، ولكن الإجابة عليها تبدو غائبة أو غائمة أو ملتبسة، وقد تدخل في حيز التنبؤ السياسي، لا في باب تقدير الموقف، وفي مقدمتها أسئلة تستحق محاولة الإجابة عليها ولو بطرق اقتراب غير مباشرة:
إن هناك – أولًا – سؤالًا عن المدي الزمني المتوقع لعمر هذه الظاهرة التي نواجهها، لكن الإجابة المتاحة علي هذا السؤال أكثر صلة بفلسفة التاريخ، عن صلتها بالعوامل المعقدة القائمة في الواقع.
أحسب أننا نعبر مفصل تحول في تاريخ وأوضاع الإقليم والعالم، لكنه يختلف عن كل مفصل تاريخي سابق عليه، وربما لاحق به، لا من حيث طبيعته واتساعه فحسب، ولكن من حيث سرعته الخاطفة وتحولاته الفريدة، فهو في مقدماته بالغ السرعة، بالغ التحول، بالغ القصر، وكأن إنتاج وإنضاج كل ظاهرة كبيرة في التاريخ يتم بإيقاع عصرها وزمنها، فقد ظهر الإقطاع وعاش كل مراحله بسرعة الخيول، وولدت الرأسمالية ونمت الظاهرة الاستعمارية وانتشرت بسرعة القطار، ثم ولدت الامبريالية واتسعت ظواهرها بسرعة الطائرة النفَّاثة، أما هذه الإمبريالية المأزومة التي تريد أن تحل أزمتها علي حساب غيرها من شعوب العالم، فقد دخلت في طورها الجديد بسرعة هائلة كأنها سرعة دوران الأرض حول نفسها.
لكن ما ينبغي أن نمسك به في ذلك أن سرعة الولادة والانتشار ظلت دالة لسرعة الانهيار والسقوط، فجميع التحولات التاريخية السابقة، كانت فترات ولادتها وانتشارها أطول بكثير من فترات انهيارها وسقوطها، لقد احتاجت أوربا الغربية مع الظاهرة الاستعمارية إلي خمسة قرون لكي تكمل نموها وسيطرتها الكونية، ولكنها لم تستغرق سوي ربع قرن لكي يكتمل انهيارها وسقوطها أي أن معدل سرعة الانهيار كان يعادل أربعة وعشرين مرة معدل سرعة الانتشار، ولذلك فإنني أعتقد أننا أمام ظاهرة تحسب بالسنوات لا بالعقود ولا بالقرون، والحقيقة أن إحساسًا بذلك بات يسري كالكهرباء ليس في كتابات عدد من الباحثين الأمريكيين، وإنما في بعض الدراسات والتقارير الأمريكية ذات الصفة الرسمية، لقد أصدر مجلس الأمن القومي الامريكي، وهو أعلي سلطة سياسية ودفاعية في الولايات المتحدة في الشهر الأخير من العام 2012 أي منذ عام وشهرين تقريبًا، تقريرا تحت عنوان: 'اتجاهات عالمية 2030' لم يستطع أن يتجنب اعترافا علنيا جارحا بأن أمريكا تتقدم فوق منحدر، وعندما اختار السيناريوهات المحتملة للعام 2030 لم يستبعد أكثر السيناريوهات قتامة، وقد انتهي إلي أن تتوقف مسيرة العولمة أو أن تنعزل أمريكا أو يتحقق الأمران معا.
ويبدو لي أنه ليس من قبيل المصادفة أن الحيز الزمني الذي يفترض أن نضع في إطاره تصورنا لمذهب السياسية الخارجية المصرية، الذي يمتد حتي العام 2022، أن العام نفسه يمثل مناسبة مرور مائة عام علي صدور نظرية المفكر الألماني 'أوزوالد سينجلر' عن انهيار الغرب كله وليس أمريكا فحسب.
إنني أرجو في هذا الإطار ذاته، أن أضيف من عندي ما أرجو أن يكون قريبا من روح القانون العلمي، فإذا كانت الامبريالية توصف في بعض الأدبيات السياسية بأنها أعلي مراحل الاستعمار، فإنني أعتقد أن استراتيجية تفكيك الدول القومية هي أعلي مراحل الامبريالية.
وهناك – ثانيا – سؤال – عن توجّه هذه الحرب المضادة ضد مصر وضد الإقليم، وعن المستقبل المنظور للصراع الدولي في ضوء ذلك: هل نحن في مرحلة يغلب عليها احتمال التصعيد، أم احتمال التهدئة؟، وظني أن مظاهر التصعيد ومظاهر التهدئة ستتناوب الصعود فوق المسرح الاقليمي والدولي، ولكن مظاهر التهدئة لن تكون غير ستار لعناصر التصعيد، وسوف تظل استراتيجية تفكيك الدولة القومية وتجريدها من أسباب بقائها سادرة في فعلها، مهما تقنّعت صورها، وتعددت أدواتها، وتنوعت وسائطها، لماذا؟
لأننا نواجه اضطرابا كبيرًا في البيئة الاستراتيجية الدولية في ظل صراع دائم علي الموارد والثروات، وفي وجود أزمة مستحكمة للمشروع الحضاري الغربي، بعض مظاهرها يبدو في وجود أزمة اقتصادية هيكليّة مستحكمة، وهي أزمة تتجمع شظاياها من استمرار الاضطراب المالي في أمريكا، والتباطؤ الاقتصادي في آسيا، وتداعيات أزمة الديون السيادية في أوربا، إضافة إلي الركود الاقتصادي في اليابان، وتصب نتائجها في قنوات العالم أجمع، وبعض مظاهرها الأخري تبدو في فشل القوة العسكرية القاهرة في تحقيق أهدافها، وفي فشل تحويل القوة العسكرية إلي استثمار اقتصادي، بعد أن ثبت أن تكلفة استخدام القوة أكبر بكثير من عوائدها، وبعض نتائجها تستهدف تعطيل المركزين الحضاريين للشرق: العالم العربي حول مصر، في قلب المنطقة الإسلامية، والصين وروسيا في قلب المنطقة الآسيوية، ولهذا فنحن نواجه مركزيا محاولة مستميتة لمنع إنهاء الهيمنة الحصرية للغرب الممتدة منذ القرن التاسع عشر.
لقد كان من بين التوقعات التي أوردتها تلك الدراسة التي سبقت الإشارة إليها تحت عنوان: 'توجهات عالمية 2030' أن يكون عدم الاستقرار المزمن هو السائد في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة تزايد ضعف الدولة القومية، ونمو الطائفية والقبلية والانقسامات الدينية، وكان من بين هذه التوقعات أن تفقد الحكومات والدول التي تنغمس في صراعات داخلية دورها، وأن تترك الساحة الإقليمية للدول غير العربية، وهي تركيا وإيران وإسرائيل، وهو توصيف بحروف التقرير لا يعكس توقّعًا بقدر ما يعكس توجّها يتميز بالثبات.
إذا كان الحديث بعد ذلك مطالب بأن يتوجه مباشرة إلي الدخول في صلب صنع السياسة الخارجية في ضوء ما سبق كله، فإنني أعتقد أن دوري ليس هو تأكيد ما هو مؤكد بالضغط علي المبادئ الرئيسة لمذهب السياسة الخارجية، كالشفافية، والوضوح، ووحدة المعايير، وتأكيد الالتزام بالقانون الدولي والتعاون الدولي وفق مبدأ المساواة والاحترام المتبادل.. إلي غير ذلك.
كما أنني أعتقد أن مدرسة الدبلوماسية المصرية لا تحتاج مني أو من غيري إلي ما يدخل في باب النصح أو الإرشاد، بحكم ما لديها من أرصدة تاريخية، وتقاليد رفيعة، ومعرفة مختبرة، وليس مدهشا أن يكون مبدأ المضاربة بين القوي العظمي، واحدًا من بين الركائز التاريخية التي ابتدعتها هذه المدرسة، فبمقدورنا أن نلاحظ – مثلا – أن علي بك الكبير هو الذي تحالف مع روسيا القيصرية وليس جمال عبد الناصر، لكن ذلك لا يعني أن دمج عناصر جديدة أو زيادة تفعيل عناصر قائمة تتطلبها المتغيرات الإقليمية والدولية في عقيدة السياسة الخارجية هو أمر مطلوب، وهو ليس بدعة ولا تجاوزًا، وفي روسيا علي سبيل المثال، وفي شهر مارس من العام الماضي، طرح الرئيس بوتن نفسه ما أطلق عليه، تغيير مذهب السياسة الخارجية الروسية، محددًا ثلاثة عوامل يتطلبها هذا التغيير، وهي زيادة الضغط الجيوسياسي ضد روسيا من جانب الولايات المتحدة، وما تشهده المنطقة العربية وشمال أفريقيا من تغيرات واضطرابات، وما يشهده العالم من أزمات اقتصادية.
وقد أكون قد أسرفت في ذكر محددات التفكير بجوانبه السياسية والأمنية والاستراتيجية، ولكنني أعتقد أنها بدورها محددات التغيير في الحالة المصرية، وفيما أحسب ترجمة ذلك، أننا نحتاج دون دخول في التفاصيل إلي التأكيد علي العناصر التالية:
أولا: إن المبدأ الأساسي والقانون الأعلي لوظيفة الدولة في هذه المرحلة والذي ينبغي أن يتقدم علي أي مبدأ أو وظيفة أخري، هو حماية الأمن القومي المصري، ولذلك فإنه بدوره يشكل المبدأ الأساسي والقانون الأعلي للسياسة الخارجية المصرية، وهو ما يعني من بين ما يعنيه رفض الضغوط من قبل الخارج أو التدخل في الشئون الداخلية، ومن المؤكد أن الدول ليست كالأفراد، فبمقدور الأفراد أن يغيّروا وظائفهم وأدوارهم كلما تغيرت البيئة المحيطة بهم، لكن الدول لا تملك مثل هذا الترف، فالبيئة تتغير، ولكن الجغرافيا السياسية لا تتغير، ولذلك فإن القواعد الاستراتيجية لحماية الأمن القومي لا تُبني علي المتغيرات، ولكن أساليبها وأدواتها هي التي تقبل الاستبدال والتغيير، وهو استبدال وتغيير يظل مشروطًا بالقدرة علي تمثّل القواعد الاستراتيجية والتعبير عنها، وخدمة أهدافها.
ثانيا: إن مبادئ التخطيط الاستراتيجي في حقل السياسة الخارجية يقتضي الآن وضع خطوط حمراء لعلاقات كل دولة في المحيط الإقليمي والدولي، وهذه الخطوط الحمراء تمثل الموقف الرأسي الذي لا تتحمل عنده المصالح الاستراتيجية الوطنية، الأضرار التي تلحق بها من جراء نتائج الاستراتيجية السياسية لدولة أخري، أيا كانت موقعًا أو وزنا أو تأثيرًا.
لقد انتهي القبول الصامت بالتدخل العسكري لحلف الأطلنطي في ليبيا إلي نتائج وخيمة، يصوّب بعضها نفسه في تهديدات مباشرة لمصر عبر الحدود، بل داخل الحدود، وإذا كان ثمة خط أحمر يمكن أن يكون مثلا في هذا السياق، فهو تكرار مثل هذا المثال من قبل الحلف أو من قبل دولة أخري، باستخدام القوة المسلحة ضد دولة عربية، أيا كان الموقف منها أو طبيعة العلاقة السياسية معها، إن وضع هذه الخطوط الحمراء، ليس عملا تقتضيه بديهيات التخطيط الاستراتيجي، ولكن إيضاحه والكشف عنه جزء أساسي من هذا العمل ومن هذه البديهيات، لأنه يساعد الأطراف كافة علي تقدير حسابات صحيحة، للتكلفة المدفوعة أو المتوقعة من جراء القيام بعمل مضاد علي هذا النحو.
ثالثا: فيما أحسب فإن هناك خمس قضايا رئيسة ينبغي أن تكون مندمجة في صُلب اهتمامات السياسية الخارجية المصرية، وأن تحتل مكانة رفيعة في ترتيب أجندتها، وهي الأمن الإقليمي، والمياه، والطاقة، والغذاء، ونقل التكنولوجيا، وهو أمر يحتاج إلي شرح وتفصيل وتحتاج معه كل قضية منها إلي رسم خطوط محددة للتحرك فوق إحداثيات خريطة السياسية الخارجية المصرية، لكنه تنبغي الإشارة إلي أن هذه القضايا يحتاج التعامل معها إلي نبذ بعض الحساسيات السياسية أو العقائدية، وتجاوز بعض القواعد التقليدية، وللتوضيح وعلي سبيل المثال فقط، فقد قدمت دولة العراق عرضا بمشروع للحكومة السابقة يتضمن مدّ خط لأنابيب البترول من هناك، حتي ميناء العين السخنة، لكي يتم دمجه في خط أنابيب 'سوميد' مرورًا إلي الإسكندرية علي البحر الأبيض، بتكلفه إجمالية قدرها 14 مليار دولار يتحملها الجانب العراقي وحده، لكن النظر إلي المشروع قد تم من زاوية ضيقة، فقد تم ربطه بحاجة إيران إلي فتح خط أنابيب لبترولها بعيدا عن الخليج، دون أن يدرس في إطار استراتيجيات مد أنابيب البترول التي تكاد مساراتها أن تتقاطع في أسيا، وبعضها يسعي جاهدا إلي سحب بترول العراق إلي ميناء جيهان التركي، خاصة أن إيران قد مدّت بالفعل الجزء الأول من خط أنابيبها إلي باكستان 'I.P' والذي سيكتمل إلي الهند 'I.P.I' وإضافة إلي أن مد خط بترول من أية دولة إلي مصر، يعني أن هذه الدولة قد سمحت لأحد أطرافها الإستراتيجية بالوجود تحت سقف السيادة المصرية، وهو أمر من شأنه أن يدخل كعنصر مهم في حسابات العلاقات السياسية من جانبها.
رابعا: ردّ الاعتبار علي كافة أصعدة العمل السياسي والدبلوماسي إلي الفكرة القومية في المنطقة، لقد كان أكثر الأهداف وضوحا في تقارير مؤسسة 'راند' التي استندت إليه الإدارة الأمريكية في ضرب العراق، هو تصفية الفكرة القومية العربية، وخلق هويات جديدة بديلة، لماذا؟، لأن تصفية القومية العربية، حسب دراسة صدرت في التوقيت ذاته لمؤسسة الدراسات السياسية المتقدمة في أمريكا، وحملت عنوانا موحيا هو: 'التعامل مع دول متداعية' سيؤثر بشكل عميق علي كافة موازين القوي في الشرق الأوسط، ولأنها لا تقبل مصالحة مع الغرب ولا مع التحديث، والبديل هو صياغة واستحداث جملة من أشكال الهويات فوق القومية وتحتها ستحدد مصير الشرق الأوسط في المستقبل القريب، ولقد كان الهدف التالي علي ذلك والمترتب عليه، هو تصفية أشكال الدولة القومية ذاتها ودفع التغيير في إطار مستحدث للدولة الطائفية، دخولا في استراتيجية تقسيم الدول واختلاق كيانات سياسية مشوهة بديلة، وقد تعرضت مصر ترتيبا علي ذلك، إلي عملية مركّبة أحاطت بالدور المصري لحبسه داخل حدوده، في شكل معادلة، يقول منطوقها، نزع الطابع القومي عن مصر ونزع الطابع المصري عن الإقليم، ولذلك فالمطلوب تحديدا، هو عملية سياسية مركّبة في الاتجاه الآخر هدفها، تعميق الطابع القومي لمصر، وتعميق الطابع المصري في الإقليم.
خامسا: من المهم في الإطار السابق نفسه أن يحتل الخليج العربي مكانة خاصة في السياسة الإقليمية لمصر، لأنه بات يحتل موقعا خاصا في الاستراتيجيات المضادة للإقليم، ودون شك فإن دول الخليج باتت أكثر إدراكا للخطر، وباتت أكثر يقينا بأن مصيرها الوجودي أشد ما يكون ارتباطا وتلازما مع المصير المصري، استقلالا واستقرارا وقوة، والملاحظ أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة قد عمدت مبكرا، إلي إقصاء مصر كليا عن أي مشروعات تتعلق بأمن الخليج، والعرض الوحيد الذي تلقته مصر في هذا الخصوص كان يحدد دورها في أن تندرج عنصرا في هذه الاستراتيجية الأمريكية ضمن مشروع للدفاع الصاروخي، وقد رفضت مصر في وقتها أن تتحول إلي مجرد مفردة في مشروع غربي، تحت شعار زائف لأمن الخليج، رغم ما تضمنه العرض من إغراءات مالية كبيرة، فقد كان التوجه واضحا نحو ربط المسرح الاستراتيجي للخليج بالمسرح الآسيوي، وفصله عن المسرح الإقليمي العربي، والواضح أن هناك إدراكا خليجيا بأن دول الخليج باتت أقل قدرة علي التأثير في محيطها الإقليمي والاستراتيجي، وأن أمريكا تسعي إلي تفاهمات مع إيران قد يكون جانبا منها علي حساب مصالح الخليج ونفوذ أمريكا في وقت واحد، بل إن هناك انطباعا عميقا بأن معادلة النفط مقابل الأمن قد أوشكت علي التحلل، غير أن الشاهد أن أمن الخليج مرتبط بأمن مصر، وأن جانبا من أمن مصر الحيوي ومن أمن الخليج أيضا، موصول بأمن البحر الأحمر، وبحر العرب، ومضيق هرمز، وأن منطقة الخليج دون شك تقع ضمن إحداثيات الأمن القومي لمصر، ولعل هذا ما يفسر التحرك البريطاني، بعد احتلال نابليون لمصر، فقد كان أحد دوافعه الخوف علي النفوذ البريطاني في الخليج العربي، وقد يكون التأكيد لازما مع ذلك كله، علي أن المطلوب في التوجه المصري نحو الخليج، هو بناء علاقات مؤسسية، وليس مجرد إبرام صفقات، وأنه مع السعي إلي بناء الدور المصري في الخليج، علي قاعدة العلاقات الثنائية مع كل دولة علي حدة، فإن ذلك ينبغي أن يتم وفق رؤية شاملة ومتكاملة لتعميق الدور المصري في منطقة الخليج.
سادسا: أعتقد أن إحدي مهام السياسة الخارجية المصرية العاجلة والمباشرة، أن تزيل هذا التناقض الذي تمت محاولة تكريسه بين العروبة والإسلام، إن الإسلام يخلق وحدة عقيدة وتعاون، لكن العروبة تخلق وحدة مصير، وإذا كان تأسيس مفهوم القومية العربية بمعناه المحدد، قد وجد قوة دفعه في كتابات 'الكواكبي'، الذي اعتبرها طاقة المواجهة الحقيقية أمام الاحتلال العثماني، الذي لم يكن أكثر من استعمار ديني، فقد جاء 'الأفغاني' من بعده، بعد محاولة مستميتة لفصم العروبة عن الإسلام، لينتج قماشا فكريا جديدا، نسج خيوطه من القومية العربية ومن الحضارة والعقيدة الإسلامية، ومع ذلك فقد استعرت خلال السنوات الأخيرة محاولات تفكيك عري السبيكة التي تشكل بنية الهوية القومية العربية وفي قلبها الإسلام الحضاري، بخلق هذا التناقض المفتعل، مما يؤكد أن المحاولة ليست فقط، جزءا، من منهج تفكيك الهوية، وإنما من استراتيجية تفكيك الإقليم.
سابعا: علي مصر أن تستثمر الطاقة الكامنة في موقعها الاستراتيجي، ولكن عليها أيضا أن توظف الطاقة الكامنة في حضورها الحضاري، فالعامل الثقافي علي العكس مما يقول به فقه العولمة قد أصبح أكثر أهمية بحكم تفاعل الحضارات والثقافات، وبحكم بروز الحضارات الإنسانية القديمة كقوة صاعدة في آسيا، سواء كنا نتحدث عن روسيا أو الصين أو الهند أو اليابان، وبحكم أولويات التوجه المصري إلي هناك، إن من الضروري الانتباه إلي دمج البعد الثقافي بفاعلية وقوة في تخطيط السياسة الخارجية المصرية، بعيدا عن السياسية الثقافية الضحلة، كاستخدام دبلوماسية فرق الرقص الشعبي، وما شابهها، فالتعبير الجغرافي المصري هو تعبير حضاري، كما هو تعبير ثقافي، ودون تركيز علي البعد الثقافي في صياغة السياسة الإقليمية والدولية، فإننا لن نستثمر ميزة نسبية خاصة هي تراثنا وتفوقنا ومصادر قوتنا.
إن إسرائيل علي سبيل المثال، التي لا يمكن لأحد أن يري لها دورا ثقافيا أو حضاريا، ولا يمكنها أن تدعي لعلاقاتها التي تدفعها بقوة في عرق أسيا، إن الثقافة حافزها وليست تكنولوجيا السلاح والتجارة قد افتتحت في مدينة شنغهاي الصينية قبل سنوات، خمسة مراكز ثقافية دفعة واحدة، إضافة إلي حصولها علي أكثر من كرسي أكاديمي في الجامعات الصينية لدراسة التاريخ والثقافة العبرية، بينما لا يبدو أي أثر فاعل واضح للثقافة المصرية في جميع أركان الصين، إن الثقافة قد لا تكون مدخلا ضروريا، لصياغة علاقات تجارية أو اقتصادية مع الولايات المتحدة، لكنها مدخل مهم لصياغة العلاقة نفسها مع كافة مراكز القوي الحضارية الصاعدة في آسيا، إن مثل هذا العمل العظيم لا يشكل جانبا من استثمار التاريخ فقط، بل هو تجديد للجغرافيا، وتجويد للموقع، وتصعيد للمكانة، ووضعها في المكان الذي تستحقه حضارة وسبقا وقدرة.
ثامنا: علي السياسة الخارجية المصرية أن تتجاوز قبول المفهوم الدفاعي البحت فيما يتعلق بالهجمات التي تتعرض لها السياسة الداخلية، خاصة ما يدخل في إطار قضايا الديمقراطية و حقوق الإنسان، فأحد أسباب استخدام منصة حقوق الإنسان والاختباء وراء سواترها، هو أن يفرض علي مصر أن تتخذ باستمرار مواقع دفاعية، وقد ثبت أن مثل هذا التصور الدفاعي البحت، سرعان ما يجر علي الدولة المصرية، ضغوطا أكبر ويفتح شهية الخصوم إلي ما يتصورونه، 'كعب أخيل'
المصري، ولذلك فينبغي ألا نقبل من حيث المبدأ وجود قائمة اتهام، حتي لا نفرض علي أنفسنا أن ننحبس مجبرين في مواقف الدفاع.
تاسعا: إن فاعلية السياسة الخارجية لا يمكن أن تصل إلي مداها المرجو، دون توجه إعلامي مخطط ومدروس يعكس وحدة داخلية في قضايا الأمن القومي وفي أولويات الأجندة الوطنية، وبعبر بوضوح عن توافق وطني عام، حول القضايا الرئيسة المتعلقة بالأمن والاستقلال الوطني والوحدة الوطنية والدور الإقليمي، بقدر ما يظهر تعدد الأصوات والاتجاهات حول القضايا الأخري، ولذلك لابد أن تربط مناهج العمل الإعلامي بمفردات الاستراتيجية الوطنية الشاملة بما في ذلك المحاور الرئيسة لمذهب السياسة الخارجية، فليس مقبولا في ظروف حرب مضادة متعددة المنصات، والأدوات أن يصّدر الإعلام الداخلي إلي الخارج صورة لمصر وكأنها شظايا سياسية وفكرية، خاصة علي صعيد القضايا الرئيسة التي تدخل في صميم الأمن القومي.
وحتي لا يبدو ما نقوله وكأنه مضاد للديمقراطية والحق في الإعلام، فإن الإعلام الامريكي قبل بدء الفتح الاستراتيجي لضرب العراق بشهور، قد تم وضعه كله تحت إشراف وحدة تم تأسيسها في البنتاجون أطلق عليها اسم 'وحدة التأثير الاستراتيجي' كان المساعدون المباشرون لرامسفيلد هم الذين يقومون بالإشراف عليها، كما تم إحياء وحدة 'دبليو رندون' لتمد الصحف الأمريكية بالمادة الخام، التي تصوغ منها موضوعاتها، وبينما تولي معهد 'انتربرس' ومؤسسة 'راند' رسم الخرائط الجديدة للشرق الأوسط، كان تنظيم التعاون بينهم جميعا يتم علي أرفع المستويات في مجلس الأمن القومي الأمريكي.
عاشرًا: إنها المرة الأولي في التاريخ الوطني الذي يتعرض فيها الوطن لمواجهة مخاطر مستجدة، وتهديدات بازغة، في سياق تخطيط استراتيجي معاد ومكتمل بطول كل المحاور الاستراتيجية الرئيسة لبوابات مصر الثلاث، في توقيت متزامن سواء أكانت سيناء البوابة الأمامية لمصر والتي تشكل مدخلها الشرقي المفعم بالأخطار، أم كانت البوابة الجانبية في الشمال الغربي عبر الحدود بين مصر وليبيا، أم البوابة الجنوبية عبر الحدود المصرية السودانية، وجميع هذه التهديدات هي تهديدات مخططة ومتنامية ومتسارعة، وهي تشكل أبعادًا استراتيجية واحدة هدفها تطويق مصر والإمساك بأطرافها وبناء جسور مضادة وشحنها وتجهيزها لإحداث ضغوط مضاعفة علي الكيان الوطني، وقواته المسلحة، متزامنا مع دفع القلب إلي مزيد من الاحتقان والانقسام والاحتراب، لخلق حالة تؤهل رؤوس هذه الجسور للتحرك اتساعا وعمقا فوق الاتجاهات الثلاثة، لتقسيم واقتطاع أركان مصر وزواياها القائمة، خاصة إذا تم إيصال حالة الاحتقان والانقسام إلي انفجار وفوضي، ولاشك أن هذا يقتضي التعامل مع دول الجوار علي رؤوس هذا المثلث وفق معايير سياسية خاصة، وفي إطار تصورات محددة، ترتكز علي ما تقتضيه الأوضاع المتغيرة فوق الأرض.
أحد عشر: في النسق العام لتوجه الاستراتيجي، يلزم أن تكون هناك وحدة بين محاوره وأنماطه المختلفة، ولذلك فإن المكان الحقيقي لبناء الاستراتيجية الوطنية بما في ذلك وضع السياسة الخارجية، هو مجلس الأمن القومي باعتباره الأداة المعبرة عن المصالح الوطنية العليا وعن الضمير الوطني أو باعتباره وظيفيًا القنطرة التي تتبوأ مكانها فوق مجري النهر الوطني وعلي رأسه، لتضبط المعادلات والتفاعلات والموازين، ليس بهدف تأمين اللحظة الراهنة، وإنما بهدف تأمين المصير الوطني.
إن الحاجة ماسة لأن يكون مجلس الأمن القومي حاضرا بشكل دائم في مواجهة حرب الاستنزاف التي تواجهها مصر في هذه المرحلة الدقيقة، والا يقتصر دوره علي توقيتات دورية محددة سلفا أو عندما تقتضي ضرورة ملحة الدعوة إلي انعقاده، إن ذلك يقتضي بالضرورة وجود سكرتارية دائمة للمجلس خارج إطار العمل البيروقراطي، تتبع مباشرة رئيس المجلس في رئاسة الجمهورية، في شكل جهاز للتخطيط السياسي، وتكون مهمته أن يتلقي المعلومات والبيانات من كافة الجهات والمصادر، ويعكف علي تنقيتها وتصنيفها وتحليلها، ويبني علي أساسها مقترحات وتصورات لخطوات التعامل والتحرك، ويقوم بحكم وظيفته إضافة إلي ذلك 'بدور' 'جهاز إنذار مبكر' للأزمات، ليبلور سياسة استباقية في مواجهتها، تتجاوز معه الدولة، منهج 'إدارة الأزمة' الذي تجاوزته الظروف والمشكلات والأعباء.
إن هذا العمل من شأنه أن يعزز التوجه المؤسسي للدولة، ويدعم منهج المواجهة الشاملة، غير أنه ينبغي أن يراعي في تكوينه، وجود أفضل العقول ثقافة وقدرة علي الخلق والإبداع، إن أمريكا دولة مؤسسات دون شك، ومع ذلك فإن عقل فرد واحد هو هنري كيسنجر، استطاع رغم وجود كل هذه المؤسسات أن يقلب هزائم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلي انتصارات دامت أربعة عقود.
إننا نعيش أكبر وأخطر وأهم مبارزة استراتيجية في القرن الحادي والعشرين، سوف تمتد آثارها ونتائجها وتفاعلاتها زلزلة عميقة في محيط عقود طويلة مقبلة، وفي مدي جغرافيا واسعة تطول ما وراء التخوم البعيدة، وهي لا تقارن من حيث النوع والدرجة، إلا بتلك المبارزة الاستراتيجية الفاصلة، التي فرضت علي الظاهرة الاستعمارية، أن تعلن عن هزيمتها الكاملة وخروجها الفاجع من التاريخ، وفرضت علي الدول التي شكلتها هبوطا من قمة النظام الدولي، إلي ما يقرب من سفحه، ولقد كانت مصر في المرة الأولي كما في المرة الثانية، هي أرض المبارزة، وسيفها القاطع، كما كان شعبها وجيشها طاقة المواجهة، وإرادة الفعل، إن إدراك ذلك يقتضي الإيمان العميق بصحة تلك المعادلة، المختبرة في التاريخ الإنساني كله، والتي يقول منطوقها إنه في المبارزات الاستراتيجية الكبري لا تتحدد نتيجة المعركة بمقدار ما يضغط به الطرف الأقوي، ولكن نتيجة المعركة تتحدد بمقدار ما يقاوم به الطرف الأضعف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.