تعمل الحيلة حين تنقص القوة؛ فالأسد لا يلجأ إلي الحيلة مثل غيره من حيوانات الغابة. هكذا يستنتج الناقد العربي الأبهي عبدالفتاح كيليطو من خلال قراءته لكتاب "كليلة ودمنة" الذي يعرفه الصغار قبل الكبار. ولا يكتفي كيليطو بملاحظاته التي يستخرجها من كتاب يضع الحكمة علي ألسنة الحيوانات؛ فيذهب إلي "ألف ليلة وليلة" ويستخرج منها عبرة جديدة مدهشة، إذ يلاحظ أن الخليفة في ألف ليلة لا يحكي حكاية إلا إذا كان خليفة مخلوعًا! لا حاجة للأسد إلي اللف والدوران إلا إذا هدده أسد آخر من بني جنسه أو أصابه الهرم، لكن كيليطو يتساءل: لكن في هذه الحال، هل يظل الأسد أسدًا؟! إذا انتقلنا من غابة الحيوان إلي غابة البشر، هل تظل القاعدة سارية؟ نعم؛ فالخليفة الثابت علي سرير الحكم لا يحتاج إلي الحيلة؛ لأنه بوسعه أن يرفع كفه ويسدد صفعة. وقد كان ملوك الغابة في السابق يصفعون؛ صدام حسين يحرق حلابجة بالنابالم من دون أن يرف له رمش، الأسد الأب سوي حماة بالأرض، لكن الأسد الأب (وكان مسنًا) كان أقوي من ابنه الشاب، لأن العمر هنا يقاس بعمر النظام لا عمر الشخص. طعن نظام الأسد في السن وأصابته الشيخوخة والهرم بينما لم يكمل رئيسه الخمسين، مثلما شاخ نظام مبارك، ولو كتب لابنه جمال تسلم السلطة فقد كان سيتسلم سلطة هرمة وطاعنة في العفن، وكان سيصبح هو المخلوع بدلاً من والده، لو أن القدر استبق وخلع مبارك من الدنيا قبل أن يخلعه الغضب الشعبي. والمتأمل لسير الثورات العربية وما قبلها سيكتشف أن الأنظمة أدركت شيخوختها قبل أن تنتبه الرعية الكارهة، لذلك بدأت الديكتاتوريات معًا في إعمال الحيلة منذ وقت مبكر جدًا. حيلة واحدة تقريبًا. عشنا زمنًا طويلاً في لعبة المثقف والأصولي، الشيوعي والإخواني، والمسلم والقبطي، مشجعًا فكرة نفي قوة للقوة الأخري بدلاً من فكرة التعايش. وعندما لا يجد الأسد المريض أصوليًا يغتال كاتبًا أو سلفيًا يغتال قبطيًا يكلف أجهزته بالمهمة لتلصق بالخصم المحتمل. وهؤلاء الذين يقتلون الثوار من بلطجية، بلاطجة وشبيحة (في كل لهجات العرب) رباهم النظام في سنوات طويلة واستخدمهم قبل الثورات من غير حاجة إلي تسميتهم لأن الحيلة كانت سرية. وعندما أصبح الموت في ميادين الحرية كان لابد من تسميتهم فادعي الأسد العجوز في اليمن وليبيا أنهم تنظيم القاعدة، ويدعي الأسد الشاب العجوز في سورية أن ما يهجم علي الثوار والأمن هي "العصابات المسلحة" وهنا، حيث متعة الخيال المفتوح سنجد أن من يقتل الثوار في جريمة إثر أخري هو "الطرف الثالث"! الراوي في مصر أكثر احترافًا، لأن الغموض نصف متعة الحكاية. أي طرف ثالث وأي لهو خفي، من أي قاع بحر خرج القمقم، ومن الذي لعب بالغطاء وفتح للعفريت، وهل يستطيع أن يحلف عليه بالاسم الأعظم لكي يحبسه مجددًا في القمقم مثلما فعل الصياد في ألف ليلة وليلة؟ كل هذا الغموض قد يكون مثيرًا للفضول ومشوقًا كما في ألف ليلة وكليلة ودمنة والأفلام البوليسية. وقد يتصور الأسد العجوز نفسه بارعًا في استدراج الجمهور إلي سماع وجهة نظره من خلال هذا القدر من التشويق. لكنه بهذا يخطيء مثلما أخطأ من قبله الأسد الشاب؛ فالبشر في الأوطان غير الحيوانات في غابة أو في كتاب قصص. البشر لا ينسون ويحملون ثأرهم في قلوبهم، لذلك كانت حلابجة مسمارًا في نعش صدام وكانت حماة مسمارًا في نعش الأسد، وكانت حيلة تأليب الطوائف والفئات علي بعضها البعض مسمارًا في نعش النظام العربي الذي انتهي زمنه ويتعرض للكنس وسوف ينكنس زادت التضحيات أو قلت. آخر ما في جراب الحاوي هو تصنيع الفوضي والتهديد بالمزيد منها إذا رحل. ولا شيء بعد رحيل الأسود العجوزة إلا الاستقرار وسعادة البشر فلا تصدقوهم. "أنا أو الفوضي" عبارة كالحكم المبرم انطلقت من تونس علي لسان زين العابدين، أخفهم قلبًا وأقلهم صفاقة، حيث مضي سريعًا بأقل قدر من المقاومة حتي الآن، لكن مقولته شَرقت إلي مصر، ثم غّربت مجددًا إلي ليبيا، ثم شرّقت إلي اليمن وسورية، ولم تكن الكلمة نبوءة عراف بل تهديد أسد عجوز متهالك يمتلك من الحيلة والأتباع ما يضمن له استمرار التحايل، واستمرار إسالة دماء من رفضوه. كان زين العابدين أقرب إلي الأسود الشابة منه إلي الأسود الطاعنة في السن، أي كان يستخدم القوة أكثر مما يستخدم الحيلة. لم يفسد التعليم كما أفسده مبارك ولم يلوث ذلك العدد من الأرواح الذي لوثه، لذلك تتعافي تونس بأسرع مما تتعافي مصر. لكننا سنتعافي علي أية حال؛ فالحيلة التي يراها كيليطو سلاح الضعيف يمكننا أن نلاحظ أيضًا أنها السلاح الأخير في الوقت ما بعد الإضافي. سقط الصف الأول من الطغاة، وبقيت الجذور تروع البلاد وتعيد الأوضاع إلي نقطة الصفر. وسوف ينتهي كل هذا؛ فالأسد العجوز في كليلة ودمنة والسلطان المخلوع في ألف ليلة يحكي الحكايات العجائبية ويصدر البيانات لكي يثبت وجهة نظر أو يقنع الآخرين بسداد فعل، لكنه لا يدري أن ذلك يتطلب مستمعين من السذج راغبين في الإصغاء.