المدهش في الحياة ليس الحياة نفسها، إنما هو استمرار الحياة عبر كل هذه الملايين من السنين. المدهش في استمرار الحياة ليس رتابتها وتكرارها، إنما هو قدرة الإنسان المبدع علي إبداع جديد كل يوم إن لم يكن كل ساعة. أحيانا يتساءل الكاتب قبل أن يكتب عم يكتب. يتصور أن كل ما سيكتبه قد تمت كتابته من قبل. مثلما قد يتساءل الرسام أو النحات وغيرهما من المبدعين. تفاجأ بأن هناك كتابة جديدة لم يكتبها أحد من قبل. أو لوحة جديدة لم يرسمها أحد من قبل رغم مرور آلاف السنين علي بداية تعلم الإنسان الكتابة والرسم والنحت وغير ذلك.. هذا هو المدهش في الحياة. إنه قدرة الإنسان علي الإبداع. الإبداع يعني أن تأتي بما هو جديد. أي قدرة الإنسان علي خلق ما هو جديد رغم أن من سبقوه من ملايين البشر قد خلقوا من قبل ملايين الأعمال الجديدة مهما صغرت في الحجم أو كبرت.. هذا علي مستوي الإبداع الفني، لكن الفكرة موجودة علي مستوي الناس العاديين. هم الأغلبية العظمي من بني البشر. فالواحد منهم مثلا عندما يحب يشعر بمشاعره جديدة تماما وكأن أحدا غيره لم يحب من قبل. وعندما يعطي حبيب لحبيبته قبلة يشعر بأنها المرة الأولي التي يقبل فيها ذكر أنثي.. أتحدث هنا عن الإبداع الحقيقي، وليس عن إدعاءاته. الإبداع الحقيقي قليل في كل وقت. يحتاج الي فرز كبير بين الغث وبين الثمين. هذا الفرز ليس في مكنة معظم المطلعين علي هذا الإبداع. إذ أن أغلب ما يلقي علينا به من إنتاج فني لا يرقي إلي مستوي ما أتحدث عنه. لا يدخل في حسابات دهشة الحياة. مع ذلك أجد المتواضعين، أي فقراء الفكر شحيحي الموهبة، يحتفون بما ينتجه المتواضعون منهم بضجيج صاخب ويحصلون به علي جوائز يقدمها بؤساء فقيرو الإحساس أو فاسدون مفسدون لأغراض خاصة. فيشاركون بهمة في انحطاط المجتمع. الإبداع الحقيقي في الوقت نفسه متعة الحياة، يعطيها إحساسا خاصا. يمنح الإنسان أملا في هذه الحياة رغم كل ما فيها من سواد وظلام وحروب وقتل وحقد وكراهية، كلها من صنع البشر، منهم من يبدعون ما نحيا به.. أرأيتم التناقض؟ أتذكر هذه المقدمة كثيرا كلما أعجبني عمل فني جديد. أسبح في تأمل هذه الظاهرة الأبدية الرائعة. يخرجني تأملي من إحباط الواقع ويغسلني من حثالة البشر لأنكر مقولة شائعة أن التاريخ يعيد نفسه. أحدث ما حرك فيّ هذا التأمل رواية قديمة نشرت للمرة الأولي بلغتها الأصلية عام 1952 توفي كاتبها بعد نشرها بثماني سنوات، لكني قرأتها مؤخرا. هي رواية الكاتب الإيطالي »إيتالو كالفينو« اسمها »الفيسكونت المشطور«. سعدت بأن قرأتها في ترجمة مصرية قامت بها أماني فوزي حبشي وراجعها الدكتور محب سعد وأصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2006 ضمن سلسلة بعنوان " الجوائز " بدأها المرحوم الصديق العزيز الدكتور ناصر الأنصاري. لم أتمكن من قراءتها في حينها لأسباب أشرت إليها في مستهل مقالتي السابقة في الأسبوع الماضي. بعدما قرأت عدة صفحات أولي من هذه الرواية فكرت في رميها حيث أضع ما لا أستسيغه من كتب علي رفوف النسيان. فالرواية خرافية تبدو قريبة من روايات الخيال العلمي. ذائقتي لا يتماشي معها هذا النوع من الإبداع. ذلك لا علاقة له بقيمة العمل الفني ذاته. فلكل إنسان ذوق خاص ولا يعني اختلاف الأذواق التقليل من قيمة العمل. لكنني غالبت نفسي وعبرت صفحات أخري لأجدني مستغرقا في القراءة مهتما بمصير الفيسكونت والرغبة في معرفة نهاية روايته. لأشعر عند هذه النهاية بقيمة التجديد في الإبداع التي تثير فيّ عادة ما كتبته في مقدمة هذا المقال. كان الفيسكونت (لقب اجتماعي) الشاب مداردو كبير قريته عندما اشتعلت الحرب. تطوع للمشاركة فيها ملبيا نداء الوطن مسلحا بحصان ودرع فيما ذكرني بشخصية دون كيخوتة الإسباني. ولأنه يمتلك تكوينا إنسانيا نفسيا خاصا يمتلئ بمشاعر الكرامة وعزة النفس وحب الوطن والشجاعة والمروءة ألقي بنفسه أمام فوهة أحد مدافع الأعداء شاهرا سيفه ! فكان أن مزقت قذيفة المدفع جسده. لكنها أبقت علي نصفه الأيمن كاملا فيما نجح الأطباء في إعادة تجميع نصفه الأيسر. عاد الي قصره نصفين لشخصين مختلفين. كل نصف له يمثل نقيضا للنصف الآخر. عاد شريرا وخيرا. الشرير يبث الرعب في نفوس الناس، يقتل ويحرق ويصيب ويدمر.. والخير يحاول أن يصلح ما يفسده الشرير. حتي أفسد الشرير قصره ذاته وطرد من فيه. يقوم صبي صغير ابن أخت الفيسكونت برواية الأحداث ومتابعة تصرفات شطري خاله. يصف بأسلوب بسيط ورائع جولات كل نصف في البراري والقري المجاورة والغابة. ويأخذك وصفه لقرية يعيش فيها مرضي الجذام وتصرفاتهم الإباحية التي لا تخفي دلالتها علي القارئ الأريب. حتي يقع الشرير في الحب. يحب فتاة ترعي بعضا من الحيوانات والطيور. ويقرر أن يتزوجها. تقشعر الفتاة من الخوف.. كيف تتزوج بنصف جسد وشرير؟! لكن أبويها يفرحان ويتفقان مع النصف الشرير علي تزويجه بابنتهما طمعا في ثرائه. تحزن الفتاة وتبكي.. وفي النهاية تساق الي قصر النصف الشرير لتبدأ حياتها معه. النصف الخير يتابع تصرفات النصف الشرير ليصلح منها. ويقع في حب الفتاة ذاتها لتكون هي السبب الذي يوحد النصفين ليعودا الي جسد واحد غير مشطور. أي ليعود الإنسان الي فطرته التي تجمع بين الشر والخير في جسد واحد. طبعا هناك كلام كثير قيل ويمكن قوله عن هذه الرواية. عشرات التحليلات الموضحة لكثير من الإسقاطات كتبت ويمكن أن تكتب عنها من زوايا نقدية مختلفة: سياسية اجتماعية فنية نفسية وغيرها. مثل هذه التحليلات واكتشاف الاسقاطات تكتب علي كل الروايات بما فيها تحليلات الروائي نفسه. المتعة ليست هنا. ما أدهشني وأمتعني في تلك الرواية هي الفكرة الفنية الأساسية التي قامت عليها. وهي فكرة انشطار جسد إنسان الي نصفين بالطول وليس بالعرض. ذلك لأن انشطار الطول يجمع كل أعضاء الجسد في كل نصف. بدءا من نصف الرأس والدماغ ونصف الوجه والصدر والبطن والأعضاء الجنسية مع احتفاظ كل نصف بساق وقدم واحدة. وبالفعل كان كل نصف يسير بساق وعلي قدم واحدة. وبهذا التكوين الغريب جدا صنع الروائي العبقري الذي استمد أهله اسمه الأول من اسم إيطاليا " ايتالو كالفينو " روايته المدهشة. موظفا هذه الفكرة ليسوق من خلالها أفكاره وآراءه ذات البعد الإنساني المرهف والفلسفي الواضح، بلا أية تعقيدات توحي بها كلمة فلسفة. أنت في الرواية أمام بطل واحد مكون من بطلين. ويسحرك بعد ذلك وصف الروائي البسيط والمؤثر للناس والطبيعة في المساحة المكانية التي تجري فيها أحداث الرواية. ضمن إطار هذا الوصف الواقعي الرومانسي المتفاوت، نسيت خرافة »عدم واقعية« انشطار جسد الي نصفين حيين متناقضين. فالمتعة الفنية التي تشعر بها من عمل فني أهم بكثير من كل الأفكار المعروفة والموجودة في أي عمل فني. المؤلف هنا لا يقدم فقط رواية جيدة، وإنما أيضا يعطي درسا في براعة الإبداع الفني. ولابد هنا من إبداء الإعجاب بالترجمة العربية السلسة الموفقة للمترجمة القديرة أماني فوزي. قالت لي وأنا أحدثها عن الرواية أنها تشبه رواية »دكتور جيكل ومستر هايد« المشهورة للكاتب الاسكتلندي روبرت ستيفنسون، فهما يمثلان أيضا الشر والخير. قلت لها أن الدكتور والمستر هما شخصان مختلفان مستقلان عن بعضهما، وفكرة التضاد الإنساني موجودة في أعمال فنية كثيرة علي كل حال. أما الفيسكونت فهو نصفان لشخص واحد. وهذا هو الخيال الجديد الذي أبدعه كالفينو لينسج منه عالم الفيسكونت المشطور الذي امتعني كثيرا. وهذا ما قصدته من أن الحياة لا تتوقف عن الإبداع الجديد والمدهش. والذي يشعرنا حقا بميزة الحياة وبفضل أننا أحياء.