عميد طب قصر العيني يتفقد امتحانات البكالوريوس بالكلية (صور)    مدبولي: زخم غير مسبوق في المشروعات القومية، والجمهورية الجديدة تتحول إلى واقع ملموس    التضامن تطلق أول منظومة متكاملة لتسجيل أبناء مؤسسات الرعاية    أوقاف شمال سيناء تحذر من "حرمة التعدي على الجار" فى ندوة تثقيفية    753 فرصة عمل فى مجال الأمن بمرتبات تصل ل9500 جنيه.. التفاصيل    أزمة مياه أم ضعف كفاءة الصرف الزراعي؟!    سعر الجنيه الاسترلينى يواصل التراجع بمنتصف تعاملات اليوم الخميس    يضيف 3 آلاف برميل يوميًا ويقلل الاستيراد.. كشف بترولي جديد بخليج السويس    البنك القومي للجينات يستقبل وفد صيني لتعزيز التعاون البحثي    محافظ القليوبية يُهدى ماكينات خياطة ل15 متدربة من أوائل خريجات دورات مهنة الخياطة    وزير الأوقاف ومفتي الجمهورية يعزيان وزير التموين في وفاة والدته    وزير الأوقاف ينعى والدة وزير التموين والتجارة الداخلية    ترحيب سودانى بالجهود الأمريكية لإحلال السلام العادل والمنصف فى السودان    ولي عهد السعودية يشكر ترامب ويؤكد على متانة العلاقات مع أمريكا    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    نادي جديد يدخل حلبة سباق ضم رودريجو    اتحاد الكرة يوضح إجراءات شراء الجماهير لتذاكر مباريات كأس العالم FIFA 2026    كونسيساو في مهمة جديدة مع الاتحاد.. والنصر يطارد الانتصار التاسع أمام الخليج    طارق السيد: ما يتعرض له حسام حسن يشبه أجواء المنتخب مع «المعلم»    السجن 3 سنوات لسائق توك توك بتهمة قتل طفل بالخطأ في الشرابية    وزارة التضامن تحسم إجراء القرعة الإلكترونية لاختيار حجاج الجمعيات فى هذا الموعد    تفاصيل صادمة في واقعة تشويه وجه عروس مصر القديمة.. المتهمة أصابتها ب 41 غرزة وعاهة مستديمة.. وهذا سبب الجريمة    اكتشاف 225 تمثالا من الأوشابتي للملك شوشنق الثالث بمنطقة صان الحجر الأثرية    بالصور.. احتفاء كبير برواية شغف ومشروع رشا عدلي الروائي في ندوة دار الشروق بوسط البلد    كشف أثري بالشرقية.. 225 تمثالا من الأوشابتي الخاصة بالملك شوشنق الثالث    عرض عربي أول ناجح لفيلم اغتراب بمهرجان القاهرة السينمائي    حكم صلاة الجنازة والقيام بالدفن فى أوقات الكراهة.. دار الإفتاء توضح    رئيس أزهر سوهاج يتفقد فعاليات التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    أمين الفتوى يوضح حكم غرامات التأخير على الأقساط بين الجواز والتحريم    أكلة الترند، طريقة عمل دونر الكباب في المنزل على الطريقة التركية    «التعليم العالي»: صدور قرارات جمهورية بتعيين قيادات جامعية جديدة    انطلاق مباريات الجولة ال 13 من دوري المحترفين.. اليوم    تقارير: تعديل مفاجئ في حكم مباراة الأهلي والجيش الملكي    ضبط (139) ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    تأثير الطقس البارد على الصحة النفسية وكيفية التكيف مع الشتاء    استشاري صحة نفسية توضح سبب ارتفاع معدلات الطلاق    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    التخطيط تبحث تفعيل مذكرة التفاهم مع وزارة التنمية المستدامة البحرينية    إندونيسيا: إجلاء أكثر من 900 متسلق عالق بعد ثوران بركان سيميرو    عاجل - اتجاهات السياسة النقدية في مصر.. بانتظار قرار فائدة حاسم ل "المركزي" في ظل ضغوط التضخم    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    وكيل صحة الأقصر يتفقد التطعيمات ورعاية صحة التلاميذ والطلبة بمدارس مدينة الطود.. صور    وزارة «التضامن» تقر قيد جمعيتين في محافظة الغربية    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    "الشباب والرياضة" تدشن "تلعب كورة" لاكتشاف 2000 موهبة في دمياط    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا..... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    «السماوي يتوهج في القارة السمراء».. رابطة الأندية تحتفل بجوائز بيراميدز    سعر الريال السعودى مقابل الجنيه اليوم الخميس 20-11-2025    محمد صبحى يكشف أسباب التوسع الدولى لجامعات مصر وزيادة الطلاب الوافدين    وزير الصحة يوجه بتشكيل لجنة للإعداد المبكر للنسخة الرابعة من المؤتمر العالمي للسكان    نصائح هامة لرفع مناعة الأطفال ومجابهة نزلات البرد    سعر الدولار اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    حبس 3 متهمين بحوزتهم 11 كيلو حشيش فى سوهاج    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمير تاج السر وصائد اليرقات
نشر في الشروق الجديد يوم 03 - 12 - 2010

لاشك فى أن الأدب السودانى مظلوم فى الساحة الأدبية والثقافية العربية، ولايحظى بما يستحقه من متابعة واهتمام وتحليل.
فقد استنامت تلك الساحة لعقود لدعة أن الاعتراف بقيمة الطيب صالح الكبيرة يغنيها عن التعرف على أى إنتاج آخر لهذا البلد العربى الكبير. لذلك سعدت كثيرا باختيار رواية (صائد اليرقات) للكاتب السودانى المرموق أمير تاج السر ضمن القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية هذا العام، برغم تحفظاتى الكثيرة على تلك الجائزة.
فهذه هى المرة الأولى التى تختار فيها الجائزة رواية سودانية، بالرغم من صدور الكثير من الروايات السودانية المدهشة فى الأعوام الأخيرة. أذكر منها على سبيل المثال (سن الغزال) لصلاح حسن أحمد، و(أحوال المحارب القديم) للحسن بكرى، و(توترات القبطى) فى العام الماضى لأمير تاج السر نفسه.
و(صائد اليرقات) هى الرواية العاشرة لأمير تاج السر، وحينما أقول الرواية العاشرة، فإن من الواضح أننا نتحدث عن مسيرة أدبية طويلة وجادة بدأت منذ أكثر من عشرين عاما حينما أصدر روايته الأولى (كرمكول) عام 1988 وتواصلت حتى اليوم، بهذه الرواية العاشرة. وكان أمير قد نشر قبلها روايتين أتيح لى أن أقرأهما مؤخرا هما (توترات القبطى) 2009 و(العطر الفرنسى) 2010.
وهما روايتان مهمتان بكل المعايير، لا من حيث الموضوع الذى تتناوله كل منهما فحسب، ولكل رواية، كما عودنا أمير فى أعماله الأخرى، عالمها ومناخاتها المتفردة، ولكن أيضا من حيث نجاح الكاتب فى اكتشاف بنية سردية ملائمة لكل موضوع، ومغايرة لتلك التى انتهجها فى الرواية الأخرى.
والواقع أننى اعتبر روايته (توترات القبطى)، ومن قبلها روايته المدهشة (مهر الصياح) من أهم الروايات العربية فى السنوات الأخيرة من حيث إنهما كانتا تنبيها للواقع الأدبى إلى ما تموج به الساحة الإبداعية السودانية من مواهب، وإنتاج جدير بالتوقف عنده والاهتمام به، وإلى أهمية هذا الكاتب السودانى والأدب السودانى من ورائه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن من الضرورى أن يهتم الواقع العربى الأوسع بهذه الرواية وأن تلتفت إليها الأنظار، لأن أمير تاج السر استطاع فى (توترات القبطى) أن يدق نواقيس الخطر، وأن يحيلها إلى استعارة شفيفة للواقع العربى برمته، بل للمشهد الإنسانى الأوسع. فنحن هنا بإزاء رواية تكتب لنا من خلال توترات هذا القبطى السودانى، جينيولوجيا الخراب فى اللحظة الحضارية المعاصرة التى يعيشها عالمنا العربى أمام زحف الخراب الحثيث على كل ما كان به من آثار تحضر ومدنية قديمة.
رواية استطاعت أن تحيل مدينة «السور»، إلى أمثولة روائية لما يمكن أن تتعرض له أى مدينة عربية حينما ينفذ فيها حكم «الشرع»، كما تفهمه جحافل الجهلة من أتباع هذا المتقى السودانى، أو أى متقٍ آخر، والممسوسين بلوثة الشبق إلى الحوريات المستحيلات اللواتى يوعد بهن المتّقون، بعدما انسدت فى وجوههم كل سبل التحقق فى حياة كريمة فى هذا الزمن الردىء.
وإذا كانت (توترات القبطى) قد كتبت مآسى امتلاك الحقيقة المطلقة وآثارها التدميرية على الإنسان والواقع، كما كتبت (مهر الصياح) مآسى الأفق المسدود والحكم الاستبدادى المطلق، فإن روايته التالية (العطر الفرنسى) تكتب لنا غواية الغرب المدوخة وتأثيراتها المرضية على واقع عربى يعانى من الفقر والقهر والاستبداد والفساد.
وهى معاناة تدفع شخوصه إلى التشبث بأى سراب يلوح له. حيث تقدم لنا من خلال بطلها على جرجار تشبث الإنسان العربى بأى أمل فى الخلاص من واقعه الكريه، حتى ولو كان هذا الأمل محض سراب بلقع لا يشى بأى شىء. وتكشف لنا عن آليات سيره منوما إلى حتفه وهو يسعى بهذا السير إلى الخلاص من آليات الأفق المسدود الخانقة. وتكشف لنا طبيعة هذا السحر الغامض الذى يمتلكه الغرب وقدرته على استلاب البطل وتدميره من الداخل بشكل تدريجى يدفع به إلى الجنون.
وها هى روايته الجديدة (صائد اليرقات) تنبهنا إلى خطر آخر من الأخطار المحدقة بعالمنا العربى، ولكن بشكل أكثر مراوغة ومكرا. فبالإضافة إلى خطر امتلاك الحقيقة المطلقة وما جره على الواقع من خراب فى (توترات القبطى) أو وهم الاستحواذ على الغرب والوقوع فى سحر غوايته فى (العطر الفرنسى) ها هى الرواية الجديدة تنبهنا هذه المرة إلى خطر آخر من الأخطار التى تحدق بعالمنا العربى، وتساهم فى تدهوره وترديه، ألا وهو الخطر الأمنى الذى أصبح أداة المؤسسة العربية التى تفتقد للمصداقية والشرعية معا إلى إحكام قبضتها على الواقع، والإجهاز على عقله النقدى والإبداعى على السواء. فالأمن عندنا لا يهتم بحراسة البلاد أو حمايتها من مؤامرات الأعداء، بقدر ما يهتم بمراقبة عقلها الإبداعى والنقدى حتى يخرسه، ويبقى البلد جسدا مستباحا بلا عقل يحميه. لكن دعنا نتعرف أولا، وبقدر من التفصيل على ما يدور فى هذه الرواية.
ولنبدأ بما يسميه إخواننا المغاربة بعتبات النص، وهو من المصطلحات الشهيرة لجيرار جينيت، أحد أهم منظرى السرد الكبار. فعتبة النص الأولى هى العنوان (صائد اليرقات) وهو عنوان تناقضى يفتح الباب بداءة للتناقض كمدخل للقراءة. فالصائد عادة يصطاد الفراشات، وليس اليرقات التى لم تتشرنق بعد، ولم تخرج من شرنقاتها الفراشات. لذلك يثير العنوان القارئ بغرابته، كيف ولماذا يصيد اليرقات؟. وهى غرابة سرعان ما تتبدد حينما نعرف أن البطل رجل أمن عليه أن يقتنص الفراشات وهى يرقات لم تتشرنق بعد، وأن يجهز على الزهور قبل أن تتبرعم أو تتفتح للحياة.
تبدأ الرواية بسرد بطلها التناقضى الذى يحسب أنه الراوى المسيطر بثقة رجل الأمن القديم على عالمه، فنكتشف أنه تحول إلى الموضوع... موضوع السرد، وليس سارده. هذه الإشكالية التناقضية التى تسرى فى الرواية كلها هى التى تغنيها بالدلالات وتعدد مستويات القراءة والتأويل. حيث تبدأ الرواية بهذا الراوى المسيطر على روايته وهو يرويها بضمير المتكلم، ويقول لنا بثقة: «أنا عبدالله حرفش، أو عبدالله فرفار». لنجد أننا بإزاء راو يحمل، على عكس الكثير من الأبطال الروائيين، اسمين لا اسما واحدا كبقية خلق الله. بل إذا أضفنا الأنا للاسمين، سنجد أنه يكرر ذاته توكيديا ثلاث مرات لا مرة واحدة.
وهو تكرار يكرس بطريقة الرواية التناقضية لا الإثبات وإنما المحو، عملية المحو التى تتحكم جدلياتها المراوغة فى مستوى من مستويات السرد المهمة، والتى توشك فى عمق الرواية أن تكون هى المهمة الأساسية لجهاز الأمن العربى فى كل مكان: محو هوية المواطن والزراية بكينونته. فالرواية تنطلق أساسا من عملية محو، حينما قررت إدارة الأمن إلغاء عبدالله حرفش وإحالته للتقاعد بعد أن فقد ساقة فى عملية أمنية مضحكة. فأراد أن يقاوم هذا المحو بالإثبات.
وهو إثبات تناقضى بامتياز، لأنه حينما يريد أن يثبت ذاته التى ألغتها المؤسسة الأمنية التى أمضى عمره فى خدمتها، يقرر كتابة رواية، وهو أمر يستغربه هو من نفسه قبل أن يستغربه الآخرون. فهو ليس من قراء الرواية، وكل علاقته بالثقافة هو أنه قد راقب بعض المثقفين وهم يترددون على المكتبات لشراء الكتب، أو سجل فى تقاريره بعض ما يتناولونه فى المقاهى من شئونهم وشئون الوطن.
لكن ما جعله يستسهل هذا العمل، أو يتصور على الأقل أن بمقدوره القيام به، هو أنه قرأ فى الصحف عن بائع ورد بنغالى فى مدينة نيس الفرنسية كتب رواية عن امرأة أفريقية ظلت تتردد على محله عشرين عاما تشترى ورودا حمراء. وتخيل أنها تبعث تلك الورود إلى حبيب ضائع فى حرب أفريقية بشعة، فنجحت الرواية وتسلقت قائمة أكثر الكتب مبيعا. كما قرأ عن بائعة هوى تائبة فى سايجون، كتبت روايتين رائعتين عن حياتها القديمة تترجمان الآن إلى كل اللغات، وينبهر بهما القراء.
إذن يستطيع عبدالله حرفش/ عبدالله فرفار بناء على تلك المقدمات الواهية كمقدمات أى رجل أمنى، أن يكتب رواية. ويبدأ عبدالله حرفش رحلة البحث عن روايته كى يكتبها. والرواية فى مستوى من مستويات المعنى فيها هى رواية هذا البحث الذى يكتشف فيه عبدالله فرفار أنه ليس باستطاعة عبدالله حرفش أن يكتب رواية بحق. فكل ما يستطيع كتابته هو تلك التقارير الأمنية التى أنفق حياته فى كتابتها، قبل الحادث. وسط هذه الحالة الجديدة التى وجد عبدالله فرفار نفسه فيها تبدأ رحلته، ويبدأ بحثه.
وقد علمنا فريدالدين العطار فى (منطق الطير) أن الرحلة ذاتها هى المهمة، وليست غايتها، بالرغم من أن كل رحلة تبدو على السطح وكأنها لا تهتم إلا بغايتها. ورحلة عبدالله فرفار ليست استثناء فى هذا المجال بأى حال من الأحوال. فهى رحلة شيقة بحق، ملأها أمير تاج السر بالمفاجآت الشيقة والرؤى ذات الدلالات الثرية والمتعددة، لا أريد أن افسدها على القارئ بتلخيص ما جرى فيها، وإنما أدعوه لقراءة هذه الرواية الثرية الممتعة والمثيرة للعقل والتفكير معا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.